صحيفة المثقف

جار الله الأعمى

قصي الشيخ عسكربدءا اتمنى الاطلاع على المقدمة التي كتبتها للرواية والمنشورة في المثقف الآن بعنوان:

النهر يلقي إليك بحجر.. كلمة لابدّ منها

***

جار الله الأعمى

 ذلك ماحدث بعد سنين من جموحِ حوتٍ كبيرٍ في شط العرب وحيازتي خلال بضعة أيامٍ حجرا أخضر مزرقا من صديق الجميع جار الله الأعمى .. لقد أنستني الأحجار الغريبة الجديدة التي عثرت عليها في مساحة ضيقة بين قريتي الدعيجي والبوارين الحجر الأخضر الذي التقطه من النهر الكبير جار الله الاعمى ذات يوم ودسه في يدي.لن أتحدث عن ذلك الرجل الذي فقد بصره منذ الولادة، كان أحد ثلاثة عميان من أهل التنومة إذ سأكون في غنى عن تفاصيل حياته والقصة التي تروي أنه نظر إلى الشمس في حالة كسوف وهو صغير، فأصيب بالعمىمنذ ذلك اليوم منحه الله حاسةَ أن يقرأَ بعض أسرار الماء، فأصبح صديقا للنهر، كذلك سأَعْرِض عن بعض المفاجآت التي واجهته في أثناء ممارسته لعمليات الغطس أو حين يعود منها إلى سطح الماء .. و لا يهمني كيف يغطس في عزِّ الشتاء قبل أن يتآلف الشتاء والصيف في مدينتي بلون واحد فلا تحسّ لهما في بدنك طعما.تلك الأيام تحدَّث أهلنا عن صقيع يغطي السواقي والحشائش ساعاتِ الصباح في شهري كانون وشباط وسبعة أيام لايطيق فيها من البردِ الجاموسُ الماءَ، حينها كان صاحبنا يلتهم حفنة من الفلفل الحاد ثمَّ يغيب في النهر ليخرج مفقودات صغيرة، قلم حبر .. ساعة .. محفظة .. أي شيء، يقول ممازحا لايقرؤ النهر إلا أعمى مثلي أما أنتم فمبصرون عميان القلوب تظنون السطح أكثر أمانا من القعر.كان الأمر يبدو غير ذي عُقَدٍ، لاسيما إني أتحدث عن نفسي .. واحد من عميان التنومة الثلاثة، ليست مصادفة فنحن نراه كل يوم، التقاني بصحبة أبي .. لايهمني الاثنان الآخران فأصغرهم سِنّاً ليس بذي قدرات تلفت النظر .. لا يتحدث كثيرا .. والثاني مختار أو بيغبن هاجر مثل الجميع وانقطعت أخباره .. أطلقنا عليه ساعة بيغبن .. تلك التي لايثقُ بساعةٍ أحدٌ سواها .. ولن تكون قط هناك نغمة مثلها في يوم ما .. هنا لندن الساعة الآن الواحدة مع نشرة أخبار الظهيرة .. أبي نفسه حين يعود من سقي الزرع، وينتهي من طعامه يجد الراحة في أن يسمع دقات لندن، أسأل ببراءة :

- لدينا ساعة سورين في بداية سوق الهنود أليست كساعة لندن!

- الإنكليز وقتهم مضبوط بهذا احتلوا العالم!

 ومختار؟ألايعطينا الوقت بالضبط تماما؟الساعة والدقيقة، لا يضجر من أسئلتنا نحن الأولاد المتربصين به خلال مسيرته اليومية من البرِّ إلى النهر لكنه نسي أن يمنحني أي شيء مع أني سألته عن الوقت أكثر من مرة فأجابني بابتسامته الأليفة المعهودة عنه، وعيناه تهبطان من السماء إلى الأرض كما أجاب غيري، وكان الوقت هو هو لايخونه قطّ.

ولا أظنه أعطى أحدا شيئا ما ..

 ويبدو أن العميان اعتادوا على الأخذ ماعدا صاحب النهر صديقي جار الله!

 لقد عرف، شأنَ بعضٍ من أهل التنومة، أني أحب الآثار وأنوي حين أكبر الدراسة في الجامعة بقسم التاريخ .. ولعل الأستاذ نبيل معلم التاريخ واللغة العربية في مدرسة الزبير التفتَ، من بَعْدُ، إلى شغفي وموهبتي تلك .. كنا هجرنا التنومة بعد سقوط نهرجاسم .. ومن حسن حظ العائلة أننا استأجرنا بيتا في الزبير، هي حكمة أبي ارتأت السلامة في البعد حيث كَّلما بعدنا إلى جهة الغرب عجزت شظايا المدفعية عن الوصول إلينا، معنى هذا إن جانب العشار حيث تمثال السياب أصبح بعيدا عني بالتالي تلاشت التنومة من نظري بضع سنين، وأمي التي كانت تحذرنا من كواسج الشط راحت تمنعنا، هذه المرة خَشيةً من القذائف، أن نذهب إلى العشار مادامت ليست هناك ضرورة ما، كانت مدرسة الزبير تستقبلني والأستاذ نبيل ذو الأربعين عاما القصير البدين يتحدث عن الماضين وقصص منْ سَلَفَ، وفي درس اللغة العربية يسألنا فنجيب عن أسئلته فيختار منا أساتذة وعلماء آثار في المستقبل .. طلب منا أن نكتب عن هواياتنا فكتبت عن التاريخ والآثار التي شاهدتها حقيقةً أو من خلال الصور، ولو أنهيت الثانوية لاخترت قسم الآثار .. حديث عابر يتداوله التلاميذ فيما بينهم .أمنيات يتسابقون في البوح عنها كأنهم يجارون بها الزمن فيرون أنفسهم كما حلموا .. فلان طبيب .. ابن فلان مدرس .. ضابط .. مهندس .. تلاميذ أحبوا سيادة الرئيس فرغبوا أن يصبحوا ضباطا كبارا في الجيش حتى إذا أصبحوا برتبة مهيب ركن مثل السيد القائد بدؤوا قادسيات أخرى وحروبا جديدة، وأنا عالم آثار .. لكن لا أحد يستغرب من هوايتي، لا الضابط الكبير ولا المعلم أو الطبيب.كنت أسير مع والدي باتجاه المرفأ قاصدين العشار حين سلمني جارالله حجرا أخضرَ مزرقا ادعى انه التقطه من قاع النهر .. لا أحد رآى القاع، لا أدري، ويقسم الأعمى أنه مضمَّخٌ بطينٍ حرٍّ وحصى ناعمِ الملمس .. متى التقط الحجر أعند الصباح أم المساء، في الشتاء أو الصيف .. وإذا احتجت إلى حدث مهم يشغل بال الناس لا في التنومة فحسب بل كل البصرة فيمكن أن ادَّعي أن لقاءنا العابر جاء بعد جموح الحوت الكبير من الخليج إلى شط العرب بيومين .. ظل الحوت يتبع باخرة محملة بالخرفان فنسي نفسه دخل السيبة ومخرت الباخرة الماء إلى مرفأ الداكير عندئذ طارَ اخبر .. حَلْقُ شط العرب يغص بحوت .. يا خلق الله حوت كبير أعجوبة الزمان، بعضهم رآى في الحادث شؤما، وآخرون شكّوا في أنه أمر غامض يستعصي تأويله .. وفي دقائق هُرِعت حشود كثيرة إلى المكان .. انزعجت كثيرا لأن أخي "سليم" رفض أن يصحبني معه إذ ذهبَ معَ شلَّةٍ من الأصدقاء وعاد يحكي عن الحوت الضخم الغريب قبل أن يسهب في الحديث عن حجرٍ غريبٍ خبّأَه هديّة لي من النهر :

- حسنا إنك لم تبصر الحوت الضخم فكثير من الأشياء العظيمة والجميلة يسبب النظر إليها ضررا فمن يستطيع أن ينظر إلى الشمس دون أن يصيبه العمى لذلك سأعطيك شيئا آخرصغيرا وأليفا!

وددت لو سألته هل نظرت إلى شيء أعشى عينيك، فخشيت من تأنيب أبي الذي تساءل :

- مارأيك ياجارالله في الحوت أهو فأل كما يقولون!

فقهقه مائلا برأسه نحوي وقال:

- ماذا تتوقع أن يأتينا من الخليج وملوحتهم أيّ خير أنظر إلى أنفاسنا كيف تتقطع وإلى النهر كيف يهيج موجه عندما تهب ريح الشرجي ؟

فقال أبي ممازحا:

- والنهر؟ ألم تجعله يغلب المرحوم صابر فكاد تلك الليلة يغرق فيه من غير رياح؟

الحكاية قديمة، يتذكرها أبي ولا يتبرأ جارالله الأعمى منها غير أنه يقول ليس هدفه السرقة بل ممازحة المرحوم صابر .. كان ابن عم ابي صابر لا يخاف من المشي في الظلام يجوب البرَّ والبساتينَ والاماكنَ المهجورة، لا أحدَ يعلم كيف تحدّاه قال الأعمى:أنت سيِّد البرِّ وأنا سيِّد البحر مثل الإنكليز والفرنسيين أيام زمانٍ، فسخر صابر منه ومن النهر رآى ألا فرق بين مايفعله جار الله وأيُّ سارقٍ يدهن جِلدَه بِزفِْتٍ يدفع بريحِهِ النتنةِ الكواسج ثم يغط إلى البواخر ليسرقَ مايخِفُّ حِمْلُه وقد ترك جار الله صابراً - بعد هذا التحدي بأيّامٍ- نائماً فوق سطح زورقه المحمل بالرَّقِّي 1 فغطّ من مسافة يسيرة إلى أن وصل الزورق فاندفع إلى السطح وطوق بيديه رأس صابر الذي ظنّ الآخرَ كلب ماء وما كان منه وهو في حالة ارتباك إلا أن يقفز إلى النهر!.

رفع جار الله رأسه إلى السماء وغطى جوابه بابتسامةواسعة:

والله لوعرفت انه لا يجيد السباحة لما تحديته قطّ على كل حال لا أحّدَ يصدِّق أني جئت لأسرق الرَّقي ولست كلب ماء وأنا نفسي أنقذته من الغرق "والتفت إلي كأنه يراني "مادام ابنك يحب التاريخ فليأخذ هذا الحجر أظنه فأل خير كلّما وجدت شيئا في النهر وسألت عمن فقده أجد من يدعيه وربما من يدعي المفقود الخارج من الماء أكثر من واحد أمَّا هذا الحجر فإني سألت الكثيرين ولا أجدُ مَن يدعيه ليأخذه وليذكرني حين يتوفق ويدخل الجامعة !

 مايمكن أن يقال إنّه لا حدودَ لنشوةٍ غمرتني حيثُ اعتاد الأعمى الغوّاص أن يمنح لُقَى يعثر عليها في قاع النهر لأشخاص يدَّعونها من دون ان يطالبهم بأيّ ثمن إلا أنّه أعطاني حجراً لم أدَّعِه، أَمّا ماعكَّر مزاجي وأذهل الكثيرين، فهو الخبر الذي سمعناه بعد بضعة ايّام إذ لم يمرّ أسبوع على حادث الحوت ولقائنا إياه أنا وأبي على جسر نهر "أصفر"حتى عُثِرَ على جثّتِه في البر ..

جار الله الأعمى قتيل في البر ..

مات أوقُتل لافرق ..

رجلٌ عرف كيف يتحاشى الكواسج وتيارالماء الهادر، وموجاً صعبا تهيجه ضراوة رياح الشرجيّ، فما الذي دفعه بعد كلّ هذه السنين إلى أن يقصد حِمِى غريمه المرحوم صابر .. لم يره أحد قط يغادر إلى مكان غير النهر والبساتين الحبلى بالانهار الصغيرة والسواقي .. يستظل بالنخيل يأكل التمر والعنب .. يعرف الأرض المزروعة وشارع التنومة أكثر من أيِّ مبصر ذي عينين .. لا أحد يدّعي أنّه أخذ بيده ليدله على الطريق، قيل همسا شاع في عيون الناس وملامحهم أن لسانه قتله يقول عبارات مبهمة تثير الريبة، الخراب لا يأتي من الشمال بلاؤنا من الجنوب والماء المالح، النهر أوحى إليه كما شاع ألا خطر علينا .. الشرق والشمال والغرب .. ولعلها تلك آخر عبارة سمعها الناس منه ممتزجة بابتسامته المألوفة، والعجيب أن الكثيرين اختلفوا في موته مع أنفسهم ولم يجرؤ أحد على ان يتحدَّث في العلن، فليس بمستبعد أن يكون مسؤول خلية، أو غطَّ ذات يومٍ ليزرع متفجرات تحت الجسر العسكري، والأعجب من ذلك أن جميع من أنكروه وتبرؤوا منه من أحزاب ومنظمات وأفراد دفعا للشبهات عنهم وخشية من بطش السلطة عادوا بعد السقوط يتسابقون في نسبته إليهم حتى كاد بعضهم يدخل مع الآخر في دوامة عنف، ومادمت لم اجرؤ بعد مصرعه، قبل السقوط، أن أحكي لأيّ أحد أنه منحني حجراً استله من الماء، فلا مناسبة الآن أن اذكره لا سيما أني لم أعد أتذكر أين أخفيت الحجر حينذاك.

 قلت ذلك لن يهمني لا سيما أن الأهالي القدامى والقادمين إلى شط العرب من محافظات اخرى لا يتذكرونه الآن هو أو غيره من فاقدي البصر، وربما ادعاه من أنكره من أحزاب وأفراد تعرضوا للاضطهاد قبل سقوط بغداد غرض الشهرة والمال أما أنا فقد ذكرتني به حجارة البرِّ والصداع الذي يكاد يحطم رأسي.

مسمار غليظ تدفعه مطرقة إلى هامتي!

لا أنكر أني كنت أغطس في الشط الكبير متجاهلا تحذير أمي أو غضب أبي وحكايات يرويها كبار السنّ عمّن سبّب الكوسج لهم عاهات دائمة، ومن سبحوا في النهر طويلا فغامروا ليسرقوا البواخر والزوارق ولا حيلة لديهم إلا ان يدهنوا اجسادهم بالقطران حتى تبتعد الكواسج عنهم .. وحين كبرت بقيت تتلجلج في نفسي رهبة من الشطِّ لم تردعني عن الغطس، كيف أرى العالم المظلم المليء بالسمك والغِرْيَن كما يراه جارالله الذي لايبصر ماتحت الشمس ويرى ماتحت الماء، مفارقة عجيبة لا أفهمها، وسواء كنت صغيرا أم كَبُرت واشتدت قوة بدني إلا أني عجزت كما عجز غيري عن الوصول إلى القاع إذ بعد متر وأكثر بقليل أُحِسُّ ثقل الماء وتهدج أنفاسي.

لا أبالغ .. وإن بدوت مهزوما باعترافي .. فليس فينا أحد مثل جار الله الاعمى يثقب الماء بيديه ورجليه.يعوم إلى القاع فيلتقط منه حصاة استقرت عشرات السنين أو أداةً ما هوت مصادفة من الهواء إلى الغور!

ومثلما نتذكر الأشياء الأكثر سطوعا:الحلوة والمرّة في حياتنا أذكر أن آخر غطسة لي كانت قبل اليوم المفترض لالتحاقي بالجيش وحكاية حجر قديم استعصى على ذاكرتي حين تجمعت عندي في غرفتي أحجار زاهية الألوان جلبتها من البرّ.

بضعة أيام تفصلني عن حياة جديدة حفظتني منها خلال حربين عنيفتين المدرسة والجامعة.الجميع عاشوا أيّامهم الحاضرة المضمخة بالقلق والخوف .. الحرب المستعرة عند البوابة الشرقيّة، والحصار والموت القادم من الكويت ثم عجزوا ان يجدوا ملجئا مثلي إذ عشت الحاضر، ووجدت في الماضي ملاذا اطمئن إليه وكبرشعوري بالأمان حين قُبِلتُ في قسم التاريخ!تدفعني رغبة جامحة للآثار، كأن نبؤة جار الله الأعمى تحققت فِيَّ ولو رجعت العقود بي صبيا لقلت بكلّ جُرأة لمختار مروض الزمن بعد أن أساله عن الساعة: يا صاحب الوقت ماذا تعطيني فقد أعطاني جار الله حجر الماء!

وهاهو الماضي يكاد ينصرم فأعود إلى حاضر مليء بالمفاجآت!

كنت أشعر بحرارة الجو ذلك اليوم التموزي اللاهب التي لم تخفت على الرغم من ميلان الشمس نحو الأفق البعيد، لا أخطيء إذا قلت إنه حرٌّ تموزي ونحن في شهر ماي، تموز نفسه بدا شبيها بغيره، كان حَرُّه علامة تدل عليه فاصبح يغدقها على أيِّما شهر قبله أو بعده.لافرق قطّ.لم ألتفت إلى بعض الصيادين الذين انتشروا على الجرف يدفعون بشصوصهم عنهم الملل، ولا إلى صاحب الكشك بائع المرطبات القريب مني، رفعت رأسي ألتقط نفسسا عميقا .. نفثته والتقطت ثانيا ثم رحت أهوي نحو القاع .. الحق إن هيبة النهر التي تحدَّثَ عنها أهلنا وعنفه تسربت من قلوبنا، يوم كنا نستقل المعبر وجدناه عنيفا مهيبا جارفَ التيار وتزداد هيبته عندما تتلظى رياح الشرجي الهابة من الجنوب بقسوتها ولهيبها عندئذٍ يدرك أهل التنومة أنهم لن يتمكنوا من العبور بالزوارق البخارية ولا القوارب، وليست هناك من وسيلة إلا المعبر المثقل بالسيارات والعربات وبعض الحيوانات، والذي يأخذ بالترنح قليلا في منتصف النهر حيث سورة التيار فيلوح كمن كرع حتى أثقلَ توازنَه السكر، حقا ذهبت رهبة النهر يوم بنى الجيش جسرا يربط ضفة العشار بالتنومة وظلت هيبته شاخصة في النفوس.كنت لا أخافه بعد قيام الجسر وقد بقي في نفسي أن أصل إلى القاع فكلما هممت أجِدُني في فسيحِ وادٍ مظلم لا نهاية له .. لا يراودني شعور أني أغطس .. رجلاي تندفعان في منحدر لا ينتهي .. لن التمس أرض النهر فيغشى يدي حجر مثل جار الله .. وبين شكٍّ ويقينٍ عرفت أناملي شيئا ما اصطدم بها وأفلت شيء شبيه بالحجر، لم أسلم من مراوغة الماء، فلعل ما يصطدم بكفي بعض الخدر أو الوهم وأظنه إشارة تنذرني بالغلو والتمادي، وحين أحسست بثقلٍ يجثم على رأسي وتصلبٍ في صدري أوحت الرهبة إليّ لا الخوف أن التيار سيجرفني، وربما شككت في كوسجٍ يندفع نحوي فيقطع قدمي قبل أن أصبح جنديا .. عاهة تنقذني من الخدمة الإلزامية .. رحت أعوم نحو الدرجات القديمة ثم اتخذت موقعي على أقرب درجة التمستها يدي ..

2

انتظار

 كنت أظن أني بعد أسبوع من آخر غطسة لي في الشط أنتقل إلى مكان بعيد عن التنومة باتجاه الصحراء، وأساهم في حرب قد تقع بين عشية وضحاها .. تساءلت وأنا عائد إلى البيت يا ترى أين يبعثون بي وبأية صورة أرى التنومة إذا كتب لي عمر جديد فعدت إليها وبأي شكل تبدو وقد عبرت عليها حرب دامت ثماني سنوات وأخرى مرت قريبة منها؟بعد حرب الخليج الأولى كبرت المدينة وجاءها غرباء كُثْرٌ من أيِّما مكان فضاعت شوارعها من أهلها الاصليين حتى بدوا كانهم غرباء فيها وبعد حرب الكويت البعيدة عنها انتفخت و تطاولت أصبحت أشبه بخيط مطاط .. توغلت بيوتها في البر الذي أعلن ذات يوم عن موت جار الله .. ولا يظن أحد أن شيئا يتغير غير أن للحرب طعما آخر إذ سواء اندلعت مع ايران على حافة التنومة أم بعيدا عنها في صفوانَ فإنَّ الناس يزدادون .. بكتريا تنشطر والبيوت تكثر وتقضم البر .. فتزحف باتجاه الفراغ المترامي الخالية بعض أطرافه من الألغام وقد اقتنع الناس تماما أن كل شيء يمكن أن يتغير بالحصار والحرب إلا الشطّ .. لايصدق أحد أن النهر الكبير يمكن أن يلتوي للحصار مثل الآخرين ولا يخطر ببال عاقل أن سدود تركيا تقدر أن تبتلع ماءه وموجه الذي يتطاول على أمواج البحر .. أو أن النهر الثالث الذي اندلع في برِّ الزبير يطغى بمائه المالح إلى وجه شط العرب .. كان هناك حصار، وخيال الآخرين يتوهج بالحرب.الشط عرفوه من قبل .. لن يصيبه الجدب وما الحوت الذي اقتحمه ذات يوم إلا مخلوق ضل الطريق فلقي حتفه .. فإن لم يضلَّ، وفق تخرصات ظهرت أخيراً، فقد امتدت ملوحة الماء إلى النهر وتلك طامةكبرى، أما أنا الذي غَطِستُ فيه هاربا من الحر قبل دقائق فقد شعرت ببعد القاع عن راحتي وكأن يدا قوية تشدّ على رأسي، فشككت أن النهر تَغَّير .. تَيَّارُه مازالَ يجْرِف الأشياء بعيدا عن مكان سقوطها، وثقل تشعر به حين تغطس إلى القاع فكيف قلَّ الماء وضعف التيار ومن قبل أن يمنحني جارالله حجراً انتزعه من قاعه عرفته ذلك الطفل المدلل الصغير الذي ولدته أمه الفرات من أبيه دجلة كما حدَّثَ معلم المعلومات في السنة الثانية الإبتدائية وخَبِرناه يوم حذرنا أهلنا من أن نغط فيه إلى درجة أننا يمكن أن نحلم في أثناء نومنا بوحوشٍ غريبةِ الأشكالِ تخرج من الماء تحت جنح الظلام فتقضم أرجلنا، في حين تختلط كثير من الهواجس بذهني وتصورات الآخرين.هل يصدِّق أحدٌ أنَّ الأمريكان والإنكليز يغامرون بضرب العراق .. يأتون من الكويت ويدخلون المدن، ومن دون وَجَلٍ ينبش الناس الماضي فيقول قائلهم رحم الله عبد الكريم قاسم كان إذا تحدث في بغداد ارتجف الخليج وأنت ياشاه إيران ايها الطاووس المملؤ زهوا وكبرياء حين تسعل يخرأ آل سعود ومن تبعهم في الجلابيات البيضاء .. أما أنا فأتذكر حوتا ضل قبل سنوات من الخليج ودخل شط العرب فتسطع في ذهني عبارة جار الله هؤلاء لا يأتي منهم إلا الشر، صدقت نبؤة رجل يقرؤ الماء مات على البرّ، الرئيس يعانق أخاه سمو أمير الكويت .. يبعث ببرقية تهنئة إلى أخية جلالة خادم الحرمين .. الأخ سمو أمير البحرين .. ثم انقلبوا أيَّما انقلاب .. فكيف سبق الأعمى الزمن وقرأ صفحة أخرى ليست قريبة على الماء مقابل ذلك فقد حياته ثم أسال نفسي:أين أكون ساعتها؟في أيةجبهة؟هناك حوتٌ ضخم يبدو أنّه مات ذات يوم في الماء أو هكذا وجدناه ثمّ ظهر في البرّ، لقد رآى الجميع على طول الطريق بدءا من صفوان هياكل الدبابات والمدرعات المحترقة في حرب الخليج الثانية.وتحسسوا بكل جوارحهم زيوت الجنود الذائبين على قطع الحديد المبعثرة، واحدة من تلك المدرعات التصقت بعظام أخي .. ومن قبل راح شباب يغامرون ويعبرون على جثث القتلى من حرب الخليج الأولى غرض تفكيك هياكل السلاح المهتريء وبيع قطعه لمن يعملونها صحونا وملاعق لكنْ هذا تحالف .. تكنولوجيا .. طيران.جَرَّب العراق عضلاته في أولِّ صِدامٍ بعد حرب الكويت .. صورة شواريسكوف .. مازالت ماثلة للأذهان.في حرب الخليج الأولى ذاقوا الخراب لكنهم لم يشعروا بالرعب .. خوف فقط .. أما مع الامريكان فلابد من أن يتجلى الرعب الهائل في سلوك الناس ونمط تفكيرهم وإن ظنّ الكثيرون أن الحرب لن تقع أبدا.بلا شك أنا أكثرهم قلقا مما يأتي به المستقبل .. جيلان مرّا قبل جيلي: أبناء القادسية ثم جيل أمِّ المعارك، والرئيس يسمي المعركة القادمة المفترضة التي تقع أو لا تقع أمّ الحواسم .. هل أرمي في الهواء قطعة نقود فأخمِّن وجهها الحرب وظهرها اللاحرب .. سأكون واحدا من أبنائها ولا أعرف كيف أحسمها .. لقد حمتني المدرسة ومن ثمة الجامعة من حربين مهولتين .. القادسية وأم المعارك .. خلال تلك المدة أي خطأ يمكن أن يقلب الحياة رأسا على عقب .. الجندية وتلاشي الأمل في أن أدرس الأرض .. أغوص فيها .. أبحث عمّا تنطوي عليه أحشاؤها.ثم هناك شك يساور النفوس ولا أحد يجرؤ على البوح به كنت في الثاني الإبتدائي يوم توجس أهل التلاميذ أن الحكومة تتحكم بنسبة النجاح .. الحرب يبدو لاتنتهي فليكن هناك مقاتلون .. تلاميذا الثانوية توجسوا .. وأبي يحثُّ أخي " سليم" على الاجتهاد أخي "عقيل " في الجبهة، الطريق أمامي طويل، ولوقدرللحرب ألا تجد لها ختاما لتضيع نهايتها كما ضاعت البداية، فسيكون مصيري كالآخرين .. لاجغرافية ولا تاريخ كَأَنْ لمْ أَعْلَق القديم ولاشغفت به .. وما أيسر أن يتحقق كل ذلك حين أخفق سنتين متتاليتين فأخسر الجامعة وربما حياتي فيما بعد!

 لكن ها هي المراحل التعليمية الثلاث تنتهي.ثمانية عشرعاما تمترست خلف رحلة الصف، فهل تقع الحرب حقا مثلما يتوقع الناس ولا يتوقعون أم هو مجرد لغو إعلامي بين أكثر من طرف لاغير؟

3

الحرب

 لكن الحرب المختلف فيها أن تكون أولا تكون وقعت .. وجه العملة المعدنية هو صاحب الحظ.أصبحت حقيقة لمن أنكرها اندلعت قبل أن ألمس بندقية، وأغادر التنومة، منحتني فرصة أخرى للنجاح مثل المدرسة والجامعة، فرأيت بعيني الجيش وتوابعه يتحلل ويذوب أشبه برغوة تطفو على الماء ثم تتلاشى، ولعلها هي تلك بشرى شط العرب لي بالحجر الصغير الأخضر المزرق الذي لا أتذكر أين وضعته قبل أن نغادر التنومة إلى الزبير في حرب الخليج الأولى!

وها أنا ذا أتنفس الصعداء .. أرى وأسمع كلَّ مايجري فقد كان هناك معنى أوسع من الزمن وفوق كل التوقعات .. أسبوع واحد .. سبعة أيام حالت بيني وبين الحرب إذ تغيرّ كل شيء تماما .. فوضى عارمة والناس في البدء شُغِلوا بجزئيات عن وقائع كبيرة .. تابعنا بلاغات الصحّاف عبر شاشة التلفاز وسمعنا بمقاومة أمِّ قصر .. أبو هريرة الصحاف قال كلاما مقتضبا ثم أختفى ولم يعد .. نحاصرهم من جهة الدورة .. ستتصدى لهم قوات الحرس الجمهوري والجيش المليوني .. أمُّ قصر أَمْ الدورة وخروقات القوات الأمريكية المنهارة .. نعيش الأحداث بعيدين عنها في الوقت نفسه نحن فيها .. ثم انقطع البثّ وانتهت الحكاية .. اكتشفنا أن كل شيء كذب ومبالغة .. عشنا انفجارات هائلة قيل إنها قنابل صوتية تبث الرعب، وصحونا على جندي أمريكي يلفّ تمثال الديكتاتور بالعلم ذي النجمات الخمسين .. كيف تبخر جيش كالغبار في ساعات.قوات الحرس الجمهوري .. جيش القادسية .. الجيش الشعبي .. غلبنا أهل الخليج ضحكوا علينا ثماني سنوات ندافع عنهم.نقاوم الفرس المجوس وأخيرا سخروا منا ومن البوابة الشرجية .. القناة الشرجية .. ليسموها ماشاؤوا، بوكيمون، خلنا العشار أصبح أنقاضا من هول الدوي ِّ وإذا به لمّا يزل سليما معافى، ليضحكوا .. اللعبة الألكترونية تقول .. الامور يختلط بعضها ببعض .هؤلاء اللوطيون همهم فقط الدبر .. ضحكوا علينا ثماني سنوات والآن يضحكون على القوى العظمى بنقودهم .. أما جارالله الأعمى الذي عرف هؤلاء بعد أن جمح الحوت في النهر فقد قُتِل ولم يُكْمِل النبؤة .. غواية الصورة جعلتني أحتل مكان أخي في أحد الدروع خلال حرب الكويت .. أتخيّل الموت يحاصرني من كل الجهات .. ألمح وجه شوارسكوف .. فأتعرض لسلاحٍ خارقٍ يذيبُ الحديد .. ألتَحِم بالمعدن .. فأكون سائلا .. القصة تخيلها المعزّون والمواسون ففطرت قلب أمي، وسمعت أبي وهو يقول على الملأ: لن يبقى عندي إيمان سأنتحر إذا قامت الحرب لا قدر الله فحدث مكروه لابني الأصغر .. يا ترى لو لم يسبق التحالف الزمن ويبدأ الحرب قبلما ألتحق بالجيش فأين أصبح الآن .. في معسكر تدريب بالناصرية حيث البر المترامي الأطراف أم ْعلى أطراف مدينة ما أخلع ملابسي العسكرية.أتخفى ثم أبيع رشاشتي مقابل رغيف خبز، أم أضع طيرا في قفص وألملم أحجارا جميلة من البرّ فأحملها معي ماشيا إلى البصرة!

حرب أشبه بلمحة هجينة نصفها حلم ونصفها الآخر حالَ عيانٍ لا شكّ فيها مثل القنابل الصوية التي دمّرت العشار بأذنيك واحتفظت به عيناك سليما!.كلّ شيء جائز .. الزمن الذي غفلنا عنه فوجدناه لعبةً عند مختار الأعمى وحسابات دقيقة تمثلت بساعة لاتنقص أو تزيد نَقَلَ لنا دقاتِها مذياع .. جاء في هذه اللحظة بموجة فوضى .. وسلبٍ ونهبٍ واغتيالات .. العنيف يختلط باللطيف والشجاع يصبح جبانا، والماء الفرات العذب ملحاً أجاجاً، لا مقاييس، لا جيش ولاشرطة .. فمن يقتل من ومنْ يحمي منْ، وفوق هذا وذاك تُدخلنا دول الجوار بنفق يمتد بعيدا من خلفنا لا نهايةله .. أنتم أهل العراق تستحقون مايجري لكم من عذاب .. صدق الحجاج إذ وصفكم بالشقاق والنفاق، قتلتم ابناء الانبياء، حاربتم الأولياء، قاتلتم الطيبين، حاربتم إيران، سرقتم الكويت، رفعتم السلاح بوجه التحالف، فإن لم تجدوا قوما تحاربونهم رحتم تقتلون أنفسكم .. تحاربون بعضكم بعضا .. في هذه الاثناء، وقد اختلطت الأمور بين الحاضر والماضي، والشماتة والبذاءة، والرعب وانصباب الدم، فرّ أخي إلينا غادر العشار وجاء يسكن معنا في كردلان، أما أولاده الثلاثة فقد ابتعدت بهم الأم إلى بيت الجدِّ في الكوت .. ماالذي ينتظره حزبي قديم مدير مطاحن الجنوب في وقت كان الجميع يلهثون وراء الرغيف .. وهو يرى الناس الغاضبة تطارد بعض الحزبيين، تقتلهم أو تقتحم بيوتهم فتطالب أهاليهم فيما بعد بفدية يمكن أن تنقص بضعة آلاف إكراما لبعض الشيوخ.هكذا جرت الأمور خلال أيام قليلة فيخيل إلينا أنها دقائق طويلة.قرون من الجحيم انحشرت في ثوان، أخي معنا في مكان آمن لا أريد أن أفقده لكنّها هواجسي .. لا أحب أحدا أن يشاركني في البستان .. ذلك لا يعني أني أستهين بمصير أخي .. أو لا تعنيني حياته قط .. أبدا لا أفكر بهذا الشكل البشع بل بدوت لطيفا معه .. حاولت أن أواسيه .. أجاريه .. لم أذكِّره بحوارات التقطت بعضها في غرفتنا نحن الثلاثة مع سليم .. رحت أتحدث عن عشيرتنا وسطوتها وقوتها .. وفرعنا القوي نحن آال النبهان.المسلحون لا يصلون إلينا في كردلان وأخي لا يفضل الخروج بعيدا عن البيت، وهناك في التنومة ممن خدموا الحكومة السابقة لزموا بيوتهم وعاشوا بأمان.

أبي يستعرض أمام أخي أسماء حزبيين نسيهم الناس فقبعوا في بيوتهم ..

وأنا أؤكد له أسماء مسؤولين كرههم أهل شط العرب وأخذتهم الرأفة بهم!

ومن حسن الحظ أنْ لم يطرق بابنا أحد يدعي أنَّ عقيلا آذاه يوم كان رفيقا متنفذا في الحزب .. لكن لاوقت للأمان وإن ظننا العنف بعيدا عنا كنا نزداد قلقا كلما سمعنا بمحاولة اغتيال .. فمن نظن أنه نجا اليوم قد ترديه رصاصة غدا أو بعدحين .. طالبو الثأر والمتضررون من العهد البائد يطلعون بمفاجآت جديدة كل يوم .. اغتيال .. دهس .. خطف .. طعن في الشارع .. ظل أخي يلوذ بالصمت في أغلب الأحيان، ولعل آخر خبر انتشر في التنومة جعل أبي يهيج ويفكر بمخرج لورطة أخي هي الأخبار المزعجة وردت عن مصرع محمد الرشيد .. هناك اثنان خرّبا خِلسةً سلك الكهرباء من أمام بيته.يقال إنه ضر بعض الناس فسجن من سجن .وربما قُتِل بريء بسببه .. خرج يستطلع وفي لحظات حدث إطلاق نار وفرت سيارة إلى حيث لا يعرف أحد ..

أول حادث يسقط فيه قتيل من محلتنا ..

البعثيون مطاردون فإما أن يدفعوا دية أو يموتوا ..

محمد الرشيد أصبح عبرة لغيره وحديث العوائل في التنومةوكردلان، وأي حادث نسمع به يجعل أمي تهيج .. فيحمر وجهها .. ويتلون وجه أخي !

سألته، ولم يكن قصدي أن أبعده عن البستان بل عن الموت:

- هل تقدر أن تنقل عملك إلى بلد زوجتك؟

أجاب بلهجة اليائس المتشائم:

وهل تراهم عاجزين عن أن يتبعوا ضحاياهم؟

فردت أمي مثل النمرة الشرسة:

- مادمتَ لم تؤذ أحدا أو ترفع تقريرا بأحد فلا تخف!

- التقارير والتنسيق مع الأمن من اختصاص ضابط أمن المديرية!

قلت كأني فقط أحب أن أتحدث:

- يا أخي لا تنس ربما يستغل خصومك درجتك الحزبية للوقيعة بك وبنا نحن لا لضرر سببته بل لأن بعض الناس مجبولون على حب الضرر!

 قلت ذلك أداري هواجس يمكن أن تجرح أخي لو بحت بها عن قصد إذ منذ عودتي إلى البيت من آخر غطسة لي في الشط .. أختي تسكن مع زوجها بعيدا عنا، وعقيل يملك بيتا ووظيفة .. ماذا لولم أمت في حرب مفترضة وعدت بعد سنوات لأجد اثنين ينازعاني حصتي في البستان والبيت، مع ذلك لم أجرؤ على مخاطبة أبي، ولا شكّ أننا الآن يمكن أن نتعرض لابتزاز فنبيع البستان، فأُصِْبح لاشيء.أضفت اؤكد هواجسي:

- قد نضطر أن نبيع الأرض أو البيت.

ولزمت بعدها الصمت فقال أبي يتدارك الموقف:

_ إذا كان هناك من شيء لا قدر الله فسيبعث لنا أي متضرر وفدا من عشيرته لدفع فدية!

فاندفعت أمي ثانية بحماس مفرط بعث الهواجس في نفسي:

- لا تخف مثلمايقول أخوك إذا اضطررنا فسنبيع كل مانملك لئلا يعترضك أحد!

كان أخي ينام في غرفة أختي، في تلك الليلة طرق الباب ودخل عليّ .. صمته يفصح عن قلقه .. عيناه مشتتان.كأنه يريد ان يقول شيئا.كنا نحن الثلاثة قبل مصرع أخي ننام في الغرفة ذاتها بيننا ومخدع أبويّ غرفة أختي.كان النوم يداعب عينيّ مبكرا في حين يظلان يتحدثان .. بعض الأحيان التقط حديثهما، فأعي شذراتٍ منه ولا أفهم معظمه .. وفي وقت متأخر بعد مصرع أخي " سليم" عرفت أنهما كانا صديقين في أغلب الأحيان ومختلفين في بعض الحالات، وأن السنتين اللتين سبقتا حرب الكويت كانتا أوج تقاربهما على مابينهما من اختلاف .. وإنهما تحاشيا في حديثهما المسائي بعض العبارات ولجآ الى بعض الاشارات خوفا من أن أفهمها فيزل لساني عن غير عمد .. تلك الحقيقة عرفتها فيما بعد حين استجمعت ذهني أستعيد ذكرى أخي الشهيد الذي ترك فراغا في البيت كلِّه والحق إنَّه كان أكثرنا صراحة وقناعة عن نفسه والآخرين وأشكُّ أن أخي الأكبر عقيل تحمس في ان يعمل مع حزب الدولة عن قناعة تامة.دائما يعرف من أين تؤكل الكتف .. كان وفق فهمي للأمور حينذاك يحاول انه يتجنب الضرر ويغنم الكثير.اندفع في حرب الخليج وتطوع مع الجيش الشعبي .. دخل في حوارات عقيمة مع سليم الذي عُرِفَ بِصَراحةٍ زائدة عن الحد المألوف في زمن لابدّ أن يكون للفرد أكثر من وجه، وقد تحقق لعقيل ماأراد ترقّى قبل غيره في زمن قصير، فأصبح مدير المطاحن .. حسابات دقيقة .. قالها أمامي خلال نقاشه مع سليم إحدى الليالي .. لِمَ لا أحتل موقعا مهما مادمت نجوت من حرب اندفعت فيها متحمسا فغيري ليس بأفضل مني .. سليم نفسه لم يُفاجَأْ بتهافت عقيل لكنَّ الصدمة جعلته يغضب على المدرسة وعلى نفسه .. بالكاد أكمل المرحلة المتوسطة انزوى لايكلم أحدا إلا للضرورة حتى التقطه القدر في حرب الخليج عندها ترك مصرَعه أثراً في نفسي أكثر من أيّ أحد .. صرت أكره صحراء الزبير وخيل إلي يوم ورود نعيه أن جبل سنام تنين يفتح شدقيه، وربما تخليت لو لم يبدأ التحالف حربه الأخيرة قبل خدمتي الإلزامية اني سأواجه موتا لا يختلف كثيرا عن مصرع أخي قلت:

- لماذا لا تأتي لتنام هنا مثلما كان الوضع أيام المرحوم؟

قال من دون مقدمات:

- فكرت في كلامك كثيرا فبدا انه العلاج الافضل!

- هل اقتنعت أن تنقل شغلك إلى مدينة زوجتك!

- بل هي المرحلة الأولى، لذلك جئت أقول لك إني سأبريء ذمتي مع أبي.

- عن أي شيء تتحدث!

- إن الوالد رجل يؤمن بالحلال والحرام سأبريء ذمتي أمامه فأنزل عن حصتي في البيت تبقى أختنا يمكن أن تشتري منها أو تتنازل هي أيضا!

 شيء من تأنيب الضمير يجتاحني .. فكرت بصورة مختلفة تماما .. بعض الأحيان ألوم نفسي إذ ساويت بين رغبتي في البستان ونجاة أخي الأكبر.لقد شغلت نفسي بالاستحواذ على الأرض بعد مصرع أخي الأوسط .. يوم عدنا من العشار وكبرت، ثم تزوجت أختي وسكنت محافظة أخرى .. كنت أرى كل شيء يختلف عما كان عليه أخي الذي خدم في قاطع الوسط أصبح ذا وظيفة كبيرة .. التنومة تغيرت .. زحفت عليها البيوت والغرباء ومابقي الا بستاننا وبعض البساتين الممتدة على الساحل باتجاه الكباسي والحوطة فمن يضمن مستقبلا عصفت أوكادت تعصف به حرب الخليج الثانية :

- الآن في هذه الظروف لا يشغلنا شيء إلا الحفاظ عليك أنت وعائلتك!

فقال بنغمة يائسة:

- ربما لاشيء، لكن لا مستقبل لي، هنا لدي مايكفيني من مال .. قد أبقى مدة ثم اغادر البلد إلى سورية .. تركيا .. الاردن أيّ بلد لايهم .. سأجدُ محطَّةً ألْتَقِط بها أنفاسي ثم أطلب اللجوء!

كبرياء أم اعتراف بهزيمة .. زرت أخي في منزله أيام زمان.كانت صورة الرئيس تزين غرفة الصالون.صورة وصور أخرى .. جذبني أثاث البيت وحالة البذخ التي يعيشها .. مدير مطاحن البصرة في وقت بحثت الناس عن الرغيف .. أيّ رغيف سليم أم مطحون بنشارة لخشب .. البصرة كلها تتطلع إلى طعامها منه .. يمكن ان ينسى الآخرون درجته الحزبية .. منزلته في الدولة غير أنهم لاينسون تقريرا كتبه بحق شخص أو وشاية أدَّت بآخرين إلى السجن:

- هل أخبرت ابي بمانويت!

- أبداً لا، ولا تخبره عن نيتي في الرحيل.كلّ ما في الأمر أني سأبّريء ذمتي بخصوص الأرض!

إزاء مايجري من حوادث سيئة تجدّ كل يوم .. كنت أنا أو أبي وحدنا نجرؤ على الذهاب مضطرين للتبضع أو قضاء بعض الأمور فنجيء إلى البيت محملين بأخبار مافعلته المفخخات والانتحاريون وحوادث اغتيال للمترجمين المتعاونين مع جند الاحتلال أو الحزبيين القدامى:بعضها نتحدث به والآخر نخفيه عن أخي .. كان هناك انكسار ما يلوح على هيبتة هل يقول إنه فعل ذلك شأنَ الآخرين الذين اندفعوا مع العهد البائد فغنموا مناصب كبيرة ولا أحدَ يظنُّ حينها أنَّ دولةً بجيشٍ جَرّارٍ ورئيسٍ قويّ تسقط في بضع ساعات .. كان أخي يؤكِّد، والقلق يرتسم على وجهِ، أنَّه لم يعاقب أحدا ولم يقتل أو ينافق ليزيح شخصاً من منصبه مع ذلك خشي أبي من سوء العاقبة فزار شيخ العشيرة ليزداد أَمْنَاً بحمايته من أسراب المليشيات وعصابات القتل، وامتنع أخي من مغادرة البيت، مع ذلك بقينا في حيرةٍ وخوفٍ، فليس المهم أن يقتنع عقيل النبهان نفسه أنه بريء ولا أن نقتنع نحن أهله ببراءته من أي عملٍ تسبب في الضرر بل الآخرون والمليشيات التي تتربص بالمتعاونين مع العهد البائد!

***

د. قصي الشيخ عسكر

.....................................

حلقة من رواية: النهر يلقي إليك بحجر

1- الرّقي بلهجة العراقيين هو البطّيخ في اللغة العربيّة الفصحى.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم