صحيفة المثقف

التعليم الأهلي ضرورة فرضها الواقع

عبد الحسين صالح الطائييُعد التعليم عاملاً مهما لإعداد أجيال المستقبل، وركن أساسي للتنمية البشرية المستدامة، لا يمكن الإستغناء عنه في ظل الإنفتاح العالمي والتقدم التقني في مجالات الحياة كافة، فهو صمام الأمان لضمان تطور المجتمعات الإنسانية، وأي إستثمار فيه يخدم تطور المجتمع وتأهيله لخوض تحديات المستقبل. وقد أولت الدولة العراقية إهتمامها بالنظام التعليمي منذ تأسيسها، حيث أسست المؤسسات الإدارية وقطعت أشواطاً هامة في إرساء دعائم بناء العملية التعليمية.

ولكل نظام تعليمي، سواء كان عاماً أو خاصاً، له مميزاته وعيبوبه، فالمؤسسات التعليمية الحكومية المجانية، على الرغم من إعتمادها على اسلوب الحفظ والتلقين وغيرها من الأساليب القديمة، إلا أنها تبقى هي الأفضل لما تحويه من امتيازات تلبي شريحة كبيرة من أصحاب الدخل المحدود. وبعد أن شهد التعليم الحكومي تراجعاً كبيراً في مستوياته في الكثير من بلدان العالم، ومنها العراق بسبب الإخفاق المتواصل في كل المراحل التعليمية حسب تقارير ومؤشرات الجودة التي تصدرها بعض الجهات الدولية، وبسبب سوء سياسة وتوجهات الدولة تجاه سير العملية التعليمية، وعدم إعطاء الأولوية للتعليم العام في تنفيذ خطط التنمية المستديمة، وتأهيل الكادر الإداري والتدريسي وتحسين وتطوير الأساليب التربوية والتعليمية ، وإهمالها لمستلزمات السلامة والأمان في توفير البيئة المناسبة للتعليم، تولدت فكرة الخصصة، وتوسعت دائرة القطاع الخاص بحيث تشمل كل المراحل الدراسية.

وبحكم الواقع الصعب الذي أضر بالعملية التعليمية، تبلورت المبررات بأن يكون التوجه نحو التعليم الأهلي الذي يمتلك المميزات الخاصة والقدرة على الإنفاق، هذا القطاع بمرور الزمن، أخذ يلبي طموحات شرائح إجتماعية ليست قليلة من المتمكنين مادياً والحريصين على تعليم أبنائهم في أفضل المؤسسات التعليمية. علماً بأن هذه المؤسسات التعليمة الخاصة ليست بمستوى واحد، فهناك تبايناً واضحاً، البعض منها ذات مستوى تعليمي متقدم، على غرار الدول المتطورة، والبعض منها ذات مستوى متدن، بعيداً عن نظام الجودة والبحث العلمي الرصين وعن التوجهات العامة للتعليم الراقي الذي يصب في بودقة صقل الشخصية المجتمعية المحبة للوطن.

ونتيجة تدني مستوى مخرجات التعليم العام، وإنعدام الثقة في التعليم الحكومي، وقوة تأثير رسائل الترغيب التي تقدمها مؤسسات التعليم الخاص، تولدت القناعة بأهمية وأفضلية التعليم الأهلي، الذي أصبح الملجأ لكثير من الطلبة الذين لم تتوفر لديهم فرص القبول في المؤسسات التعليمية العامة. وعلى الرغم من تمسكنا الشديد بمؤسسات القطاع الحكومي، إلا أن الواقع يشير بأن التعليم الأهلي أخذ يسهم في عملية النهوض والإرتقاء بمسيرة الحياة العلمية بشكلٍ متوازي جنباً إلى جنب مع التعليم العام، ويحظى بقبول واسع وتسهيلات كبيرة من الجهات الرسمية والشعبية، بإعتباره أحد الروافد التي تصب في تطوير المشاريع التربوية بما يقدمه من خطط مبنية على رؤى حديثة تخدم عملية التنمية الشاملة.

الدول الغربية المتطورة، لها تجاربها المتباينة إزاء التعليم العام، فبريطانيا مثلاً، على الرغم من التطور الهائل في ميدان التعليم العام، إلا أنها تشكو من بعض التلكأ، وتفتخر بتجربة تعليم القطاع الخاص، الذي يسعى لتقديم الأفضل في داخل بريطانيا وفي الفروع التي يتم فتحها في الكثير من بلدان العالم. هذه المؤسسات التعليمية الخاصة يتم قبول الطلبة المتفوقين علمياً فيها، وبشروط قاسية وضوابط تعتمد طابع الأداء المميز، وعادة ما تكون مزودة بمنشأت حديثة ومرافق ممتازة تضم مختلف الألعاب الرياضية والنشاطات الفنية والأدبية التي تسهم في تعزيز الثقة بنفوس طلابها، وتقدم لهم تعليماً متميزاً يلبي رغبات أغلبية المهتمين بإمور التعليم الخاص.

ورغم المميزات التي يتمتع بها التعليم الأهلي بمختلف الدول المتطورة، إلا إنه لا يمكن أن يكون بديلاً عن التعليم العام، بل موازياً وداعماً له ضمن مقايس الأداء المتبعة دولياً. ويظل الطموح قائماً بأن تتكاتف جهود المخلصين من أبناء شعبنا العراقي بدعم عملية إصلاح المؤسسات التعليمية كخطوة أولية، وفق مخططات تعتمد على قاعدة بيانات رصينة تخدم الأهداف التربوية العامة والخاصة، وممارسة أسلوب الضغط بإعادة النظر بالسياسة العامة لتوجهات الدولة، ضمن رؤية جديدة تنسجم مع المتغيرات الجديدة التي تصب في تحديث المجتمع العقلاني الذي ينبذ الأساليب القديمة المعتمدة على الحفظ والتلقين، وجعل الأجيال الجديدة تنشأ على أسلوب التفكير المستقل الذي يواكب تطورات التقدم العلمي والتقني المعاصر.

ولابد من الإقرار بأن مجتمعنا العراقي قد طرأت عليه متغيرات كثيرة خلال العقود الأخيرة، فتكونت طبقة غنية، سواء بالطرق المشروعة أو غيرها، فأصبح الفرز الطبقي واضحاً، والبعض من هؤلاء تمكن من توظيف أمواله في مشاريع استثمارية في الخارج، والبعض الآخر يسعى إلى توظيفها في الداخل بمختلف القطاعات الإقتصادية، بما فيها التعليم الأهلي الذي حظي بدعم كبير من وزارتي التربية والتعليم العالي. وبالتأكيد بعض مؤسسات التعليم الأهلي تلبي حاجة الطبقة الغنية من المجتمع، لإهتمامها بنظافة البناية وتوفير الخدمات المتنوعة والمختبرات، وتحديد عدد الطلاب في كل فصل دراسي، وخلق جسور من التواصل مع أولياء الطلبة المقبولين. وبالتأكيد هذه الشريحة الإجتماعية المتمكنة مادياً لها تطلعاتها ورؤيتها في كيفية توجيه أبناءها في التحصيل العلمي بعدما وجدوا المميزات التي يقدمها قطاع التعليم الأهلي، الذي يستجيب لمتطلباتهم، فنجد هناك إقبالاً كبيراً على هذه المؤسسات.

وهنا لابد من التأكيد على الجهة الرسمية صاحبة القرار بضرورة الإستفادة من تجارب البلدان المتطورة في كيفية التعامل مع التعليم الأهلي من حيث الرقابة والإشراف على سير العملية التربوية والتعليمية ضمن فلسفة واضحة المعالم، وأن يكون الهدف الأساسي هو مضمون هذه المؤسسات وما تعتمده من تقنيات تسهم في النهوض والرقي في كل المجالات بما فيها الإهتمام المتواصل بالجودة، وتأهيل الكادر الإداري والتعليمي في بيئة سليمة واعية قادرة على التفاعل مع التطورات الحديثة، ملتزمة بالتجديد والإبتكار والإبداع، بحيث تكون مخرجاتها ذات كفاءة وجودة عالية.

وأخيراً، نشير إلى أن تجربة التعليم الأهلي في العراق مازالت حديثة، وتحتاج إلى المزيد من الضوابط الرقابية الصارمة، لكي تسهم في تخفيف العبء على التعليم العام، وأن تتناغم مع التوجهات السامية للعملية التربوية والتعليمية.

 

د. عبدالحسين صالح الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم