صحيفة المثقف

شروط إقامة الدولة الحضارية الحديثة في العراق

علاء شدهان القرشيهل يمكن اقامة الدولة الحضارية الحديثة: بوجود الطبقة السياسية الراهنة؟ اومن خلالها؟

سؤالٌ مزدوجٌ عن إمكانية إقامة الدولة الحضارية الحديثة، وهو سؤالٌ، بطريقةٍ أخرى، عن الشروط، التي الدولة الحديثة لا تقوم إلا بها، ومن خلالها. فالسؤال المزدوج بتعبيرٍ آخر هو: ما هي شروط إقامة الدولة الحضارية الحديثة في العراق؟ والسؤال بصيغته هذه يضعنا أمام موضوع شغل علماء السياسة، ومحلليها منذ مئة سنة تقريبًا، ولكننا نريد، هنا، أن نحاول تعليق إجابةٍ موجزةٍ ممكنةٍ في لوحة هذا المنتدى الفكري، النقاشي، الريادي، المختلف.

يمكننا أن نجيب، بادئ ذي بَدْءٍ، بأنه الاقتناع؛ ذلك الذي يكون في أوَّلِ أمره ساذجًا، يمكن تَلَمُّس أثره في النفس، وتجسيد صورته في المُخَيَّلة، وتتّبع بريقه، وروعته، ولمعانه في الأذهان، كحلمٍ جميلٍ، وأمنيةٍ ممكِنةٍ، وبأنه أيضًا، إفضاءٌ منطقيٌّ، برَّرته تلك الصور المتخيلة، اللامعة، البراقة، لعراق حضاري حديث، ليس من المستحيل قيامه، ولا من المستبعد إنشاؤه. إنه الأمل إذن، أملٌ في إمكان التغيُّر والتغيير، أمل في القدرة على النهوض والانطلاق، والتطور والتطوير.

ولا يشك أحدٌ أن الاقتناع، وحده، لا يحقق شيئًا بمستوى الأمنيّة، وذلك الأمل، ولكنه، كحدٍّ أدنى يحقق شيئًا في دواخلنا، وذواتنا، وعقولنا. كلُّ قناعةٍ تُحدِث فرقًا ما، هو الذي نشير إليه، كمفصلٍ تاريخيٍّ في حياتنا الثقافية، إذ نقول: كذا وكذا (قبل) قناعتي، وكذا وكذا (بعد) قناعتي. يعني ذلك، بالطبع، أن تطورًا ما، في مجالٍ ما، قد وقع، وهو في فرضنا هنا، تطورٌ في مجال الرؤية السياسية لشكل الدولة المرتقب.

والذي يحدِث تغييرًا واسع النطاق، وبمستوى الرغبة والأمل، هو الاقتناع، بتحديداته السابقة، لكتلةٍ اجتماعيةٍ تتكون منها الدولة. والفرد أحد عناصرها، ولبناتها، وخلاياها التي لا تنشأ الدولة إلا بحياتها ووجودها. والكتلة الاجتماعية هذه موجودةٌ، لا محالة، في بلادنا، ومجتمعنا، والمنتدى بأعضائه الحاليين، خير دليلٍ على ذلك. ولا نستطيع أن نشترط، في الفرد المقتنع، أن يكون من "الطبقة السياسية الحالية" أو لا يكون، فالاقتناع له سمة تجعله عصيًا على الاحتكار.

ومهما كانت الكتلة الاجتماعية المقتنعة، كبيرة، واسعة، متنوعة، فإنها، على مستوى التغيير السياسي، لن تحقق شيئًا، ولن تقيم دولة، لأنها تتحرك في منطقة ضيقة جدًا، بالغة الخصوصية، وهي منطقة الذات، ذات الكتلة، ولا يصنع ذلك سوى (قبل) و(بعد) التي أشرنا إليها أعلاه، بينما من سمات التغيير أن يكون التحرك والتنقل فالتغيير في منطقةٍ خارج الذات، حيث السلوك، والأداء المجتمعي، والقصد نحو هدف ما. والقصد، والسلوك، والتحرك خارج الذات، يعني إرادة شيءٍ ما، وامتلاكه، والامساك به، وتلمّسه، لذلك فالإرادة تُعرف بعيانية آثارها، ومادية وقعها.

فلا بد إذن من إرادة، علاوة على الاقتناع، إرادةٌ أنتجها ذلك الأمل، أملٌ أوجده ذلك الاقتناع.

تتحرك الإرادة بين الذات المقتنعة، والذات الفاعلة، حين يبرز ذلك الشيء الذي تعلقت به، فبين الرغبة في الشيء، والحصول عليه مسافةٌ؛ اجتيازها لا يكون إلا بالإرادة. فالإرادة وقود عملية التغيير، وعمودها الفقري، وهي شرط أساسي من شروط إقامة الدولة الحضارية الحديثة، شرط دائم وثابت حتى بعد إقامة الدولة واستحكام أمرها، واستقرار مؤسساتها، وثبات نُطُمها الإدارية.

وهي أيضًا كالاقتناع، فرديةٌ واجتماعيةٌ، والمعول في التغيير هو الإرادة الاجتماعية، تلك التي تطال كتلةً اجتماعيةً كبيرةً، من شأنها أن (تعيد تشكيل الدولة)، وتحدد مضمونها، من خلال أمرين: الثورة أو ما يعادلها. ولا يَعْدِل الثورة، وهي عنفٌ مشروعٌ ولكن بشروطٍ، سوى تغيير أساسي في الدستور.

يُفضي بنا التحليل إلى أن إرادة كتلةٍ اجتماعيةٍ كبيرةٍ، شرطٌ مصيريٌّ في تغيير الدستور. ولكن لماذا تغيير الدستور؟ ليس هناك فجوة في التحليل الذي انتهى بنا إلى تغيير الدستور، كما -ربما- يسبق إلى الذهن، ذلك لأننا علّقنا إعادة تشكيل الدولة على الإرادة الاجتماعية، وإعادة التشكيل هذه يفرضها منطق الانتقال من الدولة المتخلفة إلى الدولة المتحضرة، ومن الدولة القديمة إلى الدولة الحديثة، وأساسًا: من الـلادولة إلى الدولة. ثم، بعد هذا وذاك، يمكننا أن نؤكد أن الاقتناع، والإرادة، والتحرك في منطقة الذات الاجتماعية الفاعلة، ليس ذلك حكرًا على أحدٍ، ولا وقفًا على مُعَيَّنٍ، فهو متاح لكل مواطن في العراق، يعيش حلم الدولة الحضارية الحديثة بتحديداتها المذكورة في هذا المنتدى. وبتعبيرٍ مختلفٍ، يمكن أن يقتنع، في مرحلة أولى، عددٌ من المواطنين، ليسوا من الطبقة السياسية الحالية، ثم تتسع خارطة الاقتناع لتطال الجميع دون استثناء، بقدر يمكنه أن يشكِّل كتلةً اجتماعيةً مؤثرةً. هذه هي (الشروط الذاتية) المستنبتة في أرضنا، غير الواردة إلينا من بلدان أخرى، وهي شروط تقع في دائرة (الممكن)، والمتاح، غير مكلفة، ولا باهظة، خصوصًا إذا لجأنا إلى البديل الثوري، وهو تغيير الدستور، من خلال إرادة اجتماعية، اقتنعت في مرحلة سابقة بمشروع الدولة الحضارية الحديثة. وستبقى هذه الشروط مقدمة مفروضة لكل تغيير ناهض في العراق الحديث، مهما افترضنا من شروط أخرى، سياسية أو اقتصادية، أو ميتافيزيقية.

 

علاء شدهان القرشي - كاتب عراقي.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم