صحيفة المثقف

المجاز بين الصورة الروائية والصورة السينمائية

محمد فاتييحفل كل خطاب إبداعي بمجموعة من الصيغ التخييلية والأساليب التعبيرية المساهمة في بناء عوالم النص الجمالية، وإذا كان النص الإبداعي يناقض المحاكاة المباشرة للواقع ويعمل على رسم معالم فنية وجمالية لهذا الواقع في بناء جديد يستلهم مختلف الخصوصيات التعبيرية، فإن المجاز من أهم هذه الخصوصيات التعبيرية التي تلجأ إليها مختلف المجالات الإبداعية، وعلى رأسها الرواية والسينما. فما هي أهم خصوصيات المجاز في الخطابين؟ وهل طرق التبليغ البلاغي متطابقة بينهما أم مختلفة؟ وما هي أهم الوسائل التي يرتكز عليها كل خطاب في بناء عوالمه المجازية؟

المجاز وسيلة تلجأ إليها النصوص الإبداعية، لترجمة التمثلاث الخارجية من خلال طرق غير مباشرة، تقوم على التشبيه أو الاستعارة أو الكناية...حيث يسعى كل خطاب إلى عكس صورة الواقع والمواضيع المرتبطة به بأساليب فنية تتجاوز النقل المباشر، والرصد التقريري، والنسخ المماثل، إلى أساليب وصيغ بلاغية تعمد إلى تجميل الأسلوب وتزيين التعبير وتلميع صورة المنقول، والهدف من كل هذا هو إشراك المتلقي في عملية الكشف عن عوالم الجمال والخيال في النص الإبداعي من خلال تنشيط ذاكرته وفكره وتصوره.

والمجاز من الأدواة اللصيقة بمجال الأدب، خاصة الشعر الذي تشكل جوهره وأساسه، بل إنها النواة الأساسية في لغته. طالما أن الشعر يجنح إلى الخيال والإيحاء بأساليب بلاغية تقوم على التشبيه والاستعارة والكناية...كذلك تعتمد الرواية هي الأخرى على المجاز اللغوي، باعتباره " وسيلة الرواية الخاصة في ترجمة الصدمة الناجمة عن التشابه بين الأشياء"[1]، ولا تكمن قيمة المجاز الروائي في بعده الرمزي فقط، بل في " قدرته على الارتباط بالمعاني المقصودة بغير إحداث أي خلل بالنسبة للمعنى الأصلي"[2].

وتستند الرواية في طاقتها التخييلية والمجازية على منظومة لغوية، مستقاة من طبيعة الجنس الأدبي القائم على بنيان أسلوبي ـ لغوي، وبهذا فإن أركان الرواية تتشيد من خلال مختلف الوسائل التعبيرية التي يعتمدها السارد في تلوين روايته أسلوبيا وبلاغيا. وبينما يرى العديدون أن منطق الحكي في الرواية يقتضي نقل أحداث وسردها بواسطة لغة محاكية وقريبة من تلكم الأحداث الواقعية، وبالتالي فإن حكمهم على أسلوب الرواية هو حكم يقربها من الطابع التقريري الذي تغيب فيه سمة المجاز والتخييل على عكس أسلوب الشعر . فإن البعض الآخر لا ينظر إلى لغة الرواية في تجلياتها الظاهرية، وأحداثها السطحية الموهمة بالواقعية، بل باعتبارها لحمة وتركيبة تتداخل فيها مجموعة من النوازع: الذاتية والموضوعية، التخييلية والواقعية، الحقيقية والمجازية...ولهذا فهي تجمع في نسجها بين مادة قد تكون واقعية وحقيقية وبين أساليب تنأى عن التعبير المباشر وترتقي إلى البوح بلغة جمالية تستمد قوتها من مختلف الطاقات التعبيرية التي تزخر بها الرواية كفن تعبيري جمالي.

والرواية هي جنس أدبي حكائي يستند على مجموعة من المكونات والسمات والخصائص كالأحداث والشخصيات والزمان والمكان....، وهي خصائص تشترك فيها مع مجموعة من الأجناس الحكائية، ولهذا فإن المجاز الروائي يجب أن يراعي تنوع المكونات الروائية وخصوصيات كل مكون، مع ضرورة الوعي بالسياقات المختلفة التي تحيط بالعمل الروائي. وكما أن الشعر يعبر في لغته بالتشبيه والاستعارة وغيرها من التعابير المجازية، فإن الرواية هي الأخرى ستوظف هذه التلوينات البلاغية في تركيبتها ونسقها الحكائي، بشكل ينسجم مع طبيعة وسياق الجنس النثري الذي يتفادى المبالغة والتكثيف الإيحائي والبلاغي.

أما المجاز السينمائي، فإنه يتشكل انطلاقا من مختلف العلاقات التركيبية التي يقيمها مخرج الفيلم بين عديد التقنيات والوسائل لإنتاج صورة معبرة وموحية. وأول هذه التقنيات المونتاج الذي يخلق الوهم السينمائي باتصال الأحداث وترابطها أحيانا، وانفصالها وتجزأها أحيانا أخرى، ومن ثم " تصبح طريقة ربط أشرطة الفيلم في التعبير السينمائي ذات وظيفة بنائية أساسية"[3]. فالفيلم هو كيان متشكل من مجموعة من اللقطات والمشاهد المتصلة، والتي تساهم في بناء المعنى وخلق الإيهام وتشكيل الدلالات الرمزية والإيحائية، وكل صورة سينمائية "تكتسب معنى، علاوة على دلالتها، بسبب وجودها في سياق يضم الصور الأخرى"[4]. وإذا قمنا بتجزيئ الفيلم إلى وحدات مستقلة ولقطات فردية سينعدم المعنى وتغيب الرؤية الفنية . لهذا فالمونتاج يساهم في هذا التركيب الجمالي والدلالي للفيلم من خلال منطق اللعب باللقطات والمشاهد، أحيانا بالاتصال المعنوي وأحيانا أخرى بالانفصال الدلالي حينما تغيب الوحدة الحدثية وتتكسر خطية التعاقب والتسلسل بين اللقطات. وهكذا " نستطيع بواسطة الاختيار والربط، وبواسطة المقارنة والمثابلة، أن نجد ما يسمح لصانع الفيلم من خلال الصورة السينمائية، بتحقيق معادل سينمائي فريد للمجاز الأدبي"[5].

إن المجاز السينمائي هو نتاج لتداخل مجموعة من الوسائل التي بواسطتها تتولد المعاني وتفيض الأفكار والأحاسيس، هذه الوسائل التي تندمج فيما بينها من أجل تكوين بنية من الرموز والأيقونات، بهدف تجسيد بلاغة بصرية تتفاعل فيها الحركة مع الأشكال والألوان والأجساد والأصوات، وتقوم على " التناغم الأخاذ بين الصور والموسيقى، مع رؤية خاصة يتداخل فيها الزمن والمكان والسرد والذاكرة والواقع الشخصي والتاريخ ..."[6]. إذا فالخطاب الفيلمي هو بناء إبداعي مزدوج الاوجه: فهو تواصل بصري قائم على تجانس مجموعة من الوسائل والتقنيات، وهو تواصل فني تطغى عليه الحمولة الرمزية والشاعرية التي يتيحها المجاز السينمائي، حيث تتحد الوسائل السينماتوغرافية مع الوسائل النصية، بهدف ترسيخ البعد المجازي للحدث، من خلال تقنيات عدة ك : الموسيقى، المونتاج، سلم اللقطات، حركات الكاميرا، الإنارة، الألوان، الحركة، الأشكال...هذه التقنيات التي تؤلف بين الواقعي والمتخيل بشكل يصعب التفريق بينهما، وهذا ما يتيح للفيلم طابعه المجازي والإيحائي المعبر عن الحدث والتجربة والواقع.

وتتشكل البلاغة السينمائية من خلال التنسيق والتنظيم الذي يميز كافة العناصر السينمائية المختارة من طرف المخرج بدقة وعناية وتفكير، انسجاما مع رؤيته الفنية والإبداعية والتي يسعى من خلالها إلى التعبير عن العالم بأساليب مجازية تستثمر المنجز البصري والتقنية الحديثة، عكس البلاغة الروائية التي تتعامل مع النصوص واللغة والأساليب من خلال عدة منهجية ترتكز على الأدوات النحوية والتركيبية والبلاغية...فالصور السينمائية " تكتسب معنى من خلال وضعها في نسق من المعاني الضمنية مضبوطة بعناية، الأمر الذي يعني أن مغزى الصور السينمائية يعتمد على البراعة الفنية في التنسيق أكثر من اعتماده على قواعد شكلية خاصة بالبناء الصارم للجمل، أي تعتمد على بلاغة نامية أكثر من اعتمادها على نحو راسخ"[7].

والمجاز مفهوم نشأ وترعرع في تربة لغوية أسلوبية، عكس الفيلم الذي يعمل بنظام مغاير ومختلف عن اللغة. فإذا كانت الكلمات في النظام اللغوي تحاك بمنهجية اعتباطية، لا اشتراك أو تماهي فيها يربطها بموضوعاتها، فإن الصور تبنى بكيفية منظمة ومنتقاة، تشترك فيها مع موضوعاتها في الدلالة، وتتشابه معها في المعنى والفكرة، وإن بكيفية جزئية مقطعية لا شاملة مستنسخة (كما أشرنا إلى ذلك في الفصل السابق). إذا فإن دلالة الصورة السينمائية " تشمل كلا من معناها المحددdenotation  وكذلك ظلال المعاني الخاصة بها"[8]، وهذا ما يكسب الفيلم بعده المجازي والإيحائي والاستعاري، عكس الصورة الأدبية التي تتأسس من خلال مختلف العلاقات النحوية والدلالية والتركيبية للجملة، وما يطبع هذه الأخيرة من لمحات بلاغية وبيانية وحلل بديعية وتزيينية.

وللمجاز حضور بارز في الأعمال السينمائية، شأنها شأن الأعمال الأدبية، ويتخذ في هذا الحضور أشكالا متعددة وصيغا متنوعة أهمها:

ـ الإيجاز:

والإيجاز في البلاغة هو "جمع المعاني المتكاثرة تحت اللفظ القليل مع الإبانة والإفصاح"[9]، وفي موضع آخر نجد "الإيجاز هو حشد المعنى الكثير في المعنى القليل، وعكسه الإطناب"[10]، وهدف الإيجاز هو إيصال الدلالة والمعنى بطريق مختصر ينأى عن الإطناب والتفصيل والإكثار. وفي السينما يلعب الإيجاز دورا مهما في البنية الحدثية للفيلم، حيث  يوظف في انتقاء الأحداث المركزية والتفاصيل الجوهرية ذات المعنى ، دون الاهتمام بالأحداث الثانوية الغير مهمة والتي يمكن استيعابها بشكل ضمني غير مصرح. ويستثمر المخرج في ذلك المونتاج السينمائي وما تتيحه هذه التقنية من تحكم في إيقاع الفيلم واستبعاد للمشاهد الثانوية، وتقطيع للتفاصيل الجزئية التي يستوعبها المتلقي من خلال مشاركته الذهنية في تمطيط مسار الحدث تخييليا.

وللإيجاز قوة تأثيرية قوية على أحاسيس المتلقي، وذلك من خلال حثه على التفاعل الذهني والعاطفي مع أحداث الفيلم وتشويقه لمسار الحبكة الفيلمية، وذلك بالتركيز على الأحداث المهمة المؤثرة واستبعاد الأزمنة التي لا تستحق المتابعة. وأحيانا يتم استبعاد أحداث مهمة وأساسية في الفيلم نظرا لدواعي فنية أو رقابية أو دينية أو أخلاقية مع الإيحاء والتدليل على مضمونه بإشارة أو رمز أو شكل وبالتالي تفعيل دور المتلقي في قراءة المضمن وتحليل المشفر واستكشاف المضمر من الخطاب. ويمكن أن نميز في الإيجاز السينمائي بين نوعين :[11]

1ـ الإيجاز الفني: ويقصد به ذلك النوع من الإيجاز القائم على الطبيعة العامة للغة السينمائية. ويجري من خلاله اختيار أهم التفاصيل والأزمنة القوية، مع حذف الأزمنة الضعيفة.

2ـ الإيجاز الدرامي: ويقصد به ذلك النوع من الإيجاز الذي تتطلبه دواعي البناء الروائي من تأثيرات درامية تتمثل في إيجاد التأكيد والتشويق والمفاجأة والإثارة والقلق والتوتر....ويعتمد الإيجاز الدرامي على إخفاء، أو حذف تفاصيل، أو أجزاء منها، تكون مهمة في حد ذاتها ـ عكس الإيجاز الفني ـ لكن هذا الحذف أو الإخفاء، هو الذي يضفي عليها قوة تأثيرية، يكون تأثيرها الكبير على المشاهد.

ـ الرمز:

الرمز في اللغة : الإشارة والإيماء، وهو في الاصطلاح الأدبي: " علامة تعتبر ممثلة لشيء آخر ودالة عليه، فتمثله وتحل محله"[12]، وفي مقام آخر الرمز يحيل إلى ثلاث عناصر:" 1ـ الرمز مصطلح متعدد السمات، غير مستقر...2ـ علامة تحيل إلى موضوع، وتسجله طبقا لقانون ما. 3ـ وسيط تجريدي للإشارة إلى عالم الأشياء"[13].

وللرمز قيمة بارزة سواء في المجالات الإبداعية، حيث يوظف للتعبير عن مواضيع من خلال قناع أسلوبي يرتكز على الإيحاء والتضمين والإخفاء والحذف، وذلك لفتح المجال أمام المتلقي من أجل استكشاف عوالم النص ودلالاته البعيدة، واستنطاق أسراره وحمولاته العميقة. ولا يمكن استيعاب هذه الدلالات بدون دراية وإلمام كامل وشامل بالنص الإبداعي وسياقه وخلفياته وظروف إنتاجه وعلاقاته الداخلية الفنية والجمالية.

لكن في السينما يخالف الرمز المعنى المتداول المؤسس على ثنائية الغياب والحضور، والذكر والحذف، لأن الصورة في طبيعتها العامة تبرز وتجلي وتظهر، ولا تخفي أو تضمر إلا ما يتطلبه السياق الفيلمي من حمولات وأبعاد ذهنية وفكرية وثقافية...لهذا فالرمز السينمائي يستمد قيمته من الصورة الظاهرة المكشوفة في العرض السينمائي. وفكرة الرمز في الصورة السينمائية ،بهذا المعنى " تقوم على قدرة الصورة في احتوائها على مضمونين في آن واحد، أحدهما ظاهر ومباشر، بينما الآخر مستتر أو غير مباشر، بحيث يشعر المشاهد بوجود آفاق أخرى وراءها غير ظاهرة"[14].

هكذا يقوم الرمز السينمائي على عرض ثنائي الدلالة : دلالة مباشرة قريبة مستمدة من طبيعة المشهد وموقعه في أحداث الفيلم، ودلالة غير مباشرة وعميقة، مؤولة ومستنبطة من السياق العام للفيلم وما يضمره من خلفيات ثقافية وفكرية ومعرفية وواقعية...وهذا التوظيف الفني والجمالي للرمز السينمائي يتطلب مشاركة ذهنية من طرف المشاهد، الذي يستبطن شفرات الرمز ويحلل أبعاده ومعانيه الإيحائية انطلاقا من تكوينه الشخصي وانطلاقا من مجموعة من العوامل التي تؤثر في تركيبته الإستيعابية لحمولة الرمز ودلالته، ومنها : " درجة الحساسية، أو الذكاء، أو التصور لديه ـ البيئة الاجتماعية أو القومية ـ المستوى الثقافي ـ الأيديولوجية والمعتقدات ـ خبرات الحياة وتجاربها..."[15].

ـ الاستعارة:

الاستعارة " من المجاز اللغوي، وهي تشبيه حذف أحد طرفيه، فعلاقتها المشابهة دائما"[16]. وهي في المجال السينمائي " عملية استكشاف المجهول بمساعدة المعلوم"[17]، وذلك بالاستناد إلى عملية المونتاج التي تساعد المتلقي على عقد مقارنات وتشبيهات بين الصورة المعروضة وما تحمله في الذهن من تأويلات ومرجعيات ودلالات غائبة، كون الاستعارة السينمائية هي في الأصل "نوع من النص المضمر الخفي، الذي يتوارى وراء النص الظاهر"[18]. فالمخرج لا يصور المشاهد واللقطات اعتباطا، بل يسعى إلى خلق إنتاج فني جمالي من خلال مشاهد مرصودة بشكل مباشر توحي إلى مغزى ومعاني أعمق وأشمل. ويستفيد في ذلك من حجم الإمكانيات الهائلة المتاحة بواسطة التقنيات السينمائية المتعددة، والتي تجعل من "الاستعارة مغلفة داخل الصورة السينمائية ذاتها"[19]. وهذا ما يجعل المتلقي في عملية دائمة لقراءة وتحليل وظيفة كل هذه التقنيات التي تمنح الفيلم استعارات متعددة، منها ما هو مرتبط بالموضوع، ومنها ما هو مرتبط بالصورة، أو الصوت، أو اللون، أو الديكور، أو الموسيقى... ويستند المتفرج في عملية تأويله لدلالة الصور السينمائية على عوامل متعددة : "تجاورها مع صور أخرى، ودورها في تطور الفكرة أو السرد في الفيلم، وعلاقتها بتقاليد الفن السينمائي أو الفنون الأخرى، وموقعها في المعتقدات والعادات الاجتماعية، بل ووضعها الثقافي والتاريخي"[20]، كما أن تحليل الاستعارة السينمائية هو تحليل لماهية الصورة وما تحمله الصورة من صور ذهنية رابطة، لأن قاعدة الاستعارة في السينما تقوم على "التماثل البصري، والقراءة من داخل نفس السنن"[21] البصري، لا الاعتماد على أدوات ووسائل أخرى خارجة عن النطاق البصري.

ولا يمكن قصر الاستعارة على فنون القول واللغة فقط، بل إن كل المجالات الإبداعية تحمل في طياتها دلالات مباشرة ودلالات عميقة وإيحاء ومجاز وتشبيه وحذف، الفرق الوحيد بينها هو  أن كل مجال يقوم على وسيط معين يساهم في إيصال رؤية المخرج ودلالة الحدث وأبعاد الموضوع. فالمبدع لا يستطيع إيصال رسالته الإبداعية ومغزاه الفني إلا من خلال وسيط معين، سواء كان هذا الوسيط كلمات أو ألوانا أو صورا مرئية أو أصواتا...وبالتالي يشترط في متلقي العمل الإبداعي أن يكون على دراية  مسبقة بسياق الموضوع، وأن يكون ملما بخصوصيات المجال الإبداعي الذي تنتمي إليه الاستعارة. إذا فلا يمكن حصر الاستعارة في الأدب " كما لو كانت مسألة لفظية، أي نقلا وإحلالا للكلمات، في حين أنها استعارة بين الأفكار واتصال بينها وتبادل بين السياقات"[22]، وهذا ما يجعلها تنفتح على مختلف الأجناس الإبداعية التي تتخذ من الأفكار والخيال مادتها، ومن الأراء والمواقف طرحها، ومن الواقع والحياة منبعها، وهذا ما يتيح لنا الانتقال من طور الحديث عن صورة الكلمة، إلى طور الحديث عن صورة الصورة.

وتتخذ الاستعارة، في السينما، أشكالا متعددة منها :[23]

ـ الاستعارة التشكيلية: هي تلك التي تقوم على تشابه أو تناقض بين اللقطتين موضوع الاستعارة، وذلك من حيث الشكل الخاص بكل منهما....

ـ الاستعارة الدرامية: هي استعارة تؤدي دورا تفسيريا في الدراما، وهو دور يتجاوز التشبيه أو التناقض الشكلي فقط بين شيئين أو عنصرين..

ـ الاستعارة الأيديولوجية : تمثل نوعا أعمق من الاستعارة الدرامية، حيث تحمل، غالبا، وجهة نظر فلسفية أو فكرية، تتجاوز مضمون الدراما نفسها، لتوحي بمعان رمزية تتعلق بالحياة، أو الإنسان عموما، أو معتقدات معينة ....

ـ الكناية:

الكناية في اللغة هي " لفظ أطلق وأريد به لازم معناه مع جواز إرادة ذلك المعنى"[24]، وهي في الآداب الغربية " صورة بلاغية تتلخص في استعمال اسم شيء بدلا من اسم شيء آخر متصل به اتصالا تاما"[25]. وتقوم الكناية أساسا على التلميح والتعريض والإشارة لفكرة أو موضوع انطلاقا من مبدأ يتجنب التصريح المباشر به. ويكون هذا التلميح من خلال استعاضة المتكلم عن القول المباشر من خلال الإشارة إلى أحد جزئياته أو صفاته أو خصوصياته التي تدل عليه.

والكناية في السينما هي أسلوب يعتمد عليه المخرج السينمائي من أجل أيصال المعنى للمتلقي بطرق تلميحية تستلزم التكثيف والاختزال من خلال حذف التفاصيل والعموميات في المشاهد واللقطات السينمائية والإشارة إليها بشيء منها ومن مستلزماتها، "و نظرا لأن عملية صناعة الفيلم نفسها، مثل انتقاء زوايا التصوير، وتحديد البؤرة والكادر، تستلزم اختيار أشياء واستبعاد أشياء، فإن الفيلم يرتبط ارتباطا لا ينفصم بالكناية.."[26]. ويمكن تقسيم الكناية في المجال السينمائي إلى نوعين:[27]

أـ الكناية المعطاة: حيث يخلق السير الفعلي للأمور رابطة بين المفردة (اللقطة) المنتقاة وبين المشبه، وهي الطريقة نفسها التي ترتبط فيها الأشياء في العالم الذي نعيش فيه. إنها كناية اعتباطية عامة تنشأ من خلال ترابط الأحداث وتماسك الوقائع ودينامية الحكاية الفيلمية.

بـ الكناية السياقية: وتتعين الكناية السياقية من خلال سياق الفيلم، ومن خلال الاختيار الفني والجمالي للمخرج الذي يسعى إلى خلق رابطة معللة بين اللقطة المختارة وما تلمح إليه في السياق العام للفيلم.

ـ المجاز المرسل:

وهو في تعريفه اللغوي " كلمة استعملت في غير معناها الأصلي لعلاقة غير المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي"[28]. أما في المجال السينمائي، فينطبق الكثير مما قيل عن الكناية على المجاز المرسل، فهو " يتضمن التكثيف من خلال الحذف، والمعاني البلاغية التي يولدها مستمدة من لا منطقية الحذف كما أن نظرتنا للكل تكون مشروطة بالقيمة التي نضيفها على الجزء المرتبط"[29]. إذا فالمجال المرسل في السينما يتأسس على الرابطة الوثيقة التي تربط الكل بالجزء، حيث يحل هذا الأخير محل الكل من خلال لقطات ومشاهد جزئية وبسيطة في شكلها الفردي، لكنها توحي إلى مضامين أشمل ودلالات أعم مرتبطة بسياق الفيلم الجامع.

يبقى أن نشير في الختام إلى أن البلاغة البصرية هي بلاغة غنية بالوسائل والأدوات المجازية الأخرى المقاربة لمجاز الأدب (كالتشبيه والإحالة والإضمار والمقارنة والقطع ...)، لكننا اقتصرنا على هذه الأدوات التي استعرضنا تعريفاتها باعتبارها أهم الملامح الحاضرة بكثافة في الأفلام السينمائية، ولكونها وسائل تساهم في نقل المشاهد من عالم العرض المباشر والدلالة التصريحية إلى واقع المشهد الرمزي والمعنى المجازي، وهذا ما يتطلب جهدا فكريا كبيرا من طرف المتلقي حتى يتمكن من مشاهدة الفيلم وقراءة أفكاره ثم تحليل أبعاده البعيدة.

 

محمد فاتي - أستاذ باحث في مجال الصورة

تطوان

..........................

قائمة المصادر والمراجع:

ـ ـ أندري كودرو، الاستعارة في السينما: مجاز أم خدعة بصرية، ترجمة : محمد عبد الفتاح حسان، المجلة المغربية للأبحاث السينمائية، العدد 7 ـ فبراير 2018، تصدر من طرف الجمعية المغربية لنقاد السينما

ـ ترايفور وايتوك، الاستعارة في لغة السينما، ترجمة : إيمان عبد العزيز، مراجعة : سمير فريد، منشورات المشروع القومي للترجمة ـ القاهرة ـ ع: 747، ط1ـ2005

ـ سعيد علوش ، معجم المصطلحات  الأدبية المعاصرة، دار الكتاب اللبناني ـ بيروت، سوشبريس ـ الدار البيضاء،ط1 ـ 1985

ـ علي الجارم و مصطفى أمين، البلاغة الواضحة، دار المعارف ـ لبنان

ـ مجدي وهبة ـ كامل المهندس، معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مكتبة لبنان ناشرون، ط2ـ 1984

ـ محمد التونجي، المعجم المفصل في الأدب، دار الكتب العلمية ، ط2 ـ 1999

ـ محمد صبري، بيداغوجيا الدرس البلاغي البصري، قراءة في الفيلم القصير"مولود بدون زلاجتين" لنور الدين الخماري، "الدرس البلاغي : قضايا معرفية ومقاربات نصية"، أعمال الندوة الدولية الأولى، 25ـ26 مارس 2015، منشورات: مختبر البحث في البلاغة واللسانيات: كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ الجديدة ـ2016

ـ محمد عزام، المصطلح النقدي في التراث الأدبي العربي، دار الشروق العربي ـ بيروت

ـ هاشم النحاس، نجيب محفوظ على الشاشة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ـ 1985

 الهوامش

[1] ـ هاشم النحاس، نجيب محفوظ على الشاشة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ـ 1985، ص: 67

[2] ـ المرجع نفسه، ص: 67

[3] ـ المرجع نفسه، ص: 69

[4] ـ ترايفور وايتوك، الاستعارة في لغة السينما، ترجمة : إيمان عبد العزيز، مراجعة : سمير فريد، منشورات المشروع القومي للترجمة ـ القاهرة ـ ع: 747، ط1ـ2005، ص: 57

[5] ـ المرجع نفسه، ص: 71

[6] ـ محمد صبري، بيداغوجيا الدرس البلاغي البصري، قراءة في الفيلم القصير"مولود بدون زلاجتين" لنور الدين الخماري، "الدرس البلاغي : قضايا معرفية ومقاربات نصية"، أعمال الندوة الدولية الأولى، 25ـ26 مارس 2015، منشورات: مختبر البحث في البلاغة واللسانيات: كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ الجديدة ـ2016، ص: 64

[7] ـ  تريفور وايتوك، الاستعارة في لغة السينما، مرجع سابق، ص: 59

[8] ـ المرجع السابق، ص: 55

[9] ـ علي الجارم و مصطفى أمين، البلاغة الواضحة، دار المعارف ـ لبنان،  ص:242

[10] ـ محمد عزام، المصطلح النقدي في التراث الأدبي العربي، دار الشروق العربي ـ بيروت، ص: 60

[11] ـ محمد صبري، مرجع سابق، ص:66

[12] ـ محمد التونجي، المعجم المفصل في الأدب، دار الكتب العلمية ، ط2 ـ 1999، ص: 488

[13] ـ سعيد علوش ، معجم المصطلحات  الأدبية المعاصرة، دار الكتاب اللبناني ـ بيروت، سوشبريس ـ الدار البيضاء،ط1 ـ 1985، ص: 101ـ102

[14] ـ محمد صبري، مرجع سابق، ص: 68

[15] ـ المرجع نفسه، ص: 69

[16] ـ علي الجارم ومصطفى أمين، مرجع سابق، ص: 72

[17] ـ محمد صبري، ص: 72

[18] ـ أندري كودرو، الاستعارة في السينما: مجاز أم خدعة بصرية، ترجمة : محمد عبد الفتاح حسان، المجلة المغربية للأبحاث السينمائية، العدد 7 ـ فبراير 2018، تصدر من طرف الجمعية المغربية لنقاد السينما، ص: 67

[19] ـ تريفور وايتوك، الاستعارة في لغة السينما، مرجع سابق، ص: 53

[20] ـ المرجع نفسه، ص: 72

[21] ـ أندري كودرو، المرجع السابق، ص: 72، بتصرف.

[22] ـ المرجع نفسه، ص: 47

[23] ـ محمد صبري، ص: 73

[24] ـ علي الجارم ومصطفى أمين، مرجع سابق، ص: 125

[25] ـ مجدي وهبة ـ كامل المهندس، معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مكتبة لبنان ناشرون، ط2ـ 1984 ص: 311

[26] ـ تريفور وايتوك، ص: 105

[27] ـ المرجع نفسه، ص: 106، بتصرف.

[28] ـ علي الجارم ومصطفى أمين، ص: 110

[29] ـ تريفور وايتك، ص: 107

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم