صحيفة المثقف

وعي الذات في التفكير الفلسفي (2)

علي محمد اليوسفما عدا فلاسفة المثالية، جميع فلاسفة الماركسية والوجودية والبنيوية والتفكيكية والعدمية خرجوا على كوجيتو ديكارت، في اقرارهم صاغرين بان التفكير عقليا في صمت اللغة كوسيلة ادراكية لا يمكنها تحديد او تحقيق فهم الوعي الخالص، بمعزل عن اقتران ذلك الوعي بهدف يجعل منه جزءا من منظومة اجتماعية وجودية تعيش الحياة بأي شكل من الاشكال.لكنهم ابتدعوا مثالية ابتذالية بما لايقاس مع الفلسفات المثالية، تلك هي فلسفة (اللغة) باعتبارها مرجعية ومرتكزا في حل جميع اشكاليات الفلسفة التي كانت اللغة سببها في سوء استخدامها متناسين،اهمها التفكيكية التي رفعت شعار (لا شيء خارج النص)، ان قصور الفلسفة كتفكير منطقي تجريدي هو المبتدأ والمنتهى، واللغة في كل الاحوال هي وعاء الفكر الذي يخدم الفكر ويعبر عنه يحيادية شبه تامة.

في هذا المنحى نجد هيدجر اراد ان يخرج وعي الذات من المجرد الفكري داخل منظومة العقل، الى اثبات الوعي وجودا وكينونه في وعيه الاشياء كمتعّين انطولوجي، لا يمكن ادراكه لذاتيته من غير وعيه العالم الخارجي وادراكه له. فوجود الاشياء في العالم الخارجي لا يرتبط بعلاقة مع الفكر، من دون ان يجعل الوعي منها و بها والتفكير الادراكي لوجودها، موضوعا وكينونة متعينة مدركة عقليا وذهنيا في اسبقية الفكر على اللغة، في وقت تكون الفكرة ولغتها شيئا واحدا في الواقع الخارجي والعالم المحسوس.

سارتر وميرلوبونتي ولغة الصمت

ان الانسان العاقل يفكر ذهنيا وهوصامت، ويفكرصمتا وهو نائم في اللاشعور، ويفكرصمتا وهو حالم الهاميّا خياليا، والصمت لغة حوار العقل مع ذاته داخليا في الموضوع، فالعقل لا يفكر في فراغ – سنوضح هذا لاحقا – ويكون تفكير الصمت بلا لغة تعبير تواصلي افصاحي ايحائي لا يشترط توّسله اللغة ممكنا وجودا، عندما يكون الصمت هو تفكير في موجودات مادية واقعية تكون مادة تفكير صامت، او ان مواضيع التفكير الصامت خيالية لا وجود لها ماديا متعينا في الواقع، يتناولها العقل بالتفكيرالذهني المجرد قبل اعادتها ثانية الى الادراك التعبيري عنها ماديا صرفا او متعينا ادراكيا بواسطة اللغة، والصمت الذي يفكر بموضوعه ذهنيا لا يلغي دور العقل او لايستطيع الاستغناء عن الوظيفة العقلية في الوعي والتفكير بالاشياء.ان وظيفة العقل (الدماغ) في التفكير بالمجردات الذهنية ارقى درجة منها التفكير في الموضوعات المادية التي يعقلها العقل كواقعات مادية ويدركها ظاهراتيا او ماهويا.فالعقل في ملازمته الخيال ورقابته على اللاشعور وتداعيات التصورات الذهنية تكون مهمته اصعب من مهمة العقل في تناوله الماديات والموجودات والاشياء في الطبيعة، لكي لا ينتج عن التفكير الخيالي الذهني المجرد اصوات وهذاءات تعبيرية لا تعطي المفكّر به من موضوعات مادية  او مجردة استحقاقها الوعوي الادراكي كما لاتعطي الهذاءات غير العقلية وعي الذات مصداقيتها.

يقول سارتر:( ان مسألة اللغة تسير جنبا الى جنب مع مسألة الجسم)(5)، وهي عبارة سليمة في توكيد بديهة بايولوجية فيزيائية، ان اللغة لاتفارق جسم الانسان العاقل الناطق باعتبارها خاصية انسانية يتمايز بها الانسان ويحتازها لوحده من دون الكائنات الحية في الطبيعة. وفي نفس المقاربة التعبيرية يقول ميرلوبونتي( الكلمة ايماءة حقيقية لانها تتضمن معناها، وليست عشوائية او طبيعية ).(6)

الصمت لغة تواصلية

الانسان في جنبة اولية محورية جوهرية من كينونته الطبيعية هو انه وجود عقلي لغوي ناطق. فالانسان يفكر وهو يتكلم ويفّكر وهوصامت ويفّكر لا شعوريا وهو نائم، ويفكر وهو في حلم اليقظة، ويفكر وهو ماشيا لوحده او مع مجموع. وفي كل حالات الصمت يحتاج الانسان التعبير اللغوي او الكلامي او حتى الصوري عن بعض الاشياء والموضوعات، ويكتم او يستعصي عليه التعبير عن بعضها، او يتعذّر عليه الافصاح التواصلي في بعضها الاخر. اذن الانسان وجود مفكّر في صمته وفي الافصاح عن بعض تفكيره الصامت في الكلام او اللغة او الكتابة او في اية وسيلة توصيل اخرى.والانسان هو كينونة عقلية ادراكية تفكيرية، ولغوية ناطقة،وخيالية تجريدية، تحتويها كل خصائص الانسان المادية وجودا.

يقول ميرلوبونتي (اذا كانت اللغة كيان باطن، فان هذا الباطن ليس فكرا مغلقا على ذاته وواعيا بها).(7) انه لمن المهم ادراكنا ان اللغة في التفكير الباطن العقلي اي الصامت، هي وسيلة العقل ان يعقل نفسه ووسيلة العقل في وعي الاشياء المادية وغير المادية الروحية ذهنيا.كما ان العقل هو الوسيلة الوحيدة في ادراك وفهم الوجود الخارجي ولا بديل عنه.اما اذا بقي هذا الادراك العقلي منغلقا على العالم الخارجي، في عدم ادراك تواصله الجدلي مع الاشياء والموضوعات،فهنا يصبح الانسان كيان لغوي حواري داخلي صامت فقط مفارقا لجوهر انسانيته، وهو محال ان يكون وضعه هذا دائميا في ملازمة الصمت بالنسبة لانسان سوي عاقل وناطق ايضا سواء يعيش منعزلا او يحتويه مجتمع.ومحال ايضا ان يكون الانسان خارج طبيعته بخصائصها الانسانية اهمها انه انسان ناطق ومعبّرا عن الاشياء لغويا، وفي ان لا يوجد ويكون جزءا من الطبيعة متفاعل مع مظاهرها، لا ان يكون كيانا مفكرا بذاته فقط، منعزلا عن واقعه ومحيطه الاجتماعي. ولا في تعطيله لغة الحوار التواصلي مع الآخر.الصمت الانساني هو حوار لغوي داخلي يعمل في الذهن البشري المفكر، بينما يكون صمت الحيوان (عدما) غير متعين لا عقليا ولا ذهنيا ولا تفكيرا منطقيا ولا تعبيرا لغويا. فهو صمت يغيب عنه العقل بخلاف الانسان. في عجزالحيوان الصامت ان يكون صمته تفكيرا خياليا محكوما بوعي زماني ومكاني، كما عند الانسان حيث يقوم العقل ومن ثم اللغة على تنظيم ذلك التفكير الخيالي في وعيهما الزمن افتراضا. في هذا تكون علاقة الانسان بالطبيعة اثراءا لوجوده، وبقيت علاقة الحيوان بالطبيعة افقارا لوجوده لولا تدخل ما يسمى محميات الحفاظ على التنوع البيئي والحيواني والنباتي من الافقار التدريجي الذي يقود الى اختلال بيولوجي مفزع في الطبيعة يقود الى انقراض العديد من الكائنات الحيوانية والنباتية، ومن هنا كان الانسان كائنا وجوديا مستقبليا، اي يفكر بالمستقبل بما لايتوفر للحيوان ذلك الا مع تدّخل الانسان بالطبيعة في جعل الذئب يرعى مع الغنم عندما انتفت الحاجة الى القتل والافتراس الحيواني لاسكات (الجوع) في محميات الحفاظ على التنوع البيئي الطبيعي.كما انتفت مقولة هوبز الانسان وجود تلازمه غريزة القضاء على الانسان من نوعه وتدميره منذ بدء الخليقة والى يومنا هذا.

لغة الصمت التواصلي الفني حركيا جسديا

لغة التعبير الفني مثلا في النحت والرسم وفي جميع جماليات الفنون التشكيلية، هي ايضا لغة حوار داخلي صامت معبّرا عنه بوسائط توصيل هي غير لغة الكلام او الكتابة.وتكون لغة الحوار التواصلي في حالة كمون يستنطقها الانسان المتلقي للفن والجمال ويفهمها حسب ثقافته وتكوينه النفسي والجمالي.واللغة الصامتة بالفن منتج عقلي للفكر وتداعيات اللاشعور.اما لغة التعبير الانساني الكلام او اللغة المكتوبة فهي منتجات مصنع الحيوية العقلية الانسانية المتفردة خياليا او فكريا تواصليا، وبذلك يصبح الانسان كائنا لغويا يفكر وهوصامت وفي مخياله حضور ووعي الزمن الماضي والحاضر والمستقبل. وهذا النوع من الادراك بالزمن والمستقبل لا يتوفر عليه الحيوان.فالحيوان لايعي الزمن مثل الانسان، حتى وان كان هذا الوعي الزمني(افتراضيا) كما يمارسه الانسان افتراضا وجوديا لا غنى عنه .

الانسان كينونة تمتلك فينومينولوجيتها وماهيتها وجوهرها المعبر عنها في جميع صفاتها وكيفياتها التي تجعل من الانسان كائنا متمايزا في هوية جوهرية ماهوية مستقلة، وفي هذه الخاصية يتأكد استحالة الاتحاد الانساني غير القابل للتسوية بين الوجود في ذاته، والوجود من اجل ذاته، ومثال هذه الاستحالة تتمثل في محاولة الصوفية تحقيق الاتحاد الانجذابي الاتحادي المؤقت بين الله الذي هو وجود (بذاته)، مع الانسان الذي هو وجود (لذاته) في كيان مادي ماهوي متعيّن،الله كيفية افتراضية لا يمكن اتحادها بكيفية انسانية مغايرة مادية. والله كائن نوراني كما تذهب له الصوفية، لا يدرك عقليا وغير متعيّن ماديا بالنسبة لادراك الانسان في محدودية ادراكه الوجود اللانهائي. وفي هذا الفارق الجوهري الكبيرممثلا في تغاير (كيفيتين) احداهما روحانية لا يدركها عقل الانسان والاخرى مادية تتمايزماهويا ذاتيا، كما تتمايز بعلاقتها مع قوانين الطبيعة التي يتحكم بها مطلق الزمان ولا محدودية المكان.وبهذا فالانسان كيفية لا تلتقي الا مع كيفيات اخرى تشترك معها بالصفات الجوهرية المادية والماهوية من نوعها تتجانس معها في كل او بعض الصفات والماهيات ضمن ضوابط قوانين الطبيعة.

وعي الذات في الشعر

لغة التخييل الانساني هو قسمة مشتركة بين وعي ذاتها ووعي المدركات المادية وغير المادية، كذلك مفهوم الخيال في وعي الانتاجية الفلسفية او الجمالية،وفي نظم الشعرية الادبية الفنية، وفي اية فعالية فنية جمالية ينتجها الانسان ويلعب الخيال الفاعل دورا مهما فيها، وفي مجمل الفنون التشكيلية والنحت وغيرهما، كذلك الحال في ابداعات الاجناس الادبية الشعر والرواية والقصة ومختلف السرديات التي تعبر عن جماليات الادب والفنون عامة.في كل ما ذهبنا له يكون الخيال المنتج حاضرا.

رغم اني في عدة مقالات فلسفية منشورة لي تناولت فيها علاقة التعبير اللغوي كقاسم مشترك يتوسط التعبيرين الفلسفي والشعري، الا اني اجد في هذه المقالة المرور السريع بهما. فالشعر بخلاف فلسفة افلاطون المثالية الذي طرد الشعراء من جمهوريته الفاضلة، هو اكثر انواع التعبير الانساني الذي يتعالق تواشجيا ارتباطيا بالتعبير الفلسفي كما يذهب له نيتشة وهيدجر وغيرهما.

لغة الخيال العقلي غير المرضي المنتج،هو قسمة مشتركة بين الفلسفة والشعر باختلاف ان لغة التعبير الفلسقي تلتقي بالشعر في ناحية انها ايضا تتعامل بمنطق التعبير اللغوي التجريدي الذي يتداخل فيه الخيال مع الفكر،لكن التعبير الفلسفي التجريدي لا يلغي هيمنة العقل ورقابته الصارمة، على العكس من الشعر الذي يطغى فيه الخيال وتداعيات التهويم اللاشعوري في اللغة وتمردها وخروجها عن سلطة العقل،اللاشعور الشعري لا يتوّسل العقل في التنظيم اللغوي، ولا يستدعي الشعر رقابة العقل في لجم الخيال المتداخل في جوهر منطق التعبير الشعري الذي ينتهك اللغة المنظمة ويعمل على جعلها لغة تهويم خيالي يخرج باللغة عن مألوفيتها التواصلية التداولية في ابتداع لغة خاصة خارج التنميط العادي للغة.في وقت ترى الفلسفة لغتها التعبيرية في حضور صرامة العقل في تنظيم التفكيرالمنطقي الفلسفي رياضيا، اي ان تكون صياغة الافكار فيها تقترب جدا من صرامة علم الرياضيات.

الفلسفة في خروجها المنطقي التجريدي عن التنميط اللغوي التواصلي اجتماعيا، تذهب باللغة الى مجاهل الفهم الاستعصائي على التلقي المباشر، فهي تستدعي العقل في رقابته الصارمة ان لا يخرج التعبير الفلسفي العقلي، الى منهجية اللاشعور في غلبة الخيال في انتاج تعبير اللامعنى واعدام نظام اللغة التقليدي كما يفعل الشعر.

اؤكد ماسبق لي ذكره ان عبقرية اللغة سابقة على عبقرية الفكر، كما ان جمالية اللغة اسمى من جماليات التعابيرالتواصلية الاخرى التي لا تتوسل اللغة قيمة عليا في التعبير. رغم ان تراتيبية انتاجية العقل للغة لا يسبق انتاجية العقل للفكر. وفي حال صمت الانسان يكون تفكير الدماغ في الموضوع سابق على لغة التعبير عنه.

في العقل المفكر تكون اللغة هي الفكر ولا تفريق بينهما خارج الذهن كما لا تفريق بينهما داخله ايضا.واللغة لا تنوب عن الفكر، وكذا لا يستطيع الفكر الانابة عن اللغة. فاللغة هي الفكرداخل العقل وخارجه في ترابط لا انفكاك بينهما.واللغة والفكر حوار داخلي غير مفارق ولا معلن، وكذلك هما خارج العقل حوار عقلي معلن لا انفكاك بينهما في فهم احدهما بمعزل عن الاخر. اللغة والفكرة تعبيرمتداخل واحد عن موضوع ملازم واحد في زمنية لحظوية محسوبة، ولا يفترقان(اللغة والفكر) عن الخيال العقلي المنتج لهما عنما يصبحان تعبيرا ماهويا ومظهريا لموضوعات العالم الخارجي، ولا في التمايز الدلالي بينهما، متى ما اصبحت الفكرة واقعا ماديا دلاليا معبرا عنها بلغة يدركها المتلقي في ظاهرياتها، اوبما تستبطنه الفكرة من دلالات تحمل فائض المعنى لغويا بلا نهاية قرائية استقبالية للنص.الفكرة في العالم الخارجي ترتبط بعلاقة اندماجية مع اللغة.

اللغة بين المثالية والمادية

هل هذا الترابط في العنوان صحيحا مقبولا منطقيا عقليا وفلسفيا؟ بالتاكيد هذه العنونة خاطئة في اعتبار اللغة مادية ام مثالية بمعزل عن حضور الفكربالرغم مما اكدنا له ان لاوجود للفكر في عالم المحسوسات لا تعبر عنه وتلازمه لغة.،ولتبيان ان المقارنة الصحيحة بين مثالية التفكير او ماديته لا تحدده (اللغة) بل يحدده الفكر المادي او المثالي، واللغة لا تكتسب هي ولا تكسب الموضوع الذي تعبر عنه صفة او ماهية التفكير المادي ولا المثالي.التساؤل القديم الذي طرح نفسه في الفلسفة والمعرفة هو ان (الفكر) وليس (اللغة) بضوئه يتحدد التفكيرفي تمييز المثالي عن المادي. التفكير المادي كانت بدايته منذ ديمقريطس، والمثالي كان منذ فلسفة افلاطون، وبقي الصراع الفلسفي الفكري قائما حتى بلغ ذروته عند هيجل وفويرباخ وماركس، في مقابل كل الفلسفات المثالية الالمانية والانكليزية التي عايشت الماركسية وبقيت تتناسل فلسفات مثالية بعد افول نجم الماركسية، لعل ابرزها الفلسفة الامريكية في البراجماتية الذرائعية.وصولا الى تيارات الفلسفة المعاصرة وصولا الى العولمة.

لا يمكننا نكران ان فلسفات علوم اللغة واللسانيات الحديثة والمعاصرة تعتبر عزل اللغة عن الفكراستحالة ادراكية مفهومية داخل التفكير الذهني وخارجه، وان الفكرة واللغة حين ينعدم احدهما لا يبقى دلالة او معنى للاخر. وهو مبدأ صحيح عندما تتحول الفكرة الى واقع او كيان مدرك خارجيا بوسيط اللغة الملازم للفكر. اما من حيث ان الفكر واللغة كلاهما فعالية مضمرة عقليا في الدماغ، الذي لم يعط ايعازه في جعلهما واقعا محسوسا او مدركا لموضوع او اكثر في العالم الخارجي، فيها يكون التفكير سابق على تعبير باللغة كوسيط تداولي في فهم وتلقي الموضوع. وللتوضيح اكثر ان في العقل او الدماغ تحديدا تكون اللغة والفكرة وجودا واحدا لا يمكن التفريق بين الفكرة واللغة المعبرة عنها، فالادراك يكون اوليته للمحسوس المتعين صوريا(الموضوع) الذي يكون وجوده سابقا على ادراكه ماديا فكريا ولغويا في العالم الخارجي، وليس في ادراك العقل للفكرة ولغتها كوجود باطني في عقل الانسان لذاته وفي عقلنة الاشياء في وجودها الذهني فقط. فالادراك الحسي او العقلي للاخر، لا يستطيع معرفة الاشياء والموضوعات وهي فعالية عقلية تجري في الذهن كافكار يتداولها العقل قبل الافصاح عنها خارجيا لغيره من العقول المدركة.بمعنى استحالة ان يعرف شخص ما يدور في عقل وتفكير شخص آخر قبل تعبيره عما يفكر به بالكلمات.

حين تنقل صور الاشياء والمحسوسات الخارجية الى العقل، فالعقل يجري عليها عمليات معقدة لا يمكن ادراكها الا من قبل العقل الذي يحمل المواضيع ادراكا منتجا جديدا لها فقط، قبل ان يعيدها ثانية الى العالم الخارجي ليتم ادراكها في شروط العقل الجديدة من حيث اعطاء العقل لها زمانيتها ومكانها واسباب وجودها وتعلقها مع غيرها من موجودات العالم الخارجي وامور اخرى عديدة لم يكن الموضوع متوفرا عليها قبل تداوليته التصنيعية الجديدة عقليا له.

مسألة مهمة جدا ان موضوعات واشياء العالم الخارجي لا يتم ادراكها تماما، ولا يكون استقلالها الوجودي المستقل في العالم الخارجي، هي نفسها في ظاهرياتها وماهوياتها بلا تغيير، او واضحة الادراك قبل انتقالها من واقع المحسوسات الى واقع العقل والذهن وبعد عودتها ثانية الى عالم الاشياء المدركة المحسوسة. في هذه العملية في نقل المحسوسات الى العقل واعادة العقل انتاجيتها وتصنيعها واعادتها الى العالم الخارجي بواسطة التعبير اللغوي او غيره من وسائل التواصل، لا يشترط ان يكون حضور اللغة في نقل الفكرة العقلية الى العالم الخارجي  امرا اولويا بل ثانويا في اسبقية الفكر، اللغة لا تسبق الفكرة داخل العقل أو الدماغ، لكنها تسبقها عندما تعود الفكرة من العقل الى العالم الخارجي بواسطة اللغة او غيرها من وسائل التوصيل للافكار.فالفكر في العالم الخارجي يكون ادراكه الموضوع ثانويا، مقارنة مع تعبير اللغة عنه لتوصيله للمتلقي ادراكيا.وكلا الادراكين الفكر واللغة يتراجعان امام اسبقية ادراك العقل للاشياء والمحسوسات.

مثالية اللغة ام مثالية الفكر؟

بعد تراجع الاهتمام الفلسفي بالماركسية والوجودية، سادت الفلسفات المعاصرة التي ابتعدت كليا عن التصنيف الثنائي المثالي والمادي الذي اعتبرته تفريقا استهلك نفسه وتصنيفا ابتذاليا انتهت عصوره، يتوجب مجاوزته شأنه شأن مجاوزة مباحث الفلسفة الميتافيزيقية.وانبثقت الفلسفات الوجودية والبنيوية والتفكيكية والعدمية والتاريخية، ومدارس وتيارات الحداثة وما بعد الحداثة، وجميعها تجاوزت الفهم المادي الماركسي الكلاسيكي الابتذالي حسب زعمهم، واستطاعت هذه الفلسفات المثالية في جوهرها سحب الفلسفة ومباحثها الى مركزية الدوران حول محورية (اللغة) ام كل مصائب الفلسفة على حد تبرير اتهاماتهم الفلسفية للغة، واستطاعت هذه الفلسفات استبعاد مباحث الفلسفة من الاهتمام بالانسان وقضاياه واعتبرت الوجود السابق على عدم معرفة اهمية اللغة في كتابتها تاريخا زائفا مليء بمباحث فلسفية، جعلت من صنمية ومرجعيات مثل العقل او اللوغوس والانسان والحقيقة والتاريخ والسرديات عموما، يقينيات زائفة لم تضف لعالم المعرفة الحقيقية شيئا.وهذه مبالغة في الادانة وخلط الامور من اجل تحميل اللغة كل مساوىء واخطاء الفلسفة وعالم المعرفة.

امام الادانة الفلسفية المعاصرة في البنيوية والتفكيكية والعدمية ل(اللغة) في خيانتها للفكر والفلسفة على امتداد تاريخها، لم يبق هناك اي معنى تبرئة اللغة من افتعالية الطرح الميكانيكي الساذج، ان تكون مثالية او تكون مادية،ان في عدم التفريق بين الفكر واللغة على صعيد الفرز الفكري المثالي عن  المادي، اوضحناه في سطور سابقة ولا بأس من التذكير به سريعا.

اللغة كما اتضح معنا وسيط ناقل تعبيري غير ميكانيكي للفكر، ولا يمكن للغة ان تنوب عن الفكر كونه انتاجية ذهنية تسبق التعبير اللغوي الصادر عن الذهن ايضا.من السذاجة ان نعتبر اللغة مثالية حينما تعبر عن فكرة او تفكير مثالي، او  تكون اللغة ايضا مادية في تعبيرها عن الفكرة او الفكر المادي، اللغة وعاء الفكر لكن لا تنوب عنه. كما لا يستطيع الفكر الانابة عن اللغة التعبيرية التداولية الا في مباحث علم الجمال والمنحوتات والفنون التشكيلية وبعض مواضيع القيم الدينية منها التي تكون لغة الاستقبال والتواصل بها شعورا وجدانيا خالصا لا يحتاج لغة اللسان او المخاطبة كلاما.

ومادية الفكر او مثاليته لا تحدده اللغة بل العقل المنتج لكليهما. والفكرة او الموضوع يأخذ سمته المادية او المثالية، من طبيعة ادراك العقل للموضوع او الفكر واجراء عملية انتاجية معقدة لها فيه، لا تزال لغزا محيّرا امام  كيف يعقل العقل ذاته في نفس وقت هو يعقل الفكر وموضوعاته. في هذه العملية تكون اولوية معالجة الفكر بالدماغ على ثانوية تعبير اللغة عن الفكرة او الموضوع المفكّر به. اللغة تعبير مرحلة ثانية في انتاجية العقل للموضوع ولغة التعبير عنه. واللغة تعبّر عن الفكر المادي والفكر المثالي كليهما في نوع من الحيادية غير الميكانيكية المتداخلة معهما.وليس في مكنة ومقدرة اللغة تحديد المادي عن المثالي قبل تحديدهما وفرزهما من العقل كفكر ابتداءا.

فاللغة كما مر بنا لاتكتسب ماديتها او مثاليتها من الموضوع، ولا تستطيع اكساب الموضوع ماديته او مثاليته بنفس المعنى والآلية.اللغة تتعامل مع الاشياء وموضوعات الفكر بحيادية غير ميكانيكية يفرضها الموضوع المفكر به والمنتج عقليا. ولا تحدد اللغة نوعية وجوهر موضوعها ماديا ام مثاليا قبل حسم العقل لها تفكيرا في مصنع الحيوية الانتاجية العقلية للافكار.

فهم اللغة مثاليا

يقول ميرلوبونتي( ان التعبير اللغوي خلاق دائما ولا ينفصل عن موضوعه). وبتعقيب عبد الوهاب جعفر في كتابه الفلسفة واللغة (ونحن نقبل هذا التصريح طالما كان الالتزام باللغة يجعلنا منفذين لكل ما تقترحه علينا من عمليات عقلية)(9).

كما مر بنا اللغة لا تقترح ولا تلتزم الاخذ بما يقترحه العقل من عمليات ذهنية، لان ترابط واندماج اللغة مع الفكر داخل انتاجية مصنع العقل، لا يلغي ان عبقرية اللغة الخلاقة لا تقوم على جعل الفكرة او الموضوع خلاقا يتجاوز تراتيبية العقل في اضفاء التخليق الجديد على الفكرة المعبر عنها بالكلمات. ان اللغة تختلف عن الموضوع المادي المستقل، داخل وخارج انتاجية العقل على مستوى التعبير اللغوي الجمالي الذي يمنح الموضوع تلقي تداولي تواصلي لا تستطيع الفكرة المجردة عن اللغة التعبير عنه وتوصيله.واللغة من الممكن لها ان لا تكون ملازما لصيقا لا يمكنها الانفصال عن موضوعها حسب تعبير ميرلوبونتي، وهي مسألة جرى توضيحها من قبلنا في سطور سابقة.ان تكون اللغة خلاقة ليس على حساب صياغة مضمون المنتج العقلي لكل من تلازم الفكر واللغة.بل تكون اللغة خلاقة ليس لانها لا تستطيع الانفصال عن موضوعها، بل في امكانية عبقرية اللغة جماليا جعل الموضوع او الفكرة واقعا ماديا مدركا في العالم الخارجي بعد تصنيع العقل له ادراكيا ذهنيا، وتبقى هنا الادانة محصورة على نقد الفكر كمضمون فلسفي وليس نقد اللغة على مستوى التوصيل الدلالي التداولي.لا الافكار ولا اللغة المادية منها او المثالية عاجزة عن خلق موضوعاتها، بل الموضوعات في وجودها المستقل، هي التي تفرض على الفكر تناولها وتعطيها اللغة التعبير عنها.

ان المبدا الفينومينولوجي (ان كل وعي هو وعي بشيء ما) لا يجعل من مثالية الخطاب الفينومينولوجي خطابا فلسفيا ماديا. وهو خطاب يحاول الالتفاف على التفكير المادي وقد سبقه كل من هوسرل و سارتر وهيدجر في هذا المنحى. في اعتبارهم الوعي الذاتي زائفا مالم يقترن  بقصدية او ديناميكية تجعل من الوعي وجودا متداخلا في الكلية المجتمعية. وخير تعبير على هذا الخلط بين المادي والمثالي نجده عند ميرلوبونتي قوله( ان يقين الوعي الفينومينولوجي يتمخض عن – خلق – وليس معطيات، والعالم الفينومينولوجي لا وجود له، اذ ان  الوجود لعالم تخلقه الفينومينولوجيا،هو عمل انجبته اللغة لا عن عمد او قصد)(10)

ان الظاهراتية او الفينومينولوجيا فلسفة مثالية صرف تعنى بالحسوس المدرك ظاهراتيا، حين تتصور ادراك ظواهر الاشياء يقينا،انما تنجبه وتخلقه اللغة كما مر بنا في عبارة ميرلوبونتي، عفويا لا عن تعمد ولا عن قصد. متى كان الفكر يخلق اشياءه ومواضيعه بعفوية ولا قصدية حتى تتمكن اللغة تلقي وعي الذات للاشياء وتنجبها من غير عمد ولا قصد؟

ان تراتيبية ادراك الشيء ظاهراتيا او ماديا وحتى مثاليا لا يغير من حقيقة ان الموضوع المحسوس ابتداءا ينقل الى العقل حسيا او صوريا ويعالج ذهنيا، والعقل يقوم بدوره في انتاجه ثانية، وفق شروط العقل وماهيته او صفاته قبل اعادته  الى واقع المدركات بواسطة اللغة او الكلمات كمتعين وجودي مدرك في تمظهراته او في جوهره.

 

الباحث الفلسفي علي محمد اليوسف /الموصل

............................

الهوامش

5- نفس المصدر السابق ص 58 ايضا

6- نفس المصر السابق ص 127

7- نفس المصدر السابق ص 61

8- نفس المصدر ص63

9- نفس المصدر نفس الصفحة

10- نقلا عن عبد الوهاب جعفر، نفس المصدر السابق ص 64

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم