صحيفة المثقف

جدلية ثنائية الوجود والماهية

علي محمد اليوسفتعريف اولي: كنت في مقالة سابقة بعنوان (هوسرل ومثالية ادراك الوجود) ناقشت سريعا كوجيتو ديكارت (انا افكر اذن انا موجود) وتعالقه المتداخل بالوحود والعقل والفكر، بين الذات والموضوع. الذي كان سبق للفيلسوف الالماني الظاهراتي هوسرل، اعتباره كوجيتو ديكارت ينحصر في (وعي الذات) كوجود في ذاته، لذا طرح مقولته التصحيجية (انا افكر بشيء ما اذن انا موجود)، وتبعه عالم النفس والفيلسوف الفرنسي البنيوي جان لاكان قائلا (انا افكر حيث لا اوجد، واوجد حيث لا افكر)، ليتبعهم ميلان كونديرا (انا اتألم اذن انا موجود)، وكنت اقرأ في كتاب استاذ الفلسفة المصري حبيب الشاروني (فلسفة جون بول سارتر)، وجدت ان هنالك تعالقات هامة متفرعة عن الكوجيتو الديكارتي، ليس فقط في مسالة ثنائية الوجود والماهية واسبقية احداهما على الاخرى، بل وجدت هناك تداخلا فلسفيا هاما مع الجدل او الديالكتيك، وفي الاشكالية الرباعية الموزعة في الوجود والماهية والعدم والجدل، وجدت الاختلافات العميقة بين كل من كيركجارد، وهيجل، وكانط، وهيدجر، وصولا الى الماركسية في صياغتها ديالكتيك القوانين الطبيعية الثلاث، قانون وحدة وصراع الاضداد، وقانون تحول الكم الى كيف (نوع)، وقانون نفي النفي. كما وجدت ان مفهوم (العدم) الوجودي، هو الاخر الى جانب الجدل الديالكتيكي، يتعالقان مع ثنائية الوجود والماهية، ولا اجد مهما اطلت في هذا التمهيد انه يقول كل شيء عن الموضوع قبل مطالعته كاملا بهذه الورقة.

جدل الوجود والماهية

ان ديالكتيك او جدل الوجود والماهية، ليس في وارد هذه المقالة ارجاعه الى اصوله الفلسفية الاولى التي جاءت عند هيراقليطس وبروتوغوراس، وزينون مرورا بالمراحل التاريخية الفلسفية التي قطعها كمبحث هام، حتى تبلورت صيغته المتداولة المعروفة واستقرت لدى ماركس في قوانين الديالكتيك الطبيعية الثلاثة التي ذكرناها.

نبدأ بما يهمنا في هذه المقال تعالق الوجود والماهية في الفلسفة الوجودية عند ابرز فلاسفتها سورين كيركارد، وكيف انبثق الجدل (الديالكتيك) كمفهوم فلسفي متداخل مع هذه العلاقة الثنائية، بين الماهية والوجود عند هيجل في تفسير ترابطهما الوجودي الفلسفي وتداخلهما في علاقة الجدل بهما.

اعتبر اقطاب الوجودية الملحدة لدى ابرز فلاسفتها فيورباخ، هيدجر، سارتر، اندريه جيد، كامو، بيكيت، سيمون دي بوفوار، كاسبرز، ان الوجود سابق على الماهيية في الانسان والطبيعة وكل الظواهر التي يدركها العقل حسيا وذهنيا او حتى التي لا يدركها او لا يستطيع ادراكها ميتافيزيقيا.

بينما ذهبت الوجودية المؤمنة لدى اقطابها الفلاسفة سورين كيركارد، مارسيل جبريل، تيليش، والقس الفيلسوف باسكال، بيركلي، ليبينتز، الذين اعتبروا الماهية تسبق الوجود، معللين رأيهم ان ماهية الله الخالق تسبق وجوده، وهنا بدأ التشّظي بالرأي فمنهم من ذهب الى ان الخالق بلا ماهية يمكننا معرفتها او ادراكها، اوالماهية في الخالق وجود بذاته فقط لا يفصح عن صفاته الجوهرية او الظاهرية، وذهب اخرون ان الماهية هي (الوجود) في الانسان وفي الطبيعة والكون ايضا، ولا تفريق حقيقي بين الاثنين(الوجود والماهية) في تداخلهما في الوجود الواحد.وبعضهم الأخر قال ان ماهية ووجود الخالق تتداخل معلنة عن افصاحاتها بوحدة الصفات الالهية بخلاف جميع الموجودات في الطبيعة والانسان فهذه يكون وجودها وماهيتها شيء آخر وافصاحاتها في ادراك صفاتها الظاهرية او الجوهرية. فصفات الله التي نستمد ادراكها الايماني من صفات الطبيعة وصفات الاسمى التخييلي المثالي المتعالي المقدس وصفاته ايضا في ما نجده بالحياة والانسان، هي صفات تأكيد وجود الله المتداخل في ماهيته الميتافيزيقية وربما في احتمال ان يكون الوجود الالهي متمايزا في ماهية مستقلة بذاتها لا يمكن معرفتها او ادراكها كما هوالحال في عدم ادراك وجوده كينونة ماهوية مكتفية بذاتها، لكن الاهم من كل ذلك هو في عدم القدرة الانسانية على ادراكهما او معرفتهما (الماهية والوجود) الالهي. لا عقليا ولا روحيا مدركا متعينا لا في وجود الخالق ولا في معرفة ماهيته.

وبقيت هذه الاشكالية الفلسفية حول ماهية ووجود الخالق متداولة بين اصحاب الطرق والمذاهب الصوفية في اختلافاتهم العميقة، لما ترتبط به هذه الاشكالية في تفسيرهم مذهب (وحدة الوجود) الذي هو مرتكز الفهم التصوفي الايماني. علما ان (ماهية) الله هي كمثل وجوده يصعب على فلاسفة التديّن اثباتها، ولا على فلاسفة الالحاد نفيها او اثباتها ايضا ولا عند الصوفية قاطبة، هذا في حال تسليمنا الفلسفي ان للخالق وجودا مغايرا لماهيته او متداخلة معه في وحدة لا يمكننا تجزئتها.

كما تذهب الوجودية الملحدة في اختلافاتها داخل فهم فلاسفتها انفسهم لها، فمثلا نجد هيدجر لا يتعارض مع سارترفي فهمه الماهية عند الانسان، ويلتقي معه في مثلا (انه في حالة عدم وجود (اله) خالق، فلابد ان يكون هناك كائنا واحدا على الاقل، وجوده سابق على ماهيته هو الانسان، الذي لا نستطيع تعريفه باي فكرة، لكنه هو الكائن الذي يوجد قبل كل شيء وانه يلتقي ذاته ويبرز للعالم ثم تتم معرفته (1).

سارتر وهيدجر والثنائية الوجودية:

رفض سارتر النزعة الايمانية الوجودية في تحديد علاقة الماهية بالوجود التي يعتمدها الفلاسفة غير الالحاديين، وهو نفس المفهوم في لاهوت معظم الديانات التي منها الاديان التوحيدية السماوية الثلاث الموزعة في عالمنا اليوم. في اعتبار الاديان الابراهيمية الثلاث وفلاسفتها ان الله هو ماهية تسبق وجوده، وطرح سارتر البديل الالحادي في نقل الخلاف من الالهي السماوي الى صعيد الوجود الانساني الارضي، بدلا عن هذا الطرح الايماني الميتافيزيقي اللاهوتي، مؤكدا انه لا وجود لكائن ارضي يسبق وجوده ماهيته سوى الانسان. وان وجود الانسان هو ماهيته، وفي نفس المنحى ذهب هيدجر مؤكدا مركزية الوجود الانساني، وان الانسان هو ماهيته، وبذلك تملّص من الزام سارتر قوله الوجود يسبق الماهية الانسانية .مؤكدا – هيدجر – بانه لا وجود يسبق ماهية الانسان، وانما لدينا وجود واحد فقط هو الانسان الذي تتداخل فيه الماهوية والوجود في تناوب افصاحي متداخل، ولا اسبقية ولا افضلية احداهما(الوجود او الماهية) على الاخرى .ومن الجدير بالذكر كما المحنا له سابقا، ان انكار ماهية الخالق او الاقرار بها كما هي في وجوده او عدمه لا اهمية فلسفية كبرى يترتب على نتائجها شيئا حتى على صعيد الفلسفة، فكلا الرأيين ميتافيزيقيين عاجزين عن اثباتهما (الوجود والماهية) ومعرفتهما لا عند الوجوديين الملحدين ولا عند الوجوديين المؤمنون. وان المفهوم هو محض جدل فلسفي ميتافيزيقي لا يرتّب عليه شيئا لا معرفيا فلسفيا، ولا ايمانيا دينيا عقليا. واعتبره الفلاسفة من مباحث الميتافيزيقا التي لاطائل منها ولا تقود الى نتائج يمكن الركون لها او التسليم بها.

حين يؤكد هيدجر ان الانسان ماهية متداخلة بوجوده ولا افضلية او اسبقية بينهما، فانه بذلك وعوضا عن هذه الاشكالية يقول ان الانسان يختلف عن باقي الموجودات في انه يمتلك (ماهية ديناميكية)، وفي هذا الرد الفلسفي الذكي يدحض المستمسكين بان لله ماهية ثابتة مستقلة بذاتها، كونها ماهية لا يمكن ادراكها او التحقق منها من جهة، وهي ثابتة ساكنة مكتفية كوجود بذاته لنفسه ان وجدت عند غير الانسان من جهة اخرى، ماهية بذاتها ولذاتها فقط، ولا علاقة للانسان بها لا في الادراك الواقعي ولا الخيالي او الايماني بها، ولا بوجودها بالطبيعة ايضا في غير صفات موضوعة سلفا من قبل الانسان بما يرغبه ويتمناه متحققا على الارض او مرجوا مؤملا في السماء. في حين ان امتلاك الانسان ماهية ديناميكية كما ذهب هيدجر تعني انه يمتلك وجودا مفارقا يتسّم بامكانية التعرف على خصائصه المنفتحة امام معرفة العالم لها. انها ماهية تفصح عن نفسها وتغني وجودها.وليس مهما لدى هيدجر اولويتها او اسبقيتها في وجود الانسان وانما المهم ان الانسان كينونة واحدة تحمل صفاتها الوجودية وماهيتها الجوهرية معا.

ماهية الانسان الديناميكية والوجود:

ان في طرح هيدجر الانسان يمتلك ماهية من نوع ديناميكي تبطل الجدل الوجودي حول اشكالية اسبقية الماهية على الوجود او العكس، في حضور ابجدية فلسفية بديلة ان ماهية الانسان هي وجوده، كما ان هيدجر يذهب ابعد من ذلك في مقولته ان الانسان يمتلك خاصية ماهوية متفردة (ديناميكية) تمنحه وجودا خارج ذاته (ان ماهية الانسان هي وجوده خارج ذاته في العالم، وهذا الوجود ليس مجرد الواقع التجريبي)(2). وان هيدجر يعتبر الانسان ليس وجودا بحاجة الى اثبات ماهوي، فالانسان هو الانسان كوجود طبيعي نوعي في خواصه الماهوية، كما ان الطبيعة هي الطبيعة في وجودها وكيفياتها الصفاتية غير المحدودة . وكلاهما الانسان والطبيعة معطى وجودي لا يحتاج التحقق من وجودهما او احدهما ماهويا خارج مدركات الحس والعقل في وعي الذات ووعي الطبيعة والعالم لهما.

ان اروع عبارة في هذا المعنى وردت عن كانط قوله (ان الوجود لا يستخرج من الفكر) وبهذه العبارة نسف كانط مثالية هيجل الجدلية التي سنأتي عليها لاحقا، كما نسف بعبارته تلك الميتافيزيقا، واخيرا أبطل مفهوم المثالية ان تكون الافكار المجردة بمستطاعها توليد وخلق الموجودات كما في الكثير من مدارس الفلسفة المثالية وفلاسفتها الذين يعتبرون الوجود واقع تصوري في الذهن من غيره لانعرف الاشياء ولا ماهيتها او صفاتها، وليس وجودا مستقلا عنه. وان عبارة كانط التي مررنا بها مهدت الطريق امام الماركسية في تطبيق جدلها المادي على الانسان والطبيعة والتاريخ، وليس الجدل المثالي الفلسفي الفكري المجرد كما فعل هيجل .

انه لمن المهم التذكير به ان اللغة قرينة الخيال، اكثر مما هي قرينة الواقع غير الملازم لها ادراكيا خياليا. فالواقع لا يدركه الخيال ذهنيا بل هو يعبر عنه لغويا في حال الحاجة والضرورة التعريف به. عليه تكون اللغة هي خيال يدرك المواضيع والاشياء عقليا و بطريقتين في التلقي له، الاولى ان يكون التفكير بموضوع ما بلغة حوارية داخلية تحتويها الذات المفكرة خياليا اكثر مما تعني الموجودات والاشياء كوقائع وجودية مستقلة، بما هي موضوعات واقعية يدركها العقل كوجود محايث لوجودها المادي. وبحسب تعبير هيراقليطس (ان الفكر والفلسفة كلاهما يستلزمان وجود اشياء خارجة عنهما) بمعنى ان الفكرلا يداخل موضوعه في وحدة اندماجية واحدة كما في تعبير هوسرل ان الفكر والموضوع شيء واحد ولا مجال الفصل بينهما.بنفس المعنى يذهب سارتر قوله (الوعي هو وعي الاخر الموجود المغاير للوعي) والمغاير للوعي هنا هو الموضوع، فالذات لا تعي ذاتها ولا موضوعها الا بالتمايز عن الشيء المفكر به وهو الموضوع.فالذات لا تعي وجودها بلا موضوع، والموضوع لا يكون وجودا متعينا بغير ذات تدركه.

الثانية ان واقع الاشياء لا يمكن التعبير عنها انطولوجيا من غير واسطة تعبيرية قد تكون اللغة او طرق غير اللغة باساليب مختلفة تستغني فيها عن لغة الاشياء التداولية، كمثل التعبير عن الجمال والفنون والقيم التي لاتحتاج اللغة وسيطا ملزما في معرفة الاشياء المتعالقة معها،  وايضا لا ضرورة اللغة الملزمة في جميع الطقوس الدينية التي لا تحتاج اللغة المنطوقة، بمقدار حاجتها الى لغة حوار داخلي فكري لا يستلزم بالضرورة الطقسية اللغة المنطوقة المسموعة تواصليا كدلالة.

علاقة الفكر بوعي الذات والموضوع:

عندما يقول ديكارت في التأملات السادسة (ان ماهيتي انحصرت في اني شيء مفكر او جوهر كل ماهيته وطبيعته ليست الا التفكير فقط) . ونجد قبل تعقيبنا على هذا نجد ان سارتر يقول (ان الكيفية لا تصبح موضوعية اذا كانت اصلا ذاتية) .في مقارنة بسيطة بين الاقتباسين عن ديكارت وسارتر السابقين نجد بديهة منطقية ذكرناها قبل سطرين هو استحالة ان يكون الموضوع ذاتا في نفس ان يكون الذات موضوعا، فالعقل يعقل نفسه كذات واعية مدركة لمواضيعها المستقلة، ومتى ما اصبح الموضوع متداخلا في الذات في وحدة اندماجية عندها يتعذر على العقل تمييز(كيفيتهما) المتمايزة بضوء تفسيرنا لعبارة سارتر اعلاه.،

كما يتضح لنا ان جوهر الوجود الانساني عند ديكارت انه كائن مفكر قد يكون تفكيره ذهنيا غير معبر عنه في فهم الواقع لا كمتعين مادي ولا تعريف به لغويا مرموزيا اشاريا او صوريا، اي يكون التفكيرالديكارتي هو فقط من اجل اثبات الوجود السلبي غير الديناميكي الذي يطالب به هيدجر.تفكير لذاته مكتفيا به (نومين يعني الشيء في ذاته)، مما جعل هوسرل يتساءل بدهشة لكن تفكير ديكارت بماذا؟ اي ما اراده هوسرل انه يتوجب الافصاح بماذا يفكر الانسان في اثبات وجوده غير السلبي، وتساؤل هوسرل يحمل قيمة حقيقية له في ادانته كوجيتو ديكارت، استعارها هيدجر في قوله ان الوجود الحقيقي ليس في ادراك وعي الذات السلبية بالتفكير المجرد في حوار داخلي، بل في ديناميكية هذا الوجود. لان التفكير غير المعلن عنه تواصليا بالواقع او بموضوع معين، انما هو اساس تفكير عقلي في وعي الانسان لذاته قبل وعيه الموضوع المستقل عنه، ولما كان التفكير خاصية انسانية دينامية عقلية، لذا يكون العقل يعقل ذاته قبل ان يعقل بالتفكير موضوعا مستقلا عنه، والاهم يصبح حقيقة العقل انه لا يعقل العالم الخارجي من غير موضوع يكون مادة العقل بالتفكير.

نرى من المهم الاشارة الى تعالق فهم سارتر في تاييده هوسرل والانفصال عنه كما في هذه العبارة :(يجب ان نتجاوز انا افكر الى انا افكر في شيء ما، والوعي لا يكتفي ان يكون منفردا)، والوعي يوجد حيث يتوجب تفكيره بشيء مغاير، (والوعي عند سارتر لا يحدث الا بتمثله شيئا غريبا عنه، والوعي وموضوعه وحدة واحدة مترابطة، لا يقف الفكر عند انا افكر، وانما بالذهاب الى ما يقصده الوعي من اشياء) نقلا عن حبيب الشاروني، فلسفة سارتر/ ص107 -108 .

وربما يكون هذا التفكيرالديكارتي في وعي الذات وحتى الموضوع هو دايلوك او حوار داخلي لا صلة له بالخارج الذي يمكن ادراكه من قبل الاخرين، ويقلل سارترايضا من ادعاء ديكارت المكابر في اثبات الوجود في اعتماده فاعلية التفكيرفقط في وعي الذات واثبات الوجود، بان (الكيفية) هي احدى صفات الذات الفطرية التي لا تحتاج الى اثبات فهي الوسيلة الوحيدة في اثبات ماهية الوجود الانساني، بمعنى ادانة ديكارت في اثبات وجوده بوعي ذاته فكريا تجريديا فقط، بنفس الوقت اجاب على تساؤل هوسرل عندما اعتبر التفكير في اثبات الوجود عند ديكارت هو (وعيه لذاته) فقط في تجريد غير فاعل بالحياة، وهذا غير ممكن خارج الغاء ديكارت العالم الخارجي ان يكون التفكير مدركا عقليا به لتغييره في اعتبار الوجود الانساني حسب هيدجر لايمتلك ماهية ديناميكية منتجة وحسب، وانما في وجوده كصانع لذاته وصانع لموضوعاته معا حسب سارتر، بل ان وجود ديكارت الذي تعيّن بارتباطه في اثبات الوجود المفكر لذاته فقط، هو وجود سلب لا يحمل اية دلالة ديناميكية لافي ذاته ولا في امكانيته تبادل التأثر والتأثير في العالم الخارجي.ومأخذ سارتر على ديكارت هي لا تشبه حجة هوسرل التي ناقشناها قبل اسطر، اذ استعار سارتر عن الماركسية، بان الفكر المجرد الذي لاصلة تربطه بالواقع جدليا غير ذات قيمة تذكرله، قائلا (الجدل يصنع الانسان بنفس وقت صناعة الانسان ذاته). وفي عبارة كانط التي مررنا بها باننا يجب ان لانعوّل ان الافكار بمستطاعها خلق الاشياء والموجودات، وهي عبارة تدخل في صلب الفهم المادي. واضاف سارتر بضوء هذا الفهم الديكارتي في علاقة الذات بالتفكير، الرد عليه مامعناه، ان تكون الكيفية غير موضوعية اذا كانت صفة للذات تتعالق مع الماهية الانسانية غير المدركة عقليا واقعيا، لكن متى ما تم التعريف بها بصفاتها الطبيعية (لغويا) خارج وجودها الذهني فقط او حتى بوسائل غير اللغة، عندها تكون الذات موضوعا لا يدرك ذاته منفصلا عن مصدره، ويتعين وجودا(موضوعا) بالنسبة للمصدر الذي صدر عنه اي في وعي الذات موضوعه كما مر بنا، او كناتج فكري لغوي متعين موضوعا يمكن ادراكه بالنسبة للاخرين الذين يجدونه موضوعا متعينا عبّرت عنه اللغة، او اية واسطة تداول تواصلي تجعله مدركا موضوعيا لغيره، وليس وعيا بذاته فقط.لا قيمة للموضوع ولا للشيء بدون ادراكه بالفكر عقليا والتعبير عنه باللغة عقليا ايضا.

الجدل المادي والجدل الفكري المثالي:

وبالعودة لمقولة كانط التي ثبتناها في اسطر سابقة ولاهميتها الكبيرة في التمييز بين التفكير المثالي والتفكير المادي، حول علاقة الفكر بالوجود نجد هيجل قائلا (ان طبيعة الواقع يمكن ان تستنبط من الاعتبار الوحيد القائل ان الواقع يجب ان لا يتناقض مع ذاته) (3). هذه العبارة تؤكد الجدل المثالي الذي اقامه هيجل على صعيد الفكر، وقلبه ماركس ماديا في اعتماده التناقض الجدلي، فحسب قوانين الجدل المادي الماركسي الطبيعية الثلاث، فلا يوجد شي في الوجود والمادة والطبيعة والكون (ثابتا) لا يتحرك بفعل عوامل تناقضاته الذاتية الداخلية، والعوامل الموضوعية المحيطة به، والضرورات الحتمية التي تحكم تطوره، والذات الانسانية تتناقض ذاتيا وكذلك الحال في تناقضها مع الواقع والاشياء، وتتناقض مع كل ظاهرة حادثة في الواقع المتغير والحياة في حيويتها .

ان من اهم المآخذ التي رفضتها الماركسية بشدة ان تكون الموجودات والاشياء في حالة (الثبات) وعدم التغييرالمتطور المتحرك باستمرار، وان الجدل الديالكتيكي لا يعمل في الافكار المجردة بمعزل عن الواقع والاشياء في الحياة، ولا قيمة للجدل او ما يناتج عنه من تجريد منطقي كما يرغبه هيجل ومارسه فلسفيا مثاليا. بل ان الديالكتيك مجال اشتغاله الواقع والمادة والطبيعة والانثروبولوجيا والتاريخ وفي كل ظاهرة او وجود يتموضع في الادراك العقلي او الذهن المجرد، اي جميع الوقائع والموجودات والظواهر التي تستلزم استحضار الجدل في وجود التناقض الذي يحكم كل الاشياء ويسبب فيه وله الحركة والتغيير بعوامل ذاتية وموضوعية، باختلاف جوهري ان الجدل الفكري الذهني المجرد، يختلف جوهريا ومتناقضا مع الجدل بمفهومه المادي الذي اوضحناه.

انه من المحذور ماديا التفكير ان جدل الافكارنسق عقلي ذهني يمتلك قدرة ذاتية مادية خاصة به على تحريك الواقع وتغييره. قد ندرك الاشياء ذهنيا واردا جدا انما ان تخلق الافكار وجودات واقعية مدركة فهو مستحيل، لان وجود الطبيعة والانسان وكل الاشياء وجود مستقل بذاته ولا علاقة للفكر في تخليقه او ايجاده بل في ادراكه واقعيا ومحاولة التفاعل معه . وهذا ينطبق على جميع الفلسفات المثالية التي حاولت دحض المادية الماركسية، بمقولات الفكر المثالية التي تزعم امكانية خلق الموجودات والاشياء من الفكر تجريدا صوريا .

ان الواقع لا يتحدد وجوده كمتعين مادي او فينومولوجيا ظاهراتيا كماهيات، او جوهر وصفات دونما تناقض جدلي على تغيير الواقع وتبديله المستمر، وقول هيجل او طلبه ان لا يناقض الواقع ذاته سواء اراد به هيجل الوجود الطبيعي او وجود الانسان فهو باطل ولا يحمل مصداقية التسليم به.ولا وجود لواقع لا يناقض ذاته وتعتمل بداخله التناقضات اللامحدودة، والا يكون فاقدا سبب وعلّة وجوده، انه وجود واقعي لا يحمل ادنى صفات الاهتمام به.

ولقد أخذ ماركس على هيجل ان الجدل لا يعمل بالفكر بمعزل عن الوجود والواقع والتاريخ والحياة، فلا وجود حقيقي لشيء او واقع ينتجه جدل الفكر المجرد، وان الجدل ايضا لوحده كما هو شأن الفكر لايخلق موضوعاته الوجودية واقعيا بل ذهنيا كتفكير فقط، بل هذه الموضوعات في الوجود والمادة وتفسير التاريخ تفرض اهمية التغيير فيها عوامل التناقض التي تقوم على الجدل ذاتيا وموضوعيا . وهذه المباحث التي ذكرناها هي التي تخلق ديالكتيك تطورها وليس بمكنة او استطاعة الجدل خلق مواضيعه واعمال الجدل في تطورها خارج وجود الطبيعة والانسان. ولا وجود ايضا لانسان متصالح مع ذاته ومتطابق معه في الماهية والوجود، ولا تعتمل في دواخله محركات التناقض التي توجب عليها الخضوع لها في مسيرة التطور والحياة وفي كل مشكلة تواجهه.

الوجود والماهية والعدم:

ان سارتر يفهم الوجود الانساني على انه خواء مطلق لا قيمة حقيقية له، والانسان انما هو وجود لأجل الموت (عدم)، لذا الانسان كوجود يعتبر اصل العدم واساسه. وفي لا اهمية ان يكون للوجود ماهية تداخله، فعند سارتر الوجود بذاته، والوجود من اجل ذاته، والوجود في الجميع، هو سلب بمعنى اللاوجود خال من اي قيمة حقيقية انسانية في المتداول الطبيعي، وليس الوجود موجودا كي يعقبه عدم بل الوجود والعدم شيئان ليسا متلازمين بالضرورة وحسب، بل (الوجود والعدم) هما الانسان كينونة واحدة تمتلك حقيقتها الوجودية الوحيدة التي جاء بها معه الى الحياة ليموت ويفنى. وهكذا يكون اكثر مقبولية منطقية ان نقول بثلاثية تلازم (الوجود والماهية والعدم) انهم ثلاثتهم تعبيرات لوجود واحد لاغيره.بل يذهب سارتر الى ان اهمية العدم تأتي ليس كمرحلة لاحقة تعقب نفي الوجود السالب، انما هو اي العدم الذي يعمل في تلازم متداخل مع الوجود يعمل بداخله ومن اجل تقويضه، فالعدم الوجودي هو حتمية الوجود الانساني القلق المقذوف به في اتون الطبيعة والحياة والذي يولد كي يموت .

وفي نفس المنحى يذهب هيدجر قوله: (نحن لا نشعر بهذا اللاشيء الذي هو العدم، لا باعتباره مقولة منطقية، بل باعتباره مقوّما داخليا في تكوين الوجود)(4).اي باعتبارالعدم حتمية يعيشها الانسان تلازمه وينتظر فناءه بها.

(واول ماينبغي ملاحظته ان فكرة العدم في فلسفة هيجل لاحقة على الوجود وهذا بخلاف الفهم السارتري والهيدجري ان الوجود والعدم هما شيئ واحد، بمعنى اننا حسب هيجل لانضع الوجود اولا، لنتداوله بالعدم ثانيا).(5)

وفي هذه التراتيبية الهيجلية ان الوجود يسبق العدم، نؤكد ماذهب له سارتر في سطور سابقة بانه لايوجد لدينا وجود انساني مستقل يعقبه عدم مغاير متمايز عنه، بل هما وجود واحد هو الانسان، الذي يرقب الموت في صورة العدم الذي يلازمه من الولادة والى مماته .

ولو عدنا الى افكار كيركجارد الوجودية نجده (يرفض الجدل التصوري المجرد)(6) لان هذا النوع من الجدل هو فكري مثالي في محاورته الذات الداخلية التي المحنا لها سابقا، والذي اراد هيجل احياءه فكريا مثاليا وفشل . وان كان هذا الجدل المجرد (مطرد متجانس منفصل عن العالم)(7) فهو لا يتماشى مع نظرة كيركجارد (في اقامته بدلا عنه جدلا متقطّعا غير متجانس، هو الجدل الوجداني العاطفي المليئ بالتقطعات والوثبات . كما يرى كيركجارد ان الوجود الحقيقي بما يحمله من عناصر الذاتية والتناقض ينفر منه النسق الفلسفي)(8) ..بهذا المعنى بقي كيركجارد مؤمنا حقيقيا في وجوديته المؤمنة، وابتعد عن التجريد الذهني الجدلي المثالي كما عند هيجل ومن بعده جميع فلاسفة المثالية، والاهم من هذا فسح المجال واسعا امام ظهور وبروز الجدل المادي الماركسي.

في ادانة اعتبار ان النسق الفلسفي المثالي يحتوي ويقرر ماهيات الوجود من خلال الفهم المنطقي الفكري المجرد كما يريد فهمه هيجليا وكل الفلاسفة المثاليين من بعده، وليس كما يفهمه كيركجارد ان النسق الفلسفي وجود مفعم بالوجدانات الايمانية التي ترفض ان يكون الوجود الانساني تابعا للنسق الفلسفي منقادا له او في احتوائه له، وليس خالقا له في وجود الانسان الديناميكي الذي اشار له هيدجر من بعد كيركجارد واشرنا له في السطور السابقة .

انه لمن المهم جدا ليس للفلسفة الوجودية وحدها وانما للفلسفة الماركسية ان وضع كانط هذا التصور الفلسفي النسقي المدهش حقا وباعجاب يلخص ماأخذه عنه الاخرين (فقد اقام هيجل نسقه الفلسفي على اساس المنطق الجدلي الذهني العقلي، وجعل الحقيقة الوحيدة هي المطلق الذي هو الوجود الواقعي بما فيه من روح لا متناه او مثال او عقل كلي توجد عنه جميع الاشياء، بحيث يبدو الفكر وجوديا واقعيا، والوجود الواقي منطقيا عقليا اي انه طابق بين الوجود الواقعي والمعقول)(9) .

والجملة التي حملها كيركجارد على هيجل تنصّب على دحض هذه القضية بحيث يفصل كيركجارد بين العقلي والواقعي، فيبدو الوجود لديه منافيا للعقل معارضا له كما يذهب له حبيب الشاروني . لقد اراد هيجل القول ان ما يدركه العقل واقعيا يتحتم وجوده بالضرورة الادراكيه له.وهي نفس عبارة بيركلي الغارق في المثالية قوله ان مايدرك هو وجود حقيقي واقعي، وكل ما لايدرك بالحواس لا وجود حقيقي له.اي ان حقيقة الشيء هو الذي تدركه الحواس وتنقله الى العقل صوريا.

كذلك يلتقي كيركجارد بهيجل في فكرة الجدل المثالي ذاتها (فهو يرى الوجود في تغير دائم باعتباره ينقسم الى ثلاثة مراحل متداخلة مع بعضها، المرحلة الجمالية، المرحلة الاخلاقية، المرحلة الدينية)(10) وهذا لايتماشى مع الفهم الجدلي الهيجلي الذي يحكم الوجود والمادة والتاريخ في قوانيين الديالكتيك، والاهم ويعارض المادية الماركسية في فهمها المادي الجدلي..وحقيقة ان لا الوجودية ولا الماركسية تؤمنان بطرح كيركجارد الايماني في المراحل الثلاث التي وضعها الجمالية والاخلاقية والدينية في تداخلهما الجدلي غير المادي.

هذا ليس بمعنى ان كيركجارد كان وجوديا يفهم قوانين الديالكتيك حتى في تطبيقها على تداخل مراحله الثلاث في الحياة، ولا المادية والجدل الذي جاء به بعده، التي وضعها هيجل وفويرباخ وصاغها ماركس ماديا . فهيجل وكيركجارد يفهمان الديالكتيك نوعا من تثبيت الوجود الانساني على صعيد الفكر والنسق الفلسفي كل حسب طريقته في التفكير والمواضيع التي يختارها في تطبيق الجدل عليها، بعكس ماركس الذي اعتبر الديالكتيك ضرورة مهمة وحتمية لتغيير الحياة والتاريخ وليس تجريدا منهجيا على صعيد الفلسفة والفكر وانما واقعيا على صعيد معرفة التطور الواقعي في الحياة .

 

الباحث الفلسفي علي محمد اليوسف/الموصل

.......................

الهوامش:

1- د. حبيب الشاروني/ وجودية سارتر/ ص14

2- المصدر السابق ص 26

3 - المصدر السابق ص 31

4 - المصدر السابق ص37

5- المصدر السابق ص 41

6 - المصدر السابق ص 44

7 - المصدر السابق ص 50

8- المصدر السالق ص 52

9 - المصدر السابق ص 54

10- المصدر السابق ص 56

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم