صحيفة المثقف

رسالة تبشيرية لحاكم سرقسطة

محمد سعيد صمدي"رسالة راهب فرنسا ورد القاضي أبي الوليد الباجي عليها"، تأليف: يونس إمغران

إن من جميل الاحتفاء بالجديد في عالم النشر والبحث العلمي، هو الانتقاء الموفَّقُ لِما يصدر للناس في بحر لُجِّي من الإصدارات والسرديات، وفي هذا الصدد أصدر الباحث الطموح يونس إمغران باكورة أعماله التي تندرج ضمن تراث أدب الجدل والحوار بين الأديان في الفكر العربي الإسلامي. والمتتبع الباحث في تراث الحوار الديني يجده يحبُل بالمادة العلمية الغزيرة التي صُنِّفت في أقطار وظروف شتى، ما بين الرسائل القصيرة والمصنفات الطويلة؛ لنتأمل هذا السبب الذي دفع قسيسا لتأليف كتاب في التبشير والدعوة للمسيحية:" تذكر بعض المصادر والبحوث أن الكنسية الهولندية اتهمت القسيس النصراني الهولندي(هوكو كروتيوسHugo Grotius) بالتهجم عليها، فنبذته عنها، وحكمت عليه بالحرمان والسجن، مما حدا بهذا القسيس إلى تأليف كتاب يبرئ فيه ساحته عما اتهمته به الكنيسة من الارتداد عنها، فألف كتابا نظمه شعرا باللغة الهولندية: حقيقة الديانة النصرانية"[1]

 والتأليف[2] الذي نقدمه اليوم للأستاذ الباحث يونس إمغران" دراسة تحليلية تاريخية مقارنة بين عقائد النصرانية والإسلام" لنصين فريدين عبارة عن رسالة بابوية من راهبٍ فرنسي لأحدِ أمراء الأندلس والعالمِ الفلكي، حاكمِ سرقسطة المقتدر بالله بن هود السرقسطي (ت473هـ)، والنص الثاني رسالة الردِّ التي كُلِّفَ بها عالمٌ نِحريرٌ مُبَرَّز هو أبو الوليد سليمان الباجي الأندلسي (403 ـ 473هـ).

وكما قال صاحب الكتاب ليس الهدف هو نشر الرسالتين وتعميم فائدتهما؛ فقد نشرتا سابقا، إلا أن الكاتبَ شُغِف بعلم مقارنة الأديان وأليات التناظر والمحاججة فآل على نفسه أن يُعيد إحياء هذين النصين ووضعهما تحت مشرحة المختبر التفكيكي التحليلي، ليخلُص إلى" جدوى الاهتمام بعلم مقارنة الأديان، والدروس التي يمكن استخلاصها من مقاربة الجدل الديني القديم في ظل تطوره اليوم منهجا ورؤية وغاية، وعن الآفاق التي ينبغي للعالمين الإسلامي والمسيحي التفكير فيها لإنهاء حالات التوتر والمواجهة بينهما فكريا ودينيا وعسكريا."[3]  

وهكذا قسم الباحث عمله إلى بابين، تناول في الباب الأول الجدل بين التاريخ والدين، مع اهتمام خاص بالجدل الديني في الأندلس خلال القرنين الرابع والخامس ونظرة أوربا المسيحية القروسطية للدين الخاتم الإسلام، وخص الباب الثاني للقراءة التحليلية للرسالتين ومنهج كل واحد منهما في الكتابةِ والردِّ والإفحامِ، على اعتبار أن هذا اللون من الكتابة والتحبير يقتضي امتلاك آليات ضبط منطلقات الآخر/ المخالِف ومرجعياته ومقولاته ومعجمه لإفحامها واحدة واحدة، وعدم التغاضي عن المتناقضات والمصطلحات الدقيقة الموظَّفة ذات المعنى الاصطلاحي المحدَّد والذي لا يجوز تفويته في التضليل والتلبيس والتغليط خاصة لعامة الناس.

لهذا كان التناظر والمحاججة في أدبيات الرد على المبشرين مما يتصدى له ذوو الكفاءة والرسوخ والتجربة والأدب اللائق؛ وهو ما تُنْبِئ به مطالعة كتبهم ورسائلهم. يقول أبو الوليد في طالعة رسالته وهو يرد على الراهب الفرنسي الذي عاود كرَّة التبشير لحاكم سرقسطة:"... وقد كان ورد علينا قبل هذا كتابك... فقصدنا الرفق والتأنيس لك، وكان ذلك أفضل ما روجع به من تُرجى عودتُه وتُنتظرُ إنابته وفيأته، فإنما يُستعمل الإغلاظ لمن يُتَيَقَّنُ عناده ويتبين إصراره ولم يُرجَ انقياده؛ ونحن نرجو أن نرفعك عن هذه المحطة... ولما تكررت علينا رسائلك ووسائلك تعيَّنت علينا مفاوضتُكَ..."[4] وبما أن المشافهة والمواجهة أبلغ من الكتابة والمراسلة فإن أبا الوليد تمنى للراهب أن يصل بلدة سرقسطة قصد مقابلته شخصيا لبناء الفهم الصحيح، وإزالة التلبيس يقول:" ولوددنا أن الله ــ بفضله ــ يُيَسر لك الهجرة إلينا والمثول لدينا، فتسمعَ الكلام على حقيقته في معاني هذه الألفاظ، ونقيم وجوههنا واستعمالها على ترتيبها، وتسمع الكلام الإلهي على الحقيقة، كلام رب العالمين..."[5]

وهنا تستوقفنا ملحوظة قمينةَ الذكرِ والاستحضار، وهي أن الرسالة التبشيرية موجهة لأمير سرقسطة وهو مَن هو في السياسة والحكم وعلوم الفلك، ومع ذلك أسند الأمر لأهله وانتقى لهذه المَهَمَّة من رأى فيه كفاءة الرد وقوة الجواب أبا الوليد الباجي، هذا الرجل الذي يقول عنه صاحب الكتاب الأستاذ يونس إمغران:"ويعد القاضي أبو الوليد الباجي من أشهر رجال المذهب المالكي في المغرب والمشرق، وأكثرهم شرحا وتبسيطا لأصول هذا المذهب وقواعده... ولعل مكانة الباجي في العلم والقضاء رشحته لأن يلعب دورا في إصلاح ذات البين بين حكام الطوائف بعد عودته من رحلته المشرقية العلمية، غير أن هذا الدور لم يأتِ أكله بفعل الدرجة العالية التي كانت عليها إمارات الطوائف من الفوضى والاضطراب والتناحر"[6]

نفهم من هذا أن الباجيَ كانت يتصدى لأصعب المَهمات وأعقدها لِمَا كانت تتميز به شخصيته العلمية والتواصلية، وللمكانة التي حظي بها ببلاد الأندلس بخاصة.

إنني أدعو القارئ الكريم لمطالعة هاتين الرسالتين اللتين كُتِبتا في القرن الثامن الهجري وبالضبط سنة 785هـ، للوقوف القريب على مكونات الرسالتين ومادتيْهما والفوارق التي سيستنبطها القارئ كما وكيفا. كما أن دراسة الأستاذ الباحث يونس إمغران تتميز بمقاربة تحليلية لكلتي الرسالتين، حيث أعملَ فيهما نظرَه ونقدَه بناءً على ثقافة شرعية وأدبية(لغوية) وعَقدية ضرورية أهَّلتْهُ لاقتحام حقل الحوار بين الأديان، ودفع تسويق الأوهام في دروب هذا الميدان.

 

قراءة وتقديم: الدكتور محمد سعيد صمدي

المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بطنجة

..........................

[1] محمد السكاكر محقق كتاب منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب لعبد العزيز بن مُعمر(ت1233)1/67. طبع في جزأين/ط2/1999/ الرياض/ مطابع الناشر العربي.

[2]  صدر في 258 صفحة من الحجم المتوسط/ الطبعة الأولى 2018/مطبعة سليكي إخوان/طنجة

[3] رسالة راهب فرنسا: 21.

[4] رسالة راهب فرنسا: 218

[5] نفسه: 220

[6] نفسه: 141

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم