صحيفة المثقف

لورنس فرلنغيتي شاعر التمرد والانتشاء

سلام كاظم فرجمن مآثر ترجمة صباح محسن جاسم لقصائد الشاعر الأميركي المعاصر لورنس فرلنغيتي والتي ضمها كتابه (الشعر بوصفه فنا متمردا ..) والصادر عن دار الرواد المزدهرة./ بغداد... إنه قد نشر تراجم القصائد بمحاذاة النصوص المكتوبة بلغتها الأم.. وهذا مطلب قديم لكل القراء العرب الذين يجيدون القراءة بلغة ثانية..ومن مآثره أيضا  تضمين هوامش صفحاته شرحا وافيا لمدلولات الاسماء والمصطلحات (وهي كثيرة) والتي حفلت بها القصائد..وبعضها احتاج الى تواصل مع الشاعر الذي ناهز التاسعة والتسعين من العمر لفك تشفيرات بعض الإنزياحات والإحالات لكي تكون قريبة ومفهومة بشكل أفضل للمتلقي العربي.. فلورنس فرلنغيتي ورغم شعبيته في بلاده الولايات المتحدة الاميركية كشاعر شعبوي يساري وجماهيري هدفه إيصال رسالته لشرائح واسعة من الناس.. يبقى شاعرا نخبويا لا يمكن فك تشفيرات شعره دون الرجوع الى مجموعة من القواميس وهذا ما اشتغل عليه المترجم بعناية ..

على سبيل المثال..ثمة بيت يقول الشاعر فيه (الشعر يأكل كعك بروست..).. هذا البيت لايمكن فهمه دون معرفة مارسيل بروست   وروايته ذائعة الصيت (البحث عن الزمن الضائع..) والتي تبدأ من لحظة تناول كعكة مغمسة بالشاي أعادته لذكرى جدته التي كانت تقدم له في طفولته الكعك مع الشاي... في إشارة الى ان الشعر قد يكون مزيجا من الوعي و اللاوعي ... ونجد ثمة إحالة الى موضوعة التداعي الحر للأفكار في إشارته إلى بروست الذي يعتبر هو وجويس من أهم روادها في الأدب...

من خلال كلمة المترجم نتعرف على سيرة الشاعر بإعتباره ممثلا لما عرف بجيل الإبتهاج.. او حركة الإنتشاء المتمردة منذ ثلاثينيات القرن الماضي ونتعرف عليه بإعتباره معارضا من الطراز الأول لكل قيم الرأسمالية التي انتجت فاشيات مدمرة خلال رحلتها الطويلة  .. من الصعوبة بمكان تناول أبياتا مميزة من  أشعاره دون الرجوع إلى كامل القصيدة فثمة ترابط عجيب بين أبيات قصائده يجعل من المستحيل فهم ما يريده دون قراءة القصيدة كاملة.. وقد جازف صباح الجاسم وبدراية بترجمة ونشر أفضل ما لديه.

. في قصيدة تبدو كالصرخة يقول فيها الشاعر (إني أومئ إليك خلال النيران...

القطب الشمالي ليس في موقعه المعتاد

 

تدمر الحضارة ذاتيا

آلهة الانتقام تطرق الباب

ماجدوى الشعر؟

العالم يستنجد بالشعر لنجدته

وصوته يستصرخ البراري

لو كنت شاعرا لأوجدت الأعمال القادرة على الاجابة على تحديات الأزمنة..)..

القصائد ملأى بالتراكيب الغريبة وحافلة بالمفردات التي تحتاج شرحا ما.. هي متعبة ولا تمنح نفسها بيسر.. لكنك حالما تتلقف مفاتيحها ستمنحك لذة الاستكشاف..

وقد حرص المترجم والشاعر على عدم الإيغال في الشرح ... و ما قد نراه من هوامش متعددة للمترجم  هي غيض من فيض الإحالات الغريبة لرؤى وأفكار تغور عميقا في بطون كتب التاريخ والفلسفة والفن والآداب العالمية...

ومن غريب ما لاحظته في قصائد فرلنغيتي ان ثمة ابياتا مكتوبة باللغة الاسبانية وأخرى بالفرنسية او الالمانية  لا تجد صداها الممتع في الترجمة وقد نبه المترجم إلى بعضها وقد سأل الشاعر عنها فكان جوابه انها جاءت هكذا !!.. وهنا يمكنني القول ان تأثير إزرا باوند في جمهرة من شعراء عصره ومنهم فرلنغيتي الشاعر المخضرم ما زال فاعلا فالشعر هنا هو الذي يقود الشاعر لا العكس.. وزمام القصائد الجامحة سيفقدها البريق المرتجى إن أخذ بناصيته الشاعر الذي نهل من تمرد باوند على كل الطقوس والعقائد المسبقة في الشعر أو في الفكر أو في السياسة.. قد أكون متطرفا في فكرتي هذه .. لكنها تبقى فكرة قابلة للجدل والنقاش والتدبر....)!

(ايها الشعراء أخرجوا من مقصورتكم

افتحوا نوافذكم .. أفتحوا أبوابكم

لقد حِجبتم طويلا جدا.. في عوالمكم المغلقة

أنزلوا .....أنزلوا !!!

من التلال الروسية

وتلال التلكراف هلز

من تلال بيكون وتلال جابل

من قمة جبل أتالوج وضاحية مونتبارناس

من أسفل تلالكم وجبالكم

خارج خيامكم وقبابكم

الأشجار ما زالت تسقط

ولن تعود للغابات مجددا...حيث  لاوقت للجلوس هناك .(صفحة 154)..)

في هذا النص القصير ثمة كم هائل من الإنزياحات الشعرية نستطيع ان نعرفها إذا ما فهمنا إن (التلال الروسية) هي مقبرة ما .. وإن تلال التلكراف هلز هي تلال معروفة في روسيا تعتبر مرتع للببغاوات!!!

وتلال بيكون هي تلال كغيرها من تلال المعمورة لكن في وسائل الاعلام المحلية ترمز الى السلطة التشريعية والحكومة المحلية..!!

لاشك ان التوريات قد وضحت بعد التعرف على إيضاحات المترجم .. فالشاعر يدعو جمهرة الشعراء الى التغيير الشامل .. في الشعر وفي السياسة وفي النزول الى الجماهير العريضة .. وفي البيت الذي يتحدث فيه عن المقبرة والتلال التي ترتع بها الببغاوات  ثمة تقريع للشعراء الذين لا يأتون بجديد. ولا تحقق قصائدهم الانبهار المؤثر والفاعل والمحرك...

ومثل ذلك كثير في قصائد طويلة ممتعة وغنية بالتوريات المرحة تارة والساخطة تارة...

من الصعوبة بمكان إجتزاء اي نص شعري لتقديمه للقراء دون ان يفقد بريقه وجماله لذلك سأكتفي بما جازفت بتقديمه.. وفي الختام من الطريف نشر الرسالتين اللتين بعث بهما الشاعر للمترجم الأولى شخصية وخاصة بهما.. والثانية عامة بعث بها  بمناسبة انعقاد مهرجان المربد..

في الرسالة التي بعث بها لكل شعراء العراق وكتابه وللمشاركين في مهرجان المربد قال (إلى مهرجان المربد الشعري السادس البصرة ــ العراق..

مرحى لإتحاد الأدباء العراقيين والشعراء سيما نحن في النهاية نبحر جميعنا في ذات المركب المعطوب سواء على الفرات او الهيلوبونت .. الكنج او المسيسبي.. سوية نبحر صوب المجهول الشعري العظيم صوب الجزيرة التي ليست على أية خارطة.. لورنس فرلنغيتي / سان فرانسيسكو الثامن والعشرين من آذار 2009

والرسالة الشخصية بين الشاعر والمترجم :

عزيزي صباح:

إليك مباركتي ولتجد ناشرا على الرغم من إن دار طباعة أضواء المدينة يتعذر عليها نشره من باب عدم تحبيذ النشر لنفسي ذلك ما يسمى (النشر بقصد الزهو..)

أشكر لك هذا الجهد كله بالنيابة عن نفسي مؤكدا إنه سيكون مقامك الجنة بجوقات من حورياتها الفاتنات فيما يطربنك بإناشيد الثناء ومن ثم يمنحنك أرقام هواتفهن...

فرلنغيتي.. سان فرانسيسكو

ولا يخفى ان ثمة مرحا في الرسالة الثانية ومن خلالها تعرفنا على حقيقة انه لا يحبذ ان يقال عنه انه ينشر لنفسه ومن خلال الدار الخاصة به ...

 

سلام كاظم فرج

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم