صحيفة المثقف

النيوميديا واحتكار العمل السياسي

حسن زايدقديماً كانت المعارك الأدبية والفكرية تثار من خلال الجرائد والمجلات السيارة، التي يتداولها عدد محدود من البشر. ومع ذلك كانت هذه الجرائد والمجلات تعطي المجال لخلق التوجه الجمهوري أيديولوجياً وثقافياً، وتعديله، وتوجيهة . وكانت قادرة علي خلق المناخ السياسي والإجتماعي المفضي إلي إحداث ثورة اجتماعية في المجتمع .

وقد بلغت أهمية الجريدة والمجلة مبلغاً إلي حد اعتبارها الحزب السياسي القائم، فقد كان يقال في وصف بعض الأحزاب إنها ليست سوي مقر وجريدة . فالجريدة والمجلة هنا هي لسان حال الحزب والناقل لأيديولوجيته السياسية وقناة الإتصال بين الحزب وقاعدته الشعبية . ووقف الجريدة والمجلة هي قطع لهذه القناة، وقطع لشريان حياة الحزب .

وباختراع المذياع "الراديو" أُعتبرت البشرية قد قفزت قفزة نوعية هائلة في الإتصال الجماهيري. وقد رأت السلطة أن المذياع اللامرئي هو أداتها في السيطرة علي الجماهير وتوجيها وخلق الرأي العام الملائم لها . وأنها بلا شك ستأخذ من نصيب الكلمة المكتوبة ورصيدها لدي الجماهير، فضلاً عن الجماهير الأخري. وذلك من خلال الكلمة المنطوقة والبرامج الحوارية ونشرات الأخبار، وكذا الصور اللامرئية كالدراما الإذاعية ونقل المسرحيات وأفلام السينما صوتياً، وكذا الأغاني والبرامج الترفيهية .

وما أن استقر المذياع اللامرئي حتي ظهر المذياع المرئي "التليفزيون"، فكرس بظهوره احتكار السلطة للكلمة والصورة علي السواء . وجذب هذا الجهاز بظهوره ألباب الجماهير وأخذ بخناقها . وقد زاد من مسألة استبداد السلطة وهيمنتها علي عقول وقلوب القواعد الشعبية . فقد تحولت الكلمة المنطوقة إلي كلمة منطوقة ومرئية، والبرامج الحوارية المباشرة وكذا نشرات الأخبار . وتحولت الدراما الإذاعية إلي دراما تلفزيونية، ونقل المسرحيات والأفلام نقل حي مباشر .

وكانت السلطة تسمح أحياناً بدخول نسائم الحرية إلي الجوعي إلي هذه النسائم من خلال النوافذ المفتوحة من جانب السلطة، أو من خلال كوات يسمح للقطاع الخاص بالإطلال منها للوجوه المعارضة. وأحياناً تغلقها. وكان من الواضح أن اعناق الجماهير لن تفلت من عقال السلطة من خلال هذه الوسائل والأدوات. وأنها ستظل رهينة لهذه القبضة في تعاطي العمل السياسي.

ظل العمل السياسي معتقلاً داخل مفاهيم السلطة القائمة وأقبية عقولها إلي أن تفجرت المفاجأة بثورة إيران علي نظام شاه إيران محمد رضا بهلوي . فقد قامت الثورة الإسلامية في إيران بقيادة آية الله الخميني ضد نظام الشاه، باستخدام الكاسيت . فقد استخدم الكاسيت كوسيلة تعبئة شعبية للجماهير، وعملية تثوير ممنهجة لها . واعتبر الكاسيت أول خروج جماهيري عن قبضة السلطة بوجود علاقة مباشرة بين المعارضين والقواعد الشعبية الفاعلة علي الأرض دون أي تدخل سلطوي قائم .

ولأول مرة يستخدم الكاسيت لإشعال أوار أول ثورة شعبية في العالم.

ثم تسللت النيوميديا خفية إلي الواقع الإجتماعي، ناعمة لطيفة لا يكاد يشعر بوجودها أحد، واتخذت لنفسها مقاعد بين الشباب . وبدأت رويداً رويداً في كسر احتكار السلطة والأنظمة السياسية للصورة المعبرة واللقطة الموحية، والمونتاج السياسي . وسقطت معها سردية الإعلام الموجه، وتحجيمه وحصره في نطاق محدود، وأصبح محدود الأثر في الشارع السياسي .

وأصبحت النيوميديا هي السلاح الإعلامي في أيدي المستضعفين والمقهورين والمهمشين الذي يواجهون به  السلاح الإعلامي للأنظمة الإستبدادية من صحافة وراديو وتليفزيون .

ومع سقوط سلاح الأنظمة تحت ضربات النيوميديا سقطت الأحزاب السياسية التقليدية، وفشلت في التأثير علي الشارع السياسي فشلاً ذريعاً تبدي في عجزها عن القيام بدورها الأساسي  فيه، فضلاً عن القيام بأي دور فاعل فيه .

ولعب "الفيسبوك" و"تويتر" وغيرهما من مواقع التواصل الإجتماعي دور الأحزاب السياسية التقليدية من قدرتها علي استقطاب الملايين من الأعضاء، مروراً بقدرتها علي التخطيط والتوجيه والتوعية والإرشاد في آن واحد من خلال صفحاتها أو مدونتها، وفيديوهاتها .

ولقد لعبت هذه الأدوات أدواراً مؤثرة وفاعلة فيما يعرف اصطلاحاً بثورات الربيع العربي، بغض النظر عن الموقف الفكري من هذه الأحداث سواء جري اعتبارها ثورات أو اعتبارها مؤامرات أو اعتبرت النيوميديا أدوات شريرة أو خيرة .

وهنا لابد أن تقوم الأنظمة السياسية والأحزاب السياسية التقليدية بالبحث عن بدائل لهذه الأدوات، أو التعايش معها، وملاحقة تطوراتها أولاً بأول، دون أن تتركها تتجاوزها مرة أخري .

 

حسن زايد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم