صحيفة المثقف

خفة المناحات العراقية الكبرى التي لا تُحتمل.. نقد المثقف الرث (2-2)

يوسف محسنأعصبة الحرب: وصل التفسخ والتخمير مع منشور سعدي يوسف الى مستويات كارثية في طبيعة المثقف العراقي وأضحى مصابة بمرض فقدان السوية النفسية التي تقع ضمن ما يعرف بـ (أعصبة الحرب) ولنا ان نتخيل حجم الأضرار التي تركتها سلطة البعث وسلطة الطوائف في التربية الاخلاقية على هذا الفئة الاجتماعية في تخريب الذات وتهتك الضمير، وكان الطعن بالشرف الشخصي للشاعر (شاعر نهايات الشمال الافريقي وقصائد اقل صمتا وحاج عمران وتحت جدارية فائق حسن) احد مبتكرات العقل العصابي الطائفي العراقي.

انطلاق حفلة البذاءات

كتب احمد صحن على صفحته في الفيس (في غضون ساعات تحول الفيسبوك الى سرداق لقراءة الفاتحة على روح الشاعر عريان السيد خلف، لكن اغلب من حضر في السرداق الفيسبوكي لم يقرأ الفاتحة، انما انشغل في معركتين، الاولى هي المزايدة على شاعرية عريان والثانية اتضحت سخريتها في الجدل الدائر بشأن سعدي يوسف، هل اخطأ عن حقد وغل وحسد بسبب وجاهة عريان ام انه ابدى رأياً في فن فيصل وشعر الراحل) هكذا انطلقت حفلة البذاءات التي حفل بها الفيس بوك وجرى شيطنة الشاعر سعدي يوسف بكتابات قد تصلح ان تكتب في الحمامات العمومية، اذن هناك علة في الحقل الثقافي العراقي، اشكالية تحتاج الى مراجعة، هناك خلل ما ثقب اسود يحتاج الى البحث عنه، انتج لنا كل هذا الهراء والانحدار الاخلاقي وفي وسط يدعي الطليعية والمعرفة، كان لا بد ان نتعلم التربية الديمقراطية بدون هذه التعليقات الرثة (حقارة طائفية) و(خالف تعرف ...دعم لشهرته التي مزقها بيده) و(سعدي يوسف زال غطاءها بعد فقدانه الأمل بالحصول على منصب حكومي في عراق ما بعد صدام، فخرج المتعصب القابع في دماغه وراح يوزع الشتائم والإساءات بين الرموز الشيعية في شتى المجالات) و(مريض) و(حاقد وينضح بما فيه) و( ومن دلائل حقده الطائفي أنه حرص على الإساءة لأي رمز من رموز الشيعة، كالمرجع الديني الأعلى علي السيستاني والقائد العسكري البطل عبد الوهاب الساعدي، وأخيرا شاعر الشعب الراحل عريان السيد خلف الذي أساء إليه بعد ساعات من وفاته، في منشور تضمن كذلك إساءة للفنان التشكيلي الكبير فيصل لعيبي (الشيعي)! و(دخل مرحلة الهستيريا التي أعادته الى جذوره الطائفية وانضم الى جوقة الأدباء والمثقفين المتحدرين من أصول سنيّة والذين تبنوا مهاجمة النظام الديمقراطي الجديد في العراق وفق مخطط مدروس) و(هذا عار علينا)، لماذا هذه العدوانية؟ انا انظر الى منشور سعدي بوصفه نص اختبار او فخاً ينصبه الشاعر لنكشف ضحالة المثقف العراقي والعنف الخفي في الثقافة العراقية . المنشور كشف خداع المثقف وادعاءاته عن قبول الآخر المختلف. انه الاختبار العظيم، كشف التهافت الطائفي عندما يسمى بالمثقف العراقي او ذيوله الفيسبوكيين .

مأزق الثقافة العراقية

اتصور الاعتراف ان الثقافة العراقية تنمو في سياق من العنف الرمزي ضروري، إذ إن كل مكوناتها الآيديولوجية تحاول ان تبني سردية تطهيرية تنتمى الى قاع المجتمع المشبع بالعنف السياسي والطائفي، ولكي نعرف كيف تمت ادارة المعركة ضد الشاعر سعدي يوسف (صانع الافخاخ) اولا التركيز على هويته الطائفية ومن ثم التحريض على الكراهية والرفض هكذا اصبح (الشيوعي الاخير) سنّي وضحايا منشوره من الشيعة، وهنا برزت واحدة من اشهر المقولات عن الشخصية العراقية وبالذات فئة المثقفين العراقيين انها شخصية انشقاقية تتشكل كجزء من الصورة الهجائية للحقل المجتمعي العراقي، إذ أخذوا ومنذ زمن تاريخي يقدمون انفسهم كجزء من مشاريع وهمية، ثقافوية سلفية وهذا باعتقادي يعود إلى اضمحلال الوعي السياسي النقدي، وتفكك الطبقات الاجتماعية الوسطى في المجتمع العراقي، فقد ظل المثقف العراقي يلعب دور المروج السياسي والشارح الثانوي لخطاب السلطة السياسية أكثر من ان يكون منتجاً للمعرفة الفكرية والسياسية والاقتصادية مندمجاً بقوة مع التاريخية التقليدية للقوى الاجتماعية العراقية وتحت وطأة التكوينات ما قبل الدولة والتي هيمنت على المشروع السياسي العراقي اختفى الدور الكبير للمثقفين العراقيين، اقصد (الدور التنويري) فهم اخذوا يقدمون توصيفات دينية أو طائفية ويشكلون أساطير أخرى وكاريزمات أخرى ليدافعوا عن مجتمع افتراضي وأهداف افتراضية أسطورية، واضمحلال النزعات النقدية للمؤسسات الطوطمية الدوغماتية الكامنة في النسيج الاجتماعي للمجتمع السياسي العراقي لكون العراق دولة ريعية فهو المفتاح لفهم ظهور ظاهرة المثقفين الرعويين في المجتمع العراقي ان هذه الظاهرة واقعة اجتماعية – عينية ملموسة متجذرة في التاريخ العراقي وقبل الدخول في خرافات الدولة الريعية العراقية هناك ثمة سؤالان مطروحان للنقاش أولهما: تاريخي متعلق بالتكوين الثقافي لهذا المثقف العراقي وثانيهما: ابستمولوجي والذي هو أكثر ملامسة لوجودنا كأفراد مثقفين في التطور التاريخي والاجتماعي حيث ان استجلاء تأثيرات المجتمع العراقي مرتبط بمعرفة أوليات ومكونات التاريخ الذهني للمثقفين العراقيين ومصادر تكوينهم المعرفي والتي هي خليط من الثقافات العتيقة والأساطير والمعارف التقليدية والاستعارات الثقافية الغريبة والتركيبات والصور التي تكونت عبر التنشئة الاجتماعية القهرية. هذه المصادر لم يتم إخضاعها إلى التفحصات النقدية حيث تحمل داخلها عنصر الانشقاقات في حقل الوعي الاجتماعي وهي التي تحكم البنى الذهنية لجماعة المثقفين العراقيين، فهم دائم التمحور حول شخصية كاريزمية أو تحت ظل جماعة عصبوية غير متمكنين من إنتاج ذاتيتهم الفردية يفتقدون للمولد المنهجي للانشاءات المعرفية تسود داخل هذه الأوساط جميع الأشكال البنيوية للعصبيات (الطائفية – القرابات – المحسوبية – المناطقية) أو هي رواسب بدوية معقدة ذات طبيعة استحواذية، ان هذه البنية الذهنية المهيمنة أصبحت مفهومة وبشكل عقلاني لأنها مشفوعة بكل تسويغات التاريخ فبعض منهم يعول على مؤسسات الدولة الرعوية في تخصيص مكارم ومكافآت وهبات الطائفة المنصورة وقد يبدو التساؤل مريباً ويحمل كثيراً من المكر التاريخي، لماذا لم يحقق المثقفون العراقيون قطيعة معرفية أو فطاماً مع المؤسسة الثقافية السياسية؟ ولماذا تقوت هذه الفئة نفسها على مكارم السياسة العراقية؟ ولماذا لم تكن تلك القطيعة ممكنة نسبياً في الحقل التاريخي للمجتمع العراقي؟

التناقض والاخفاق

الخطاب الثقافي العراقي الحالي يمثل ابرز التعبيرات عن التناقضات والإخفاقات والفشل الاقتصادي والسياسي للدولة الوطنية العراقية، وقد شكل هذا الخطاب الثقافي الحاضن المؤسساتي للثقافات الدينية العتيقة، آيديولوجية الاغتراب المركبة، التمركزات الطائفية،ثقافات ابوية، بنى صلبة تقليدية إنتاج أزمة تاريخية للدولة والمجتمع بالارتباط مع اسئلة الذوات المجتمعية عبر النسق الثقافي، يتميز الخطاب الثقافي العراقي بجهاز مفاهيمي مألوف وغير مهجن ولغته تتسم بالبديهيات والاستخلاص اللاعقلانية وبالواحدية، وهو نتاج تشاكل الخطاب الشمولي الاستبدادي مع الخطابات السلفية الدينية،وضعف مفاهيم الدولة والفراغ الآيديولوجي وهشاشة المجتمع وتكوينه السياسي، فهو خطاب ميتافيزيقي، يقويض التنوع في الافكار والتصورات، يمارس العودة المستمرة للمخزونات التاريخية الضخمة في الاستيهامات الذاتية والشعور الدائم بالتفوق وأمومة الثقافة العراقية، والأرض الأسطورة للحضارات الكونية، يفتقد للابعاد المستقبلية، تكمن خلف هذا الخطاب عقائد وشرعنة دينية، وأساطير وحكايات خرافية وشياطين ومجتمع يعاني البؤس التاريخي والثقافي التنكري.

مواكب دموع المثقفين

من المفارقات وتزامناً مع الحدث، اعدت قراءة مقال نشره صلاح عيسى في مجلة افاق عربية البغدادية العام 1978 بعنوان (مواكب الدموع المصري بين بطرياركية عبد الناصر وأيوبية عبد الحليم حافظ) حيث اكتشفت التطابق المذهل بين نظامين ثقافيين النظام الثقافي المصري في حقبة السبعينيات والنظام الثقافي العراقي الذي هيمن على النسق المجتمعي العراقي بعد العام 2003 إذ يتكون من مزيج فسيفسائي انتاج مجتمع يعاني أزمة التكوين والتشظي الشديد والتمركز حول هويات ومرجعيات فكرية تتراوح بين التعايش والنزاع فقد خرج المجتمع كما يقول فالح عبدالجبار فاقداً للمؤسسات والروابط الحديثة، وللثقافة الحضرية منغمساً في شبكة الروابط القبلية والأسرية والدينية الأصولية مشبعاً بقيم العنف، وان المؤسسات التقليدية الآن تقوم مقام مجتمع مدني مقيد.

ان قراءة وتحليل نظام التنضيذ الاجتماعي للمجتمع العراقي والذي يشكل الحاضن المجتمعي للمثقفين العراقيين تتم بعملية ربط الحقل الاقتصادي والسياسي وتشريح التيارات الفكرية والثقافية التي شكلت البنى الذهنية لهذه الفئة حيث ان المثقفين العراقيين كأفراد اجتماعيين لا يشكلون (مفارقة تاريخية) لتكوينات المجتمع العراقي، انهم متطامنون مع هذا الكون التقليدي للمجتمع السياسي (احزاب – بنى اجتماعية – طوائف سياسية – قيم – تقاليد) في مجتمع قهري لم تتشكل أسسه الأولية، مجتمع يفتقد للتنظيم العقلاني، بنيته هشة يؤسس ذاته وبشكل دائم على الفوضى وهو مجتمع تابوي تتحكم فيه القيم الموروثة (الطائفية – العشائرية – الخرافية) أو الثقافات الرثة والأنساق البيطرياركية في كل الحقول الثقافية والسياسية والفكرية نتيجة لسيطرة الأنظمة العسكرتارية فضلاً عن ضعف التنظيمات السياسية وهيمنة القادة التقليديين الدينيين والسياسيين، وتدهور الشروط الاجتماعية للتنمية الاقتصادية وانهيار عناصر المدينة والتحضر داخل هذه التركيبة الالتباسية الغامضة للمجتمع العراقي .

  

  يوسف محسن

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم