صحيفة المثقف

فضاء المدونة.. فضاء النص

امجد نجم الزيديقراءة في رواية (حصاد الرمال) للروائي صباح مطر

عرف استخدام المدونات في الرواية منذ ازمان طويلة، وان شاع في الرواية العراقية في فترة الثمانينات وما بعدها، والتي تكون في اكثر الاحيان عبارة عن العثور على مخطوطات قديمة او مذكرات او غيرها، وهناك بعض النماذج المعروفة في الرواية العالمية والعربية والعراقية، ومنها على سبيل المثال، ثلاثية الراووق لعبد الخالق الركابي وتيمور الحزين لأحمد خلف.. وغيرها، اذ تبنى الرواية على فتح فضاءين متوازيين، هما فضاء يمثل حاضر السرد والذي تكتشف فيه تلك المدونة، وفضاء المدونة، والذي يحيلنا الى واقعة اخرى ربما تكون تاريخية في اغلب الاحيان، وقد استخدمت هذه الالية الرواية التي بين ايدينا وهي رواية (حصاد الرمال) للروائي صباح مطر، وان كان استخدامها والحيز الدلالي الذي وظفت فيه يمتلك خصوصية في كيفية التعامل معها، سنحاول ان نعرج على اهم مؤشرات تلك الخصوصية في قراءتنا هذه.

إذ لعبت المدونة فيها او (رزمة العم غافل) وخاصة في الفقرات الثلاثة الاولى دورا تحريضيا على جذب القارئ وتحفيزه على مواصلة القراءة، وان كانت تلك الاشارات قد تفلت من القارئ غير الفطن، اذ انها لم ترتبط بصورة مباشرة مع العلاقات التي انشأها النص الروائي، وخاصة  بين الراوي وزوجته (نورس) مثلا، في الفقرات الثلاثة الاولى على اقل تقدير، بل بقيت مجرد اشارات عابرة، والتي ستتغير لاحقا، في الفقرات الاخرى، ولكن يبقى التفاعل ثانويا في اكثر الاحيان، فالإحالة الى المدونة في هذه الفقرات كان كالشذرات البسيطة، اشبه بالصنارة التي اصطادنا بها الروائي لمحاولة فك الغموض الذي اوحت به تلك الاشارات المضمنة في سياق السرد، وخاصة حالة الالتباس التي خلقها اسم (العم غافل)، وتناوبه بين شخصيتين، سيظهر تاليا وفي نهاية الفقرة الثالثة ص21، انها ترتبط بشخصيتين وليست لشخصية واحدة (فاجأتني بان اقص عليها خبر عمي غافل الجار الله وكيفية منح اسمه للعم غافل الشذر بكل هذه السرية) (الرواية ص21)، وهذا اللغز ربما يمثل دافعا قويا للقارئ على مواصلة قراءة الرواية، بحثا عن الحل، او كشف سبب تغيير الاسم، والذي أُجل ولم يصرح به مباشرة، لنكتشف بعد ذلك ان غافل الجار الله قد مات وحل محله غافل الشذر، لذلك تلعب المدونة/ الرزمة هنا دورا فاعلا في كشف ذلك الغموض، وهذا يحيلنا ربما الى ما تفعله المدونات القديمة المخبوءة، التي هي دوما ادوات لكشف غموض الواقع، او الحاضر، او هي مفتاح السر الذي يفتح مغاليق الحكاية من خلال العلاقة التبادلية بينها كمدونة تسجل تاريخا ماضيا، وبين حاضر السرد المغرق بالغموض والطلاسم والحيرة، ولكن ما فعله الروائي هنا هو انه لم يجعل فضاء المدونة ينمو بعيدا عن الفضاء الاول، الذي يمثله حاضر السرد، حيث تكون الانتقالة الزمكانية محكومة بهيمنة الفضاء الاول باعتباره هو الراوي او يمكن تقريب الصورة الى الاذهان من خلال النظر الى الفضاء الثاني أي فضاء المدونة كشاشة تعرض احداثها في الفضاء الاول، اي ان السرد هنا لا ينفصل، او يتماهى بين الفضاءين، وانما هناك حضور قوي للفضاء الاول وهو فضاء السارد، حتى عند الانتقال الى فضاء المدونة/ الرزمة، والذي يتم من خلال عتبة تبرر ذلك الانتقال او تهيء له (فظيعة هي الذكرى حينما يتهدج بها جدي بصوته المرتعش ودموعه تغالب اجفانه لتبل بمساربها وجنتيه المتغضنتين وتخضل من سلسالها لحيته البيضاء، غافل يومها عند اخواله في حفلة عرس خاله الاصغر... الخ) (الرواية ص26)، وكذلك في موضع اخر مثلا نرى التقديم والتهيئة للدخول في تلك المدونة/ الرزمة (وما اقوم به لا يعدو غير اتياني بنتف من استذكارات متفرقة أرضي بها فضول نورس وفي هذه المرة جررتها الى طفولة الشيخ وهو يتعلم في الكتاتيب. والشيخ لا يخفي انزعاجه من ايام الكتاتيب.. الخ) (الرواية 26)، لذلك فهذا الانتقال الى المدونة والعودة منها، يتم بهذه الطريقة والتي تجعل تلك المدونة التاريخية لا تنمو خارج ذلك الاطار، والتنافذ بينهما يتم من خلال خلق علاقات قائمة على السؤال والجواب -اذا جاز لي التعبير- حيث يطرح الفضاء الاول السؤال ثم يحال الى الفضاء الثاني للبحث عن اجابته، وقد يختلف الامر قليلا ربما في بعض اجزاء الرواية الاخرى، ولكن تبقى هذه الالية هي المهيمنة على الرواية.

تتشكل المدونة من خلال وعي الراوي بها , او انها تمر عبر واسطة هي عين الراوي ووعيه, وليس لها وجود مستقل عن هذا الوعي المهيمن (لم ينقش العم شيئا من ذكريات ماضيه على وجه الرمال ولم يرث منهما غير يتم احاق به في شهوره الاولى, ليس له حماسة من معه ولا انفعالهم وهم يتسقطون الاخبار..) (الرواية ص33)، فمن يتكلم هنا؟ حيث نرى بان احداث المدونة وحتى انفعالات (غافل) وردود افعاله، إن كان غافل الحقيقي في الفضاء الاول او غافل المدونة/ الرزمة، وانها منعكسه من خلال وعي الراوي المشارك في الاحداث في الفضاء الاول خارج المدونة اي في فضاء حاضر السرد، لذلك نرى بان وجهة نظر الراوي حاضرة ايضا في سرد المدونة، وربما تطغي في بعض الاحيان على باقي الاصوات ( أحبّ الاهالي وامتدت له معهم وشائج حرص على ان يزيدها متانة، يعجبه فيهم انهم عصاميون يأكلون من عمل ايديهم راضين بقليل المنال، يجنون لقمتهم من عرق الكد والتعب المضني، يكدحون وليس كآل الشذر تتكفل مشيختهم بعيشهم الرغيد..) (الرواية ص34)، وكذلك وفي نفس الصفحة (لم يكن امرهم خفيا على المبعد الصغير المجاهر بنفوره واشمئزازه.. الخ) (الرواية ص34)، حيث نلاحظ بان هذا السرد هو من خلال صوت الراوي ووجهة نظره، وليس صوتا مستقلا، كما يمكن ان تحمله تلك المدونة المفترضة.

لعب السرد المتعلق بتلك المدونة/ رزمة العم غافل، ومن خلال الاحداث التي قدمتها في بناء فضاء زماني/ تاريخي، انعكست على واجهته احداث الرواية او المدونة بالتحديد والتي مثلت بالتغيرات السياسية التي رافقت التدخل الاجنبي والحرب العالمية في المنطقة، حيث ان السرد (ليس مجرد متوالية من القصص والاحداث، انه في الاساس، صياغة تصويرية للزمان)، هذا لا يعني ان تصوير الزمان يقتصر على الصورة التاريخية المضمنة في الرواية وانما ينعكس كذلك من خلال تلك الاحداث، والذي يشكل تصورنا للبنية السوسيوثقافية لها، والمتحكمة في بناء المكان الروائي والشخصيات الى اخره ( ما ان اطلق الطالب الصربي المتعصب (غافريلو بريليسيب) رصاصة مسدسه المشؤومة على ولي عهد النمسا ليرديه صريعا، حتى كان ذلك الفعل بمثابة اعلان من تلك الفوهة العاهرة، عن انطلاق الشرارة الاولى لحرب كونية غيرت وجه العالم..) (الرواية ص46)، فعلى الرغم ان هذا الاقتباس كما يظهر يشير الى تلك الحوادث التاريخية بصورة مباشرة الا انه سرعان ما يتخلى عن تلك المباشرة، ليتراجع الى الخلف فاسحا المجال لأحداث المدونة ان تبرز اكثر، اي ان لا يهيمن على الخطاب السردي،

أما التنافذ بين كلا المتنين او الفضاءين، وهما الفضاء الذي يمثل حاضر السرد وبين متن او فضاء المدونة، اتخذ عدة مسارات منها ما هو مضمن يحتاج الى كشف، واعادة ربط بالإحالات التي ربما يشير اليها، ومسارات ظاهرة، وربما تظهر من خلال المقابلة بين شخصيات كلا الفضاءين، حيث ان هناك شخصيات تلعب دورها ضمن حدود فضائها الذي ظهرت به، والمقترنة به، اي انها لا تحيل الى دلالة مرتبطة بالفضاء الثاني كصديق الراوي (البرت) مثلا وغيرها، وشخصيات ثانوية اخرى في فضاء المدونة، ولكن المقابلة الابرز - حسب تصوري- هي بين الراوي وزوجته نورس في الفضاء الاول، وغافل وسجده في الفضاء الثاني، ولكن هذه المقابلة، لم تكن بالقوة التي يمكن ان تأخذ لها حيزا دلاليا واحاليا مهما، وانما اكتفت والتزمت بالمدى الذي رسم لها، وهو البعد العاطفي الذي يجمع الطرفين، لذلك بقي غافل هو مفتاح تلك الاحالات التي يمكن لنا اجتراحها والرابط  بينها، وسأكتفي بهذه الاشارة البسيطة لهذه العلاقة، ولن افصل فيها اكثر او اظهر تلك الاحالات، لأنها لن تكون مهمة بصورة كبيرة، وانما هي مقابلة وتنافذ يعتمد على التشابه والتماثل ربما، لكن لا يلعب دورا فاعلا في تعزيز التنافذ الدلالي بين كلا المتنين.

 

أمجد نجم الزيدي

.................

* حصاد الرمال (رواية) صباح مطر - اور للطباعة والنشر- ذي قار 2017

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم