صحيفة المثقف

الفنان التشكيلي كاظم الداخل يدعونا الى أن نفتح عيوننا على الحياة الخفية للأشياء

جمال العتابيالتعبير عن جوهر الحياة وما يجري في جوفها من أحاسيس وتأملات وصراعات، ضرورة إنسانية تمتلك قوة تأثيرها وعمق فاعليتها في أعمال الفنان التشكيلي كاظم الداخل، وتبدو قيمة الفن بحق، في محاولته الدائبة لإنقاذ الحياة من الإضطراب والخوف والإرتباك الذي يكاد يطمس ملامحها، كاظم يعي مهمته، لكي يخلق لنا عالماً أفضل ووجوداً أكثر إتساعاً وأجمل فضاءً .

في أعماله هناك معنى خافٍ لايدرك مباشرة، انه يخلق هذا المعنى بطريقة لاشعورية، قد يتضمن عمله أكثر من معنى، ليس من الصعب أن نتقصى عنه، لكن الصعب حقاً هو التوصل إلى كشف النقاب عمّا ينبض في الخفاء وراء كائنات العالم المرئي، لأن الشيء الأهم حقاً هو بلوغ السر الخفي وراء الأشياء العادية .

كاظم الداخل يدعونا الى أن نفتح عيوننا وننتبه الى الحياة الخفية للأشياء والأماكن والأشخاص، انه لايقفز بنا الى هوّة الخيال مباشرة، بل هو يحاورالواقع ويتحدى قوانينه ويدور حولها، ويختبرها حتى ينجح في خلق عالم مجاور له قوانينه أيضا،

أربعة عقود أو أكثر على مغادرة كاظم وطنه العراق، هرباً من الديكتاتورية والحروب، لكنها كانت سنوات من العمل المتواصل الشاق، المثابر الدؤوب، درس الفن في أكاديميات إيطاليا في مطلع حياته الفنية، ولم يصبح مدرساً أكاديميا، بل فناناً تعبيرياً يمتلك القدرة على التحول والتغيير، وإستطاع أن ينقل ما إستفاده من أساتذة الرسم الإيطالي تقنياً في إنجاح عمله من الناحية التركيبية بمضامين جديدة، غير أن أبرز ما إستطاع الإحتفاظ به من خصائص هو التفرد في الأسلوب، وإغناء تعبيره بشحنات إنفعالية في رسم الأشياء، وقدرته على تحميل الصورة رسالة فكرية، بجانب ما تحمله من قيم جمالية وفنية، في لوحة العشاء الأخير (عمل انستليشن)، ثلاثة عشر شخصية، المسيح وأتباعه على المائدة جوازات سفر عراقية، إنها اشارة صادمة للمتلقي، وإستجابة واضحة لرفض وإدانة عمليات التهجير القسري للمسيحيين، في السنوات التي أعقبت الإحتلال، انها صورة للوجع العراقي، وجع الغربة والموت ومصادرة حريات وكرامات الإنسان، الطاولة التي فرشت عليها جوازات السفر، هي دكة الموت والإحباط وتكسّر الأحلام، في عمل آخر بالإكريلك اسماه كاظم ( الإسطوانات) لجأ فيه الى إستخدام إسطوانة الغراموفون، الإسطوانة دلالة رمزية لحال العراق عبر دورات الزمن المتتالية، صراع على السلطة، وإستحواذ على الكراسي، قصة لاتنتهي بموت الحاكم أوقتله، لذلك عَمد الفنان الى ترك الأسطوانة الأخيرة سوداء، تحمل معها غضبها ومكابداتها، ظلت فارغة بإنتظار من يملأها . في عمل ( الواح طينية ) يتألف من 20 قطعة، القطعة الواحدة تشير الى اللوحة الخشبية المصنوعة لفرم اللحم، علقها كاظم بنسق تعبيري واحد، حملت تبريراً منطقياً لمفرمة الحروب العبثية، الفنان إستطاع ان يصطاد كل تلك الأحزان وكاشفا بشاعة الحرب ودمويتها .

هذه الموضوعات إستأثرت بإهتمام كاظم، ففي معرض (الرأس) الذي أقامه عام 2010، حاول داخل أن يمنح الحياة مجدداً للضحايا، لابد من العثور على ثغرة في الزمن وثقب المكان، نتسلل منها الى ذاكرة الأرض، ونكشف جماجم الضحايا، ومن دفنوا أحياء في المقابر الجماعية لكي يهبهم الرسام اللحم والدم، هذه الرؤوس لبشر وعقول مفكّرة ومبدعة، فلوّنها ومنحها قيمة جمالية نابضة بالحياة، لم يتعامل معها كعظام بالية غابت تحت غبار الصحراء، إنها صورة دموية لإستشهاد الإنسان فكراً وعقلا ً .كما صوّرها في لوحة (واحة المبدع)، التي ترمز لأستشهاد المفكر كامل شياع، جمجمة تحلق في سماء بغداد بنصفين، العلوي منها : مياه وبحيرة، والأسفل بغداد والرافدان، كل شيء في اللوحة مفروش بذكاء، وعناية تامة، الفضاء يتعذر فصله عن الأشكال الأخرى .

75 كاظم الداخل

نساء عراقيات، قرويات، أو من عامّة النساء البسيطات الأميّات، يجهلن ما يعرضن من بضاعة،! انها تماثيل مسروقة، تاريخ وحضارة العراق معروض للبيع بأبخس الأثمان، اللوحة في هدوء ملامحها، أشبه بصيحة، أو وحشة مرّة، كاظم الداخل مقاوم كتوم، يلجأ للرمزية والتورية أو المواربة، ليكشف البشاعة المرعبة التي عاشها أو عايشها .

منذ أعوام، بدأ الداخل العمل في مشروع فني جديد، منذ إجتياح الوحش الداعشي أرض العراق، بفتاوى للقتل، تشرّع ذبح الإنسان، تستبيح شرفه وجسده وكرامته، تهدر حياته ووجوده، منحى جديد في أعمال كاظم، في الفكرة والبناء والإسلوب، تفحّص النص المقدس بإدراك ووعي لمحاولات التأويل، وتقليص مساحة التضليل والتشويه فيه، فراح متمسكاً بالحقيقة، وغاص داخلها، بما يفرضه عليه واقع الفجيعة، دون أن يتخلى عن البعد الفني، هنا تكمن الأجوبة لأسئلة محيرة، فثمة خيط منظور يجمع فتاوى القتل وأساليبه، انه لون من ألوان التعزية لمن يعاودهم الحنين للسيوف والرماح والدروع والغزو والإستباحات الى إستعادة التاريخ المضرّج بالدم .

في أعمال كاظم، أحلام وذكريات وينبوع من الماضي، ذلك الصوت العميق الذي يوّحد الكون والكائن، ويوازن بين روح كليّة وروح أخفقت، هذا ما يمكن متابعته في معرض نوافذ للحنين، الذي أقامه الفنان عام 1993في لندن بكاليري4،إشتياق للماضي في الليلة الاخيرة، أبواب وشبابيك،شناشيل وأزقة، وجوه ومقاهٍ، هكذا يبدو الاثر الانساني وسيلة يمتلكها الفنان ليستخدمها في التعبير عن رؤيته المعاصرة، وهو يمارس عبر ذهنه الدينامي، إبداع الأساليب التي تستطيع حمل أعلى طاقة روحية ممكنة . إنه يرسم أشياءً دفينة في قلب مدينته الناصرية ووطنه العراق الذي ثُلمت أسواره

إمتدت رحلة كاظم الفنية سنين طويلة، كان فيها ينقب عن حوافز تحمله على تكوين رؤيته الفنية وهويته التشكيلية، فوجد في مفردات متناثرة متباينة تحيي رجيع قلبه وأسئلة وجوده، يجمع مذاق الماضي ودفء الحاضر، من ملحمة كلكامش ولقى سومر، الى بيئته الريف والاهوار،

ان ما يحملنا على النظر بإمعان الى اعمال الداخل هو الباعث نفسه الذي يغرينا في إستغراقه التأمل في الحياة والبيئة، معرض (الوحدة )مثلاً، إقامته في الغرب، دعته الى إرتياد الحانات الليلية، وراح يغور في أسرارها، فإقتنص بنات الليل والراقصات والسكارى والمتسكعين والشاذّين، فقدم معرضاً بتلك الاعمال وصوّر هذا العالم الذي لاسبيل لإدراك أبعاده إلا في التوغل بأعماقه .

إنشغل الداخل بهاجس التعبير عن النزعة الإيروتيكية في أعماله الفنية، فأقام معرضا خاصا عام 2002 في السويد أسماه (إيروتيكيا )،وبنظره لم تعد موضوعة الجنس إحدى التابوات التي يتوقف عندها الفن التشكيلي هناك، مثلما تبدو معضلة واضحة في بلدان المشرق العربي والإسلامي، إزاء إحتمال الرفض الرسمي أو الأخلاقي الذي يزعم انها تروّج للفن الأباحي أو المكشوف، فلجأ كاظم الى إختيار منهج آخر في نقل التجربة الحسية بكل ما إنطوت عليه من تفاصيل بجرأة عالية وصريحة، لكن بنسق تعبيري آخر، فالممارسة الجنسية يتعامل معها لابوصفها ممارسة حسية حميمة وتجربة مفعمة بالخيال والشوق والغبطة اللحظية، اوهي حالة تجلٍ وغياب، انها وفق رؤيته حالة من الهيجان والإجتياح بالعنف والقوة، هي أشبه بالإفتظاظ القسري، يريد كاظم ان يستكمل قوة التعبير من خلال حركة الألوان الحارة الطاغية على اللوحة، وحركة الجسد التي تستر أعضاء الغواية فيه، أجساد بشرية متشابكة، ملتحمة، متسلقة، رجال عراة، ونساء مكتنزات ورشيقات،إختفت ملامح وجوههن، قابعات خلف الستائر، أومستلقيات على وسائد وأسرّة . وهكذا نجد ان ملامح القهر والإستبداد والعنف، ما تزال تنخر في متخيلنا الإبداعي ووجداننا الجمالي

عناصر أليفة تتجاور وتتحاور في أعمال كاظم المنفذة بالاكريليك بعد أن هجر ألوان الزيت أو أُجبر على تركه بنصيحة طبيبه، لما يسبب له من حساسية عالية في إستخدامه، فراح يتعامل معه بطريقة تقنية تقترب من الزيت،ويبتعد فيها اللون عن البريق، بمعنى آخر ان كاظم خرج عن طاعة الزيت الذي كان يخفق على بياض اللوحات، فقدّم لنا أعمالاً بإنصات حميم هادىء مع بعض الشخصيات من الشعراء : السياب ومظفر النواب والجواهري، في أعمال فنية إرتقت فيها المهارة التقنية حد التنغيم اللوني في التشكيل، الجواهري في مقهاه في براغ المغرم بالنساء البدينات الممتلئات جسداً، والسياب يطلّ على شباك وفيقة، ومظفر النوّاب المسافر في ( الريل )الى جنوبه العميق، والشاعر محمود البريكان المقتول غدراً والآخر الشاعر العراقي الذي مات في الغربة ضياء مجيد، في هذه الأعمال إستطاع أن يعيد تأليف المنثور من حبّات القصائد، وحوّلها قطعاً فنية متكاملة تستحث الرغبة في الدخول الى العوالم الخاصة بالشعراء، المشاهد تحمل حرارة الحياة أو تلك العاطفة الانسانية الودود، جميلة حد الألفة، تدخل في حدود مملكة التعبير الفني بقدر ما هو مشحون بها من شعور يملك القدرة على احياء ذكرى المادة المنسية والمهجورة معا .في المجموعة هذه من الاعمال نبرة لونية ساطعة، وتظليلات هادئة لسواكن الشعر، لتمنح سطح اللوحة المترع بجمالية التشكيل،نوعا من التوازن المتناغم كما يرى (موندريان) .

لم ينشغل كاظم في النحت كثيراً، كان مهتماً في اللون المضمّخ بالعاطفة، الا انه قدم بعض المجسّمات في معارض محدودة أقامها في الخارج، وهي أعمال لاتترك أثراً تشكيلياً يحمل هويته وتفرده الفني، لكننا نتوقف عند أحد الأعمال المجسمة وهو (11 سبتمبر)، مكعبات من الخشب، تمثل برجي نيويورك اللذين تعرضا للتفجير بعمل ارهابي عام 1991، هناك 3 الآف صورة أو اكثر تمثل عدد الضحايا في حادث الإنفجار، الفنان هنا يريد القول ان هذه الصور غابت عن الأبصار، غير انها لاتغيب عن البصيرة، قد تعود من جديد بصور جديدة وفي زمن آخر لتشهد على حجم الجريمة التي تتعرض لها الحضارة والإنسانية، برجان عملاقان من مكعبات مرصوفة بالوجوه، تثير شعوراً بالقلق على عصر مخترق من الأعماق ومطعون بأخلاقيته، انها لغة كاظم الهجائية المرّة، هناك إستدلالات تختفي دائما في الوراء، إلا ان الإشارات الرمزية واضحة لإيجاد نوع من التوازن في اللوحة .

كاظم الداخل من مواليد 1950 في مدينة الناصرية، تخرج من أكاديمية الفنون الجميلة في روما عاصمة ايطاليا عام 1987، يقيم الان في مالمو – السويد ومتفرغ للرسم، غادرالعراق عام 1979 لاسباب سياسية، أقام 38 معرضا شخصيا، و21 معرضا مشتركا، نال الجائزة الأولى في بيناله الكويت عام 1982، من مؤسسي جماعة كاليري 75 في البصرة، أقام معارضه في أغلب عواصم ومدن اوربا : لندن، روما، فلورنسا، مالمو، برمنغهام، كوبنهاكن، وفي دمشق كذلك، ونال جوائز عديدة

 

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم