صحيفة المثقف

ليلة البحث عن رشيد عالي

جمال العتابيتأخذنا نحن أبناء القرى والقصبات الصغيرة نشوة سحرية لإكمال دراستنا المتوسطة في مدارس المدن المجاورة، على الرغم من صعوبات الطريق والأجواء المعاشية القاسية وغيرها من المفاجآت . هذه المدن تمنحنا بعضاً من نورها، شوارعها معبّدة بالقار، أسواقها تسهرلساعة متأخرة، تستيقظ فيها ألوان الفجر بليونتها المائية العذبة، نتجول فيها أوقات المساء وكأننا نبحث عن كنز، تداهمنا رائحة الكباب فنقبل عليه إقبال العاشقين، عدّتنا في سنوات الصبا، لم تمنحنا أكثر من مفتاح صغير للدخول إلى أسرار المدينة .

بدأت عامي الدراسي الأول 59-1958 في الرفاعي، فالغازية لم تنل فرصتها بعد من هذا الإمتياز، ننتظر أن تنقضي أيام الأسبوع بسرعة، نترقب قدوم يوم الخميس، مشدودين بكل حواسنا للعودة إلى معبد الأمومة ليلة واحدة .إذ تعاودني الرغبة لصمت التراتيل وخفوت الصلاة، لتستيقظ أعماقي في آفاقها الرحبة، فليل الغازية صمت وعتمة، ليس سوى تسبيح للمياه، وشدو للضفاف والنخل، أسمع صداه، وفي البيوت مواقد خابية اللظى، وبصيص من نور للفوانيس، لم تعدم سناها بعد، كأنها تبعث بحداءٍ بعيد ومتقطع، شوارعها تشاكس البيوت بالغبار حيناً، وبالوحل حين ينهمر المطر، والأمهات فيها يلدن دونما ضجة، ودونما صخب .

الطريق الترابي الى الغازية بضعة فراسخ في الطول على ضفة نهر الغراف اليسرى، تمر عبره سيارة واحدة بهيكلها الخشبي يُحشر فيها البشر والماشية معاً، وفي أحسن الأحوال هناك سيارتان تجوبان الطريق بين الشطرة والرفاعي . تحمل منتجات الفلاحين وأمتعتهم والدخان يلون سطوح هذه الهياكل .

في اليوم التالي تودعني أمي بتراتيل صلاة الجمعة، و(صرّة صغيرة) فيها متاعي الذي صنعته بكفيها المزهرين بالوشم . في صباح نازف بالبرق والرعد، نتوجه للصوب الثاني يرافقني والدي، وقلبي غارق في الحزن مع موجة المطر الكثيف الذي يستبيح الطرق، ويستفز الزروع، ولسع البرد يغوص حتى في الجيوب، وفي جواربي وتحت جلدي، لا الأب يثنيني من تأجيل السفر، ولا أنا أدرك معنى الخطر، عبرنا الغراف بقارب يتمايل نحو اليسارتارة ونحو اليمين تارة أخرى، في نهر طافح بالوعود والكبت والقلق، بسلام إتجهنا الى مقهى (عبادي)، الوحيدة التي تأوي المارين المتعبين من هناك، المقهى توحي بتوجعها الخفي، وعمرها المكدود ورغبتها التي تتضور عطشاً .مرّت ساعات بسكوت هائل لامتناه، وانا أراقب صمت عيون أبي العميق، عيونه المتجهة نحو صوت الباص القادم، وكأنه يخوض بطوفان، يستجير بالصراخ من الطين، مندفعاً بتمرد يقلّبه الموج بلا بوصلة تحدد الإتجاه، نسمع صرخاته كالبكاء في ليل عيد، توقفت السيارة بصعوبة على بعد خطوات بعد أن خفت لهاثها، عانقني أبي مودعاً، لم أجد صعوبة في أن أختار أي مكان من هذا الهيكل الخشبي (أبوضلوع)، الخالي من الركاب سوى رجل وزوجته وطفلهما الوحيد، فأخترت مقدّم السيارة (الصدر) إلى جوار السائق، لأنها فرصة تاريخية لن تتهيأ لي في الأوقات الإعتيادية .

عمي ما هذا الحديد الذي يلف إطار السيارة؟ سألت السائق .

-إبني هذا يسمّوه زنجيل يساعد السيارة على الحركة وسط الطين، لكن أنا أريد أسألك . أنت وين رايح بهذا اليوم الأسود؟ أبوك ما نصحك ؟

-لاعمي ! لازم ألتحق بالمدرسة غداً .

لم ينتبه السائق لإجابتي، ونزل بعد ان أصبح الباص أشبه بغريق في خضم الطين وأمواج السيول بعد بضعة كيلومترات من السير، نادى الرجل ليعينه في الدفع، أحس بالأرض تميد، ومحاولات الحركة باتت متعذرة، ومحرك السيارة يتحول إلى صوت يهتك السماء، إلى أن خمد الصوت كان الوقت غروباً، لاشيء سوى هيمنة الظلمة، وصرير الريح يلطم بالسطوح . توقف المحرك عن الدوران تماماً

-هذا حدنا ..قال السائق بإسترخاء .

يعني شنوعمي؟

-أجاب دون ضجيج، ننتظر فرج الله حتى الصباح .

إلهي ...أما من مغيث؟ توجهت المرأة بتضرع إلى السماء، لم تغثها القبائل، ولا النجوم التي توارت وراء السحب سمعت نداءها، فالسماء كانت تهطل غضباً، والبرد زمهرياً يطحن العظام، قرى تنكسر من فرط أحزانها، كأنها أشباح تمد مخالبها في الظلام، لانار في بيوتها البعيدة تدفىء الأجساد، ولا ضوء غير سورة الريح، ولا زيت ولا طعام، سوى شياطين تحرس الدروب، ها أنا من فرط الخوف يغلبني النعاس مع إنهمار آخر مزنة في الليل .

أصحو على بزوغ ومضة ضوء بعيدة تسرق السكينة، مالبثت أن تتحول إلى صوت معاند وهو يقضم المسافات، ها هو الفرج قادم يسبح في حالك السواد بجنون الحديد، يوقظ الطين من غفوة مؤقتة، من يا ترى يبحث عن سر هذا الإنهمار، ويغامر في أخاديد الوحل ؟ من يهجر دفء بيته الآن ؟ ليسمع شهقات طفل يتضور من ألم الجوع، وتجهش أمه بصمت لاهب .من يعين عيون أمي المسهدة التي تنتظر خلف النوافذ، أرق ترصدها فسرق النوم منها تلك الليلة، (قلبي يعلم) كما ذكرت لي بعد حين .

يلزمني بعض الوقت لإدراك معنى الرصاص والنداء المذعور الذي إنطلق فجأة حين إقتربت سيارة الشرطة منا، صوت الرصاص إستفز الحقول النائمة، والمطر الناعم الذي ركد على الأرض قبل سويعات، ترجل منها بضعة مسلحين مدججين بالبنادق، حاصرتنا الأسئلة، ودهشة العيون، إقتادونا إلى حوض السيارة الخلفي كأسرى، إستدارت بحركة مجنونة لتنطلق بقوة نحو المدينة، بين المجموعة تعرفت على وجه صديق لوالدي، إنه المعلم أحمد فإطمأن قلبي وسكنت روحي، سألته : مالذي هداكم إلينا يا أستاذ ؟

-نحن في واجب يا إبني، إحمدوا الله انه كان السبب في إنقاذكم في هذا الليل المهلك، قلت وما الواجب ياعم، فأجاب : نبحث عن (المتآمر) رشيد عالي الكيلاني الذي هرب إلى مدننا ليحتمي بشيوخ العشائر الموالين له، والمعادين لـ (الثورة والزعيم)، قلت دعني إذاً يا أستاذ أن أسبح بحمد رشيد عالي وأشكره على فعله هذا الذي أنقذنا، رحمة على أهلك رشيد عالي، وأردفت بالقول : لولاه لكنا في التيه ينخرنا البرد وصمت الليل .

في الخميس التالي كنت أروي لأمي التي تنتظرني بلهفة، معنى حزن ليلة 8 كانون الثاني من عام 1959 عندما كانت طيور الحب تنام . كان وجهها يضمر إبتسامة لاتسمح بالذهاب إلى التأويل، فقالت ببساطة وعفوية : وليدي، أبوك أيضا ًكان في تلك الليلة يبحث عن رشيد عالي .

 

جمال العتّابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم