صحيفة المثقف

الواسطي وجيوتو والريادة في فن العصور الوسطى (3)

كاظم شمهودرقي وتفوق الفن الاسلامي على الاوربي: يذكر الدكتور زكي محمد حسن بان ابن المقفع ترجم كتاب كليلة ودمنة الى العربية في القرن الثاني هجري (الثامن ميلادي) وجعله مصورا. كما ذكر انه عثر على اقدم التصاوير الاسلامية على الورق في اقليم الفيوم بمصر وهي الآن محفوظة في المكتبة الاهلية بمدينة فينا . وفيها تصاوير تعود الى القرنين الثالث والرابع هجري (التاسع والعاشر) . كذلك ما وجد في عدد من القصور التي شيدها الخلفاء الامويون منهم الوليد بن عبد الملك مثل قصير عمرة في الاردن من رسوم جدارية 94-97 هجرية .) 712– 715) م وكذلك ما وجد في قصر خربة المفجر في اريحا وينسب تشيده ايضا الى الوليد بن عبد الملك، وفيه لوحة جدارية فسيفسائية تمثل شجرة وغزالان يهاجمها اسد، وقد نفذت الشجرة والحيوانات بتدرج لوني لم يعرف من قبل، مما اعطى الاشكال صبغة طبيعية قريبة من الواقع واستعمل فيها الضوء والظلال باسلوب طبيعي واقعي وكان يشكل خروجا عن الاسلوبين البيزنطي والساساني اللذين كانا سائدين في ذلك الوقت . ونلاحظ هناك دقة في التشريح والالوان والتظليل مما يعطيها جمالية راقية في الاسلوب والاتقان .. واذا امعنا النظر في تواريخ هذه المخطوطات المصورة ورسوم الجدران نجد انها واقعة في عصر انتشار الفن البيزنطي وحرب- الايقونات – في اوربا . وقد تحدثنا عن ذلك سابقا . وبالتالي نجد ان تصوير المخطوطات وتزويقها وكذلك رسم الجداريات –الفريسكو – في المشرق قد فاق وتقدم على المصورين الغربيين بعدة قرون حتى ظهور شيمابوية وجيوتو . في القرن الثالث عشر م ..

و تعتبر تصاوير مخطوط مقامات محمد الحريري 1054 م، صورة ناصعة لحالة المجتمع الاسلامي في القرن السابع هجري (الثالث عشر م) ومثلا اعلى لمميزات ورقي مدرسة بغداد، وكانت تصاويره عبارة عن تسجيل وثائقي صادق عن حالة المجتمع الاسلامي في ذلك الوقت وتعكس مختلف طبقات المجتمع من حكام ورعية، وكذلك التدريس عند الفقهاء او الاطباء والتقاليد من زواج وولادة وخطب في الاسواق والمساجد وكذلك طرز العمارة وصور عن القوافل التجارية والخيل والجمال وغيرها .

و قد نسخ الكتاب وصوره يحيى الواسطي في 634هجرية / 1237 ميلادية ويحتوي على 99 تصويرة بحجم 37 في 20 سم وهو الآن في المكتبة الاهلية في باريس، وقد زرت المكتبة حوالي عام 1981 واطلعت على المخطوط وكان في حالة بائسة واوراقه متهترة تكاد ان تسقط وتنفرط منه .

569 الواسطي

مدرسة بغداد وفنون الغرب:

عندما نضع مقارنة بين رسوم الواسطي الذي يعتبر مؤسس مدرسة بغداد للتصوير ورسوم جيوتو الذي يمثل قمة تطور الفن الايطالي والاوربي في العصور الوسطى نجد هناك بعض الفروقات والاختلافات وكذلك التشابهات، ويمكن حصرها في عدد من النقاط :

1 – اكثر الرسامين المسلمين والعرب انصب عملهم في تزيين المخطوطات العلمية والادبية ولم يلتفتوا الى رسم الجداريات الكبيرة الا قليلا كما هو ظاهر في رسوم قصير عمرة في الاردن وقصر الجوسق في سامراء .. بينما اتجه شيمابوية وجيوتو وغيرهم الى رسم الجداريات الكبيرة على جدران الكنائس بطريقة الفسيفساء والفريسكو حيث اتخذت طابعا روائيا وتعليميا دينيا لعامة الناس الامية .. في الوقت الذي كانت رسوم المخطوطات العربية توضيحية وتزينية ومتعة وغير دينية .

2 – لا يعني ولا يهتم رسام مدرسة بغداد بعلم التشريح واحترام النسب عكس الفنان الغربي في العصور الوسطى حيث اهتم بعلم التشريح رغم ان البداية كانت متعثرة، وقد ابدع في التعبير عن العواطف والانفعالات .

568 giotto 8

3 – الفنان المسلم في مدرسة بغداد كان يشعر انه مراقب من قبل العلماء والفقهاء في مسألة تحريم الصور لهذا التجئ الى التحوير والتسطيح لسلب الاشكال الآدمية من التجسيد والواقعية التمثيلية او الطبيعية (وهذا الامر له حديث طويل وجدلي) . بينما الفنان الغربي لاقى تعضيدا ودعما كبيرا من قبل الكنيسة .. ويذكر قصة طريفة ان شيمابوية رسم لوحة جدارية كبيرة تمثل العذراء والمسيح –ع- وتحيط بهما الملائكة فزاره احد الامراء وازال الستار عن اللوحة وسط جماهير غفيرة من المؤمنين ثم بدأ الناس يشكلون طوابير كبيرة لمشاهدة اللوحة . كما عملوا احتفالية خاصة عرضت فيها رقصات وموسيقى فلكلورية ..

4 – لم يعتني المصورون المسلمون بعلم المنظور واتخذوا منظور الطائر سبيلا لهم ولهذا اعطوا اللوحة سطحا وبعدين ووزعوا عليه المشاهد والرسوم .. كما هو الحال في الفن الحديث المعاصر . بينما نجد الفنان جيوتو بدأ يطبق المنظور ولكن بشكل متواضع وغير متقن مما فتح الباب الى رسامي عصر النهضة لاكتشافه وتطبيقه في اعمالهم، ويذكر ان علم المنظور كشف عام 1436 من قبل الكاتب الايطالي ليون باتيستا البرتي .. ولكن بقى تصوير المخطوطات الغربية يشبه تصاوير المخطوطات العربية .

5 – كان مصوري مدرسة بغداد يتبعون في اساليبهم الموروث الفني من المصورين القداما ولكن الواسطي استطاع من تحريك الذهن والخيال من حيث رسم الاشكال الآدمية كما هي في الواقع مع التحوير القليل، كما نجد ملامح الوجوه متنوعة منها ما عليها سحنة عربية واخرى ايرانية ساسانية او سلجوقية، اما القامات فهي قصيرة والعيون جوزية والوجوه مدورة او بيضوية والانوف قصيرة وقلما نجدها معكوفة .. وبالتالي فان الاشكال الآدمية في رسوم مدرسة بغداد عبارة عن خبطة او خلطة من التأثيرات المختلفة المنابع .

6 – امتازت رسوم العصور الوسطى بوضع هالة خلف الشخصية المهمة في الصورة وكانت هذه المفردة معروفة في الفنون القديمة عند البوذية والمسيحية والفارسية والرافدية والمصرية وغيرها واستمرت في الرسوم الغربية والاسلامية على حد سواء الى عصور متأخرة ..

7 – صور الرسام الاسلامي الملابس وزينها بالزخارف المتنوعة من نباتية وهندسية والاحرف العربية، وعادة ما تكون الملابس فضفاضة والاردان عريضة وهي مسطحة وليس لها ظل او نور .. في الوقت نفسه نرى جيوتو يرسم الملابس ولها طيات ونور وظل متدرج من نفس اللون وليس فيها اي نوع من الزخارف والزركشة . ولهذا فان ما يميز مدرسة بغداد عن فنون الغرب هو هذه الغنائية الراقية في الالوان والايقاعات الجميلة في الخط الذي يحدد الاشكال وتلك البهجة والمتعة في تنوع الزخارف وبريقها وعطرها المنبثق من زخارفها النباتية المورقة والمزهرة. ولهذا نجد الفنان الفرنسي ماتيس قضى عدة سنوات يدرس الفن الاسلامي في بلاد المغرب، ثم اسس المدرسة الوحشية على قواعد الفن الاسلامي ... وبهذا المنحى يقول الاستاذ الدكتور عفيف بهنسي، من حقنا ان نطلق عليها اسم المدرسة العربية ؟؟؟

8 – اما الالوان فهي قوية وبراقة ومباشرة، وكان الفنان المسلم يهدف من ذلك التعويض عن القصور في ميدان التجسيم وعن التعبير عن المساحات والمسافات، وقد استخدموا جميع الالوان خاصة الذهبي .. وكانت الالوان عند جيوتو وبعض زعماء عصر النهضة مثل مايكل انجلو ورافائيل قوية ونقية ومباشرة ..

9 – كانت تصاوير مخطوط مقامات الحريري للواسطي تمتاز نوعا ما بواقعية تمثيلية ظهر ذلك في رسم الجمال والخيل كما نرى قوة تعبيرية في حركة قوافل الحيوانات ورسوم الاشخاص وتقاسيم الوجوه وتنظيم الالوان وعادة ما تكون تشكيلات هذه المشاهد متأتية من الواقع الذي يعيشه الفنان وحركة المجتمع وتقاليده وثقافته .. وفي نفس الوقت كان الرسام جيوتو قد خرج عن الفن البيزنطي الجامد واقترب من الاسلوب الطبيعي .. وبالتالي فيعتبر الاثنان الواسطي وجيوتو من طلائع المجددين لفن التصوير في العصور الوسطى ..

 

د. كاظم شمهود

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم