صحيفة المثقف

الصداع

قصي الشيخ عسكرلو أدركني النوم إلى حلم غريب لوجدت أن عين البصرة العملاقة أصبحت تسيل بمصابيحها على الماء فتصل خيوطها اللامعة الى بستاننا في ضفة شط العرب. كانت المتناقضات مع افتتاح مدينة الالعاب والعين السحرية تجري من حولي متقابلة يصدم بعضها بعضا، لولا الصداع لوجدتني حقاً في حلمٍ غريبٍ عجيبٍ . الشوارع اللاهثة تحت الأزبال ونصوع (المولات) الجديدة والعتمة التي تشمل البيوت تذوب في بريق الأسواق الحديثة ومدينة الالعاب ثم الغياب المفاجيء لقريبي الذي يأتي بفكرة عن مشروع من بغداد أو خلال زياراته إلى دول الخليج وأوروبا، وإعراضه عن الحضور لافتتاحِ أيِّ مشروع بحجّة تكليفه في سفر رسمي .

قلت أجسّ نبضه قبل السفر بفكرةِ الهدد الجديدة:

- ما رأيك في أن نعمل من مدخل البستان الفارغ حديقة حيوانٍ صغيرة؟

- هذا امر يحتاج إلى تأمّلٍ، معنى ذلك يشير إلى تحركٍ وسعيٍ، وهذا يدل على أنك تضع رِجْلك في الموضع الصحيح!

كان المحافظ يقصّ الشريط نحيط به نحن الملاحظين. أخي انتهج السلوك ذاته يوم انضوى تحت مظلة الجماعة فنزل عن رتبة مدير وأصبح يسافر كثيرا، أحيانا ينسى أن يمرَّ على والدي فيودعه قبل السفر، أما أنا فقد فكرت بالسفر للعلاج اخترت تركيا وإيران ومرت بخاطري الهند . زرت أطباء عديدين فأكدوا أن لاشيء لا سرطان ولا ورم . ربما هي الشقيقة، مع ذلك بدأ وزني يهبط ولاح ذبول على وجهي وبقي الصداع المتفاقم ينتشلني من تلك الأحداث المتناقضة الهائلة السرعة التي لا تتحقق إلا في الأحلام .

كنت في مكتبي والوقت لما يزل مبكرا على المغادرة إذ أنهينا مسح أراضيَ من البوارين إلى الصالحية وعلمت أن اليوم افتتاح المدينة ولم أُفاجأ بسفر قريبي كما لم أفاجأ بتفاقم الصداع . أمرت السائق أن يجهز السيارة وفي بالي أن أمر على الدكتور . لا شيء . قلت ذلك غير مقتنع . صداع وليس وهما . الأشعة والتحاليل تؤكد أن لاشيء. وسوف أتناول حفنة من الأسبرين والمسكنات. مادام لاشيء خطر فلابد أنها الشقيقة . داء لا دواء له . وقبل أن أغادر مكتبي طرق علي الفراش الباب . فوجئت بحشد من أهالي شط العرب ذوي البساتين المحروقة . محسن النبهان، علي إسحاق، كامل الأعسم وآخرون في دهشة من أمرهم . ملاك اراض وبساتين طحنتهم حرب الخليج الأولى وابتلعت أراضيهم التي اختلطت على مشارفها الجثث بألغام، وشخصت عندها الجذوع كشواهد قبور، نخل محترق وحصاة زاهية الألوان غفلت عنها العيون . ضاعت ولا أحد غيري يلتفت إليها . كانوا التمسوا المحافظ في أن يفرز الأرض ويشق أنهارا طمست ليتركوا العشار ويرجعوا إليها، أما تقرير المحافظة فقد أنكر القرى الهالكة . لا قريةَ تُدعى الدعيجي ولا سجلات تثبت أن هناك بساتين اسمها نهر جاسم، وإن احتفظ بعض ملاكي الأرض بأوراق ملكية صفراء باهتة تطاولت على الزمن . كان البَرَم يلوح على وجه العم محسن. لم يكن المحافظ في مكتبه، وصالح مازال في بغداد، ولعله قصد مكتبي ليعرف نتائج المساحة التي نكاد نفرغ منها . توقعت أن يصنفني في قائمة الذين يتوجس منهم خيفة فأنا رئيس الملاحظين والمشرف على عمليات المسح، وعلى الرغم من بَرَمِه إلا أنني لا أجد أيَّ انكسارٍ على وجهه، رجل لايقرّ بالهزيمة، ويظنّ عن حسن نية أن التسويف لاينفع معه ولا يجعله يلين، قال:

- ياولدي هذه فرصة لتستعيد الأرض عافيتها منذ العهد العثماني والولاة علىالبصرة غرباء، المحافظ ليس من البصرة غريب عنها لا يعرف أيّ شيء إلا أنك من كردلان وابن عمك صالح من الصالحية يعني ذلك أنكما تدركان ماعانته البساتين منذ الحرب الأولى!

وقال علي إسحاق الذي استمد حماسه من محسن، متذمرا:

- أليست مشيخة بني تميم كانت في كوت سوادي قبل الحرب ألم يكن شيخ العيدان في الصالحية وكوت الجوع؟

- واندفع آخر لا أعرفه:

قبل الحرب ظلت الإذاعة والصحف تتحدث عن محور نهر جاسم وعرب بني تميم والعطب والقطارنة أكل ذلك كان لاشيء!

فقاطعت ليكون جوابي مهدئا :

- لا بد أن يكون هناك التباس في الموضوع . أنا نفسي خرجت مع لجنة المساحة التقارير جاهزة حتى يعود السيد "صالح"ولن يكون إلا خيرا!

لا أدري كيف ستحل المحافظة العقدة . القرى غرقت . غطتها ملوحة الماء الصاعدة مع المدّ فتطاول رأسا النهر بمطارق وألسن أضحت مستنقعات فَتَحْتَ الماء جثث وفوق التراب حصى . يقال كماشاع أن تركيا تضخ لنا ربع الماء . ولن تعود القرى إلا بشق الأنهر والأنهر لن تكون إلا حين نبني سدّا والسدّ لا تقبل به إيران ودول الخليج !

حكاية مدورة تبدأ من حيث تنتهي وتنتهي من حيث تبدأ .

حالما خرجوا غادرت إلى الطبيب، النتائج نفسها، والتطمينات . أحسّ صداعا، والعلم يقول لاشيء . أكاد أحارب دوامة مجهولة:أسمع انفجارا عند أسد بابل يؤكده الجميع، ويؤلمني رأسي ليكون بعدئذٍ لاشيء . هناك نية السفر إلى الهند لأتاكد من سلامة رأسي . وصلت البيت فوجدت الهدهد يغني مسرورا . بعد شهر من الصمت في القفص بدا يغني ويتراقص على العارضة . لمحت الحبوب فوجدته التهمها بشهية مفرطة:

سألت:

- أية ساعة بدأ الهدهد يغني!

قالت أمي:

- وقت الضحى!

وعلق أبي:

- نريده أن يسكت فلم يسكت.

- لولم أسمعه يغني في الفخ لظننت أنه أخرس!

أجابت أمي:

- بعض الطيور تحتاج مدة طويلة حتى تألف المكان بالأخص إذا كانت وحيدة في قفص.

ضحك أبي وقال:

- أتظنه ذكراً أم انثى!

- لا أدري.

عقبتُ وقالت أمي:

- أظنه ذكر.

- خذه إلى سوق الطيور سيعرفون جنسه هناك وابتع واحدة له!

تجاهلت كلام أبي وألقيت ملف الأشعة على المنضدة فوق جرارٍ ملأته بالحجارة النادرة وسبقت أبوي اللذين شغلتهما معي حكاية الهدهد:

-لاشيء إنها الشقيقة وفق رأي الأطباء! قد أسافر إلى الهند للعلاج"والتفتُ"إلى أبي:ابن عمك محسن النبهان كان عندي في المكتب !

- حقه والله حقه الحكومة السابقة منحت كل عائلة تركت أرضها بسب حرب إيران مائة دولار بالشهر ماذا تفيد مائة دولا ؟" ومطت أمي شفتيها" ماقيمتها الآن سبحان الله اصبحنا نحسب بالدولار!

تحدث أبي بطيبة متناهية عن ابن عمه الذي دخل بأكثر من صراع معه خرج منه خاسرا بدءا بالتجارة وضمان الاراضي ثم منافسته إياه على حب أمي لكن جدي فضل أبي عليه، وأخيرا منزلة أخي في الحزب قبل السقوط ومركزه الحكومي، وكان بعد زيارته لمكتبي يظن الصراع الحالي لا بينه والمحافظة بل يُدْخِلُ فيه صالحا النبهان وربما عائلتنا، وكان محسن النبهان من شدَّةِ غيرته وحمقه يُفْلِتُ كلمات قاسية بحق عائلتنا:

- يا أبي القضية أبعد مما تصور إنه يريد أن نفصل الأرض كما كانت قبل الحرب مع إيران فنعيد الانهار والبساتين إلى عهدها السابق!

- دعه يحلم. كان الله في عونه!

8 عواء

وأظنني لست أحلم.

فهل كان الهدهد ينغص عليّ نومي، وقد تيقنت تماما أنه غنّى في النهار وصمت خلال الليل.

تلك الليلة كان نومي متقطعا فرحتي برجوع الهدهد إلى الغناء جعلتني أتناسى ولو إلى حين بعض الألم والدوار فلا بد أن أرتب أوراق سفري إلى الهند فأعالج نفسي وإن لم يكن هناك من شيء ذي بال سوى الصداع، فهل كان الهدهد ينغص علي نومي . يلعب معي لعبة جديدة . يغني عندما أغفو ويصمت حالما أستيقظ. نهضت من فراشي وأنرت المصباح، التفت اليه فوقعت عيناه على عينيّ، رفع رأسه يحك قنزعته بالسقف، وتخطى باتجاه الحَبِّ المتناثر في القفص . تيقنت من صمته . وانتبهت إلى أن هناك صوتا آخر أيقظني من نومي المريب . أنين أو شبيه به، أصغيت فتبينت عواء ذئب أقرب للأنين. ما أسمع يأتي من بستاننا عند السياج البعيد عن حافة الجرف . عند حافة الساقية من ناحية البرّ. عواء لاريب . ذئب في بستاننا . تواصل العواء متقطعا بضع دقائق ثم سمعت نباح كلاب من بعيد . كيف تخطى الذئب حافة البرِّ الخالية من الألغام . من قبلُ وحتى هذه اللحظة تهامس الاهالي أن الذئاب اتخذت من بعض حقول الألغام مأوى لها، وكانت الكلاب قبل حرب الخليج الأولى شرسة تحمي بساتيننا من الضباع والذئاب والثعالب وبعد الحرب وفي الحصار تهجنت. أضحت تختلط بالناس وتتزاوج بالحفر التي عملها الجيش الشعبي والحزبيون لصد التحالف فأضحى الشامتون يصفون الكلاب السائبة الكثيرة . بالرفاق اسمع نباح كلاب وأشك في أنها تتعقب ذئبا أوتُعنى بثعلب . عليّ أن افتح الباب الخارجي وأتنكب البندقية . كان هناك ظلام فعين البصرة أطفأت أنوارها ورصيف الداكير قَبِعَ في عتمته المألوفة كلَّ ليلة، فهجعتْ تلك الساعة ضفة العشار تحت ظلام مريب. سرت نحوخاصرة البستان المطلة على السبخة عند شجرة سدر كبيرة. الظلام جنبني أن أقع في مصيدة . كأنما الحباحب . شيء ثابت يلمع في الهواء . وعند العينين الراسختين في الهواء عاد العواء ينطلق بشكل حاد. ز زمجرة بوجهي ونداء قصير . ظهري يحتمي بشجرة السدر . .

أعترف لنفسي ان شيئا من الخلف استفزني .

بعض الهلع نعم . .

خوف. لا أنكر . ظهري للسدرة ويدي على الزناد .

 . ربما هي هواجس وريبتي من الظلام . أهل التنومة يقولون أبناء الدعيجي ونهر جاسم وكوت سوادي أشجع منكم. هناك البساتين حين يغيب القمر يغطيها ظلام مطبق لكن الضوء يأتي إلى بستاننا من أضوية العشار المتراقصة على صفحة الماء، ويتسرب إلينا من شارع الساحل الهابط من التنومة وبستان الشعيبي أو ضفة العشار حيث ترسو البواخر قبل حرب الخليج الأولى. هل أطلق رصاصة نحو الزمجرة والعينين اللامعتين ولو فعلت لتوارى السكون ونغصت على أبويّ نومهما ولابد بعد ذلك من أن أواجه تساؤلات أحارفي الجواب عنها.

لكنْ

ليكن مايكون فعند الصباح أعثر على جثة ذئب في البستان أو أيِّ أثر من دم يشير إلى زيارته الغريبة.

جثوت على ركبتي ورفعت البندقية إلى كتفي . كنت مصمما على أن أطلق النار، ولا أنتظر . غير أن المخلوق القابع في الظلمة انطلق أسرع من البرق . لمحت عينيه تطيران في الهواء. سمعت رفرفة خشنة بعدها. ربما حمامة أثارتها الحركة المريبة . ثم خيم السكون لحظاتٍ تلاها من رطوبة السواقي صرير جندب ونقيق ضفادع عندئذٍ تأكدت تماما أنَّ هناك ذئبا اجتاز البرَّ الذي بموازاة السبخة إلى بستاننا وانطلق يعوي على مسافة من الكلاب، رجعت إلى المنزل فوجدت كل شيء ساكنا، فاستلقيت على سريري ثانية دون أن التفت إلى الهدهد .

وفي الصباح نظرت بريبة إلى والديّ اللذين لم يحسا شيئا . ولاريبة في نظراتهما إليّ . حركتي الليلة الماضية مرت بسلام، فقالت أمي وهي تدير كأس الشاي:

هل خف الصداع ؟أنمت مرتاحا؟

قال أبي وهو يلوك اللقمة:

دعيه أنا أعرف سرّ صداعه ولدك لا ينفع معه إلا الزواج!

ضحكت وقلت: كل شيء بأوانه!"زدت ممازحا دون أن أدري لِمَ خطرت لي الفكرة وإنكانت تافهة"مع ذلك سأقبل فورا من دون قيد أو شرط إذا وافق عمي الشيخ محسن النبهان أن يزوجني إحدى بناته !!

قلت عبارتي وتطلعت بوجه أمي التي قالت:

دعك من هذا الكلام شيخ من قال ذلك؟الحاج محسن شيخ آل النبهان . لا شيخ يستحق المشيخة إلا جدك رحمة الله عليه!

أما أبي فقال مواسيا: سيكون هذا زواج مصلحة بين المحافظة والشيخ محسن أما أنا فأرى أن يكون زواجك بعد أن تبتاع أنثى للهدهد!

معهما وذهني مشغول بالبستان، أتتبع على ضوء النهارالساطع أثر العينين اللتين حلقتا نحوي في الظلام. يتداول الناس حكايات عن ذكاء الذئاب لكنها كيف تستطيع أن تمحو آثار أقدامها . قصدت المكان ذاته جلت في الساقية، وعند نهاية البستان بحثت في الحشائش والحلفاء . ربماعثرت على لزوجة ذات بريق تركها قوقع على الحشيش وليس من أثر لأقدام ذئب . ثمة في ذهني أمر آخر . الهدهد اصطدته بيدي، فلم لا أعيد المحاولة . إن كان ذكرا عثرت له على أنثى وإن كان أنثى قدمتُ بذكر . لأنس قليلا زيارة الذئب المفاجئة لي ليلة أمس . أذهب إلى المكان نفسه . فرحي بصيد عوضني عن طيور جميلة . جعلني لا أتذكر الشباك على الأرض سأعود لها أنثر فوقها بعض الحبوب والدود.

يمكن أن أسميها لعبة الطيور . .

هكذا نويت، وإذا بي أبصر في المكان نفسه مشهدا مقززاً . قد تبدو جريمة اقترفتها ولم أقترفها في الوقت نفسه!

ليست هي الطيور الجميلة الغريبة التي حالما تضعها في قفص تمارس الانتحار!

كنت أقف على مجزرة مروعة . بقايا عظام وريش وآثار أقدام غريبة . قد تكون لقطط بريّة وضباع وثعالب . ما يقع عليه بصري في النهار يختلف عمّا حدث في الليل. كنت وجها لوجه مع الذئب . وماوجدته هو بقايا طيور وقعت فوق شباك نسيتها في مكانها . عالجت طويلا عبثا لتتخلص حتى جاءت وحوش البر فمزقتها، وإذا بآثار دماء جافة على المكان وبقايا عظام وريش متناثر تلفَّعَ بالطين والتراب ففقد لونه وتلاعبت به نسائم الليل وزمهرير النهار . اختلطت البقايا ببعضها فلا أثر يدلني على أن الطيور الجميلة الزاهية الألوان التي تنتحر بالاقفاص وقعت في الشرك . ربما سقطت . كل شيء محتمل . ولا نأمة في المشهد الميت الساكن ذي البقايا من ضحايا الطير إلاّ البقر العائم، وطيور الرخيوي والغواص .

إذن مارست القتل عن بعد دون أن أدري، ولو أني وددت أن أرى الطيورالغريبة التي لا أعرف اسما لها أن تضرب رأسها بقفصٍ آسِرُها فيه ربما أرق لها فأطلق سراحها . قد لا أرغب أن أتابعها وهي تقترف الموتَ. بسببي. كانت الشِباكُ ملوَّثةً مشوَّهةً. كأسنانٍخرة . تلك اللحظة خطر بذهني الهدهذ الذي جاء للشبك وحده فأسرته. جئت لاصطاد له أليفا. لن آخذه لسوق الطيور فأعرف جنسه ولن أبتاع له ذكرا أو أنثى على الأقل في الأيام القريبة القادمة.

هل يمكن أن يكون من بين الطير الممزّق في الشباك المنسية طائر هدهد؟ كلّ شيء محتمل!

حدثت نفسي بذلك الحديث وغادرت المكان.

9 - عواء

زار عمنا محسن النبهان المحافظة بعدعودة قريبنا"صالح "من سفره، رأيتهما يخرجان من مكتب السيد المحافظ وفي آخر مرة بدا التجهم على وجه الجميع بصورة تنذر بوقوع حدثٍ لا أستطيع تأويله والتكهن به: الضيوف والمتحدث باسمهم قريبنا.

قرأت الشرر في عيون الجميع .

وهناك وعيد .

الوحيد الذي خرج بوجه دونما ملامح الكبير "صالح". انفردت به في الغرفة فانقلبت سحنته إلى غضبٍ عاتٍ . كل آل النبهان لي فضل عليهم أما هذا فقد غامر في قضية خاسرة لا أمل فيها!

قلت أخفف من حدته وتذكرت قصته في حب أمي:

- دائما هو هكذا يغامر بقضايا خاسرة منذ خلقه الله!

والله أشعر أن هناك دافعا ما يحركه ربماحسد الاقارب في بعض الاحيان الأقارب عقارب أتذكر يوم حمل عليكم زمن النظام السابق.

- لم ارتح لعبارته فقاطعت:

- لا تنس أنه عمي وعمك!

فنهض من مكتبه وخفض صوته

- هذا عمى وليس عمّا . هاهو يدخل في عداء مع المحافظة يعني عداء مع بغداد وذلك معناه أنّك تعادي إيران وامريكا ودول الخليج فضلا عن تركيا يا أخي مجنون!

فتطلعت إليه بنظرة لائم:

- اعتقد أنك تبالغ!

- لا أبدا أنا خائف عليه أنظر إلى الأرض من الداكير إلى الخورة فالقصور الرئاسية أصبحت جنة والأرض من البوارين على الضفة الأخرى إلى كوت الجوع لها تقدير آخر ربما معامل حليب وورق أما عمك هذا فيريد ان نعيد البساتين والقرى إلى ماكانت عليه ولا يفهم أن النخيل انتهى زمنه . مات . هل يمكن ان يعود ميت للحياة!

- والحل هل أبعث والدي إليه يقنعه؟

- أبوك؟من أبوك بالنسبة إليه . منافس قديم . هه إنه تيس لا فائدة منه ليقبل بتعويضٍ مجزٍ ليقنع الحشد الذي معه بتوافق ما . لا أخفيك أخشى أن تكون المحافظة رأت فيه عدوا "صمت برهة وواصل" أناخائف عليه لا أريد أن نفقد أحدا من آل النبهان!

تهديد أم مجرد توقع . تلميح . الحق إني توقعتها مبالغة من قريبي الذي ودّ أن يقبل آل النبهان عروضا أخرى مثلما رضخ والدي فضمن سلامة أخي. تخويف لا أكثر . وقتها تحاملت على العم"محسن"، وكان ذهني مشغولا بحدث آخر. غادرت مع أبي نبيل إلى القنصلية الهندية، وحدث البارحة يصرفني عن التفكير بزيارة أهل الدعيجي والصالحية يقودهم عمي للمحافظة، وثرثرتي عنه مع قريبنا السائق حيث أخذت حوادث البارحة والليالي قبلها تصرفني عن أية قضية تخص العائلة . اكاد أصبح مغلقا عن الناس فما رأيته في الليلة لاولى حاولت تفاديَه بالصمت. أعدّه حلماً . ليكنْ أحيانا بمرور الوقت نظنّ كثيرا من الحقائق السابقة أحلاما وإن كانت واقعا . قلت إنها المصادفة، وفي هذه اللحظة وأنا أقبض على التأشيرة أسال أبا نبيل:

- أتظن أن ذئبا ما يستطيع أن ينفد إلى أي بستان مع كثرة الكلاب السائبة!

ردّ متأملا:

- ممكن الذئاب ذكية تدع بعضا منها يشاغل الكلاب فيتسلل واحد أو اثنان إلى أيِّ مكان!

- قد تسوقها الرائحة فتأتي إلى بستان يخفي لها حجرا أسيرا فَلِم لا نرى لها أثرا!

أووه البساتين تغطيها الحشائش والزرع . فيها مايخفي الاثر من عاقولٍ وخبيزٍ وحندقوق بطوش . شفلّح أووه، والبرّ مكشوف لايخفي الأثر مفضوح.

وإنِّه لكذلك وفق مشهد البارحة الذي لم أحِّوله إلى حلم وكان يشغلني عن زيارة قريبنا اللاهث وراء جوع النخل، ويحثني أن أهرع إلى القنصلية لعلني أجد في قارة السحر والحكمة بعض الدواء لعلاج الصداع الذي نخر رأسي . فهاهوالوجع يغلبني عن النوم . يبدو في النهار صداعا قويا وفي أثناء الليل يتحول إلى مطارق. مثقب طبيب اسنان يحفر في الجمجمة . شهيتي للطعام تلاشت وقلَّ وزني . ربما أفكِّر باصطحاب أبي نبيل معي إلى الهند . ولعلني أستدعي أخي موظف المطاحن . مهما يكن، فالهدهد استغرق بصمت . وفي باحةالبيت لم أسمع أي َّصوتٍ لقطرات الماء في الحوض منذ أن اصبح الماء مالحا ولا أحد يشرب من الحنفية. كأن كل شيء يصمت ليوصل إليّ الأصوات الغريبة . عن بُعْدٍ سمعت نباحا وبعض عواء، ومن مكان ما في البستان خلته هذه المرة أقرب إلى ضفة الشط . لم أغامر كما فعلت في ليالٍ مرّت. هناك أكثر من عواء . ذئبان أواكثر . مخلوقات غريبة لا أراها في النهار تحاول أن تدركني عند الليل . أبي وأمي ثقيلا السمع في مثل هذا العمر، فمن يتخيل أنَّ ذئبا يقدر أن يسيح في البرِّ فينجو من الألغام ليأتي إلى بستاننا؟أعرف أكثر من غيري وأحاول أن أتناسى. أعاند الخرافة التي تحيطني، مادامت هذه الأحجار غريبة الألوان والأشكال فهي خرافة ستحولني إلى شبحٍ بعدما تعشعش في رأسي. هل أناقض نفسي وأترك تخصصي. الهواية التي عشقتها وأنا صغير، الحجر الذي جلبه لي جار الله الأعمى من النهر . لا صداع معه ولا ذئاب حتى نسيت أين وضعته . يا أبا نبيل لنفرض أن ذئبا طارد جنيا قبل خمسمائة عام . ألف عام . ألا ترى أن الذئب مات والجني في الحجر. ؟وأنا اعترف أني ذهبت مع مجموعة الطلبة برفقة أستاذنا إلى الخطوة ومنارة الإمام . هناك معركة الجمل . لا حجرَ لفت نظري . لاحياة في الحجر هناك . لا حرارة تشدكّ إليه . مثل صورة الطالبات في قسمنا. نساء يشبهن الرجال . أسماؤهن نفسها خلت من تاء التانيث . يا للمصادفة . معركة طويلة عريضة جرت لا تخلف وراءها غير حصوٍ وحجارةٍ لا حياة فيها . وما انكشف لعيني من حرب الخليج التي أبعدتني المدرسة والجامعة عنها كان أعظم . هل يعقل أن الجرَّافات بعدها فتحت الطرق لتطغى على أطراف الارض حجارةٌ زاهيةُ اللون تحسّها تتحدث تغنَّي بلونها والناس مشغولون عنها بالحمام والطائرات الورقية، بل كلهّم مثل السائق أبي نبيل يرونها الجمال الكامن في الشرّ كأكلة جميلة محشوةبالسمّ، أوفتاة رائعة الحسن مصابة بذلك الداء الخفي المميت، لكني مازلت أقول لنفسي لو كان ما يهاجمني خرافة عشعشت في رأسي فانكرتها ووجدتها في ذئب يتسلل إلى بستاننا، فماذا عن ذئب يطارد جنيا يدلف في حجر هربا منه ثم يموت ولا يخلف عقبا . كل ذئب يبول على حجره فإذا مات تعقبت أحفاده بأنوفها الحجارة فعرفت اين يكمن ثأر أبيها ألا يحتمل أني عثرت على حجارة يكمن فيها جنٌّ لذئاب لا عقب لها . غاب عنّي أنّي حين أنفي الخرافة أوغل فيها فأصبح طَرَفَاً يها. ترجلت من سريري ممسكا بجبهتي.

الذئاب المبهمة تطاردني أم أطاردها؟

لن أغامر بالخروج إلى البستان. عبرت باحة البيت مُتسللا عبر الدرج . نسيت، وعدت بخفة إلى غرفتي . لا بندقية هذه المرة معي . حملت كشاف الضوء وعدت إلى الدرج ثم ارتقيت السطح . جالت عيناي في الظلام . لاشيء يزيح العتمة. اختفت أنوار العشار وأضواء الداكير وغفت عين البصرة العملاقة . لا يبدو من بعيد على الماء إلا شبح الزورق المقلوب على ظهره في الماء جنب مرسى الداكير، وفوق الطرف القريب من النهر لمحت أربعة جمرات يتقدن في البستان لو وقفت في البر عند الليالي المعتمة الخاوية من القمر لخيل إليّ من دون شكّ أنها أربعة حباحب تعوم وسط العتمة كبواخر تشق عباب البحر، وهمهمة ما تحاذر صرير الجنادب ونقيق الضفادع . ومن الجهة الاخرى البعيدة سمعت نباحاً وعواءً . زمجرة حيوانات تختلط . لا أعرف لحد الآن ماذا يطاردني أم ماذا أطارد . أي حيوان اقتحم بستناننا وَفِيّ رغبة أقرب للانتقام رفعت الكاشف باتجاه الجمرات الأربع المعلقة بالهواء، فانكشف لي المكان. كانت هناك ذئبان ينطّان بعيدا . يرتدان بأسرع من لمح البصر إلى حيث المكان الآخر حيث تشاغل ذئاب أخرى الكلاب .

لا أتذكر أني نمت جيدا بعدما رجعت من السطح . ظل الهدهد إلى الصباح ساكنا، واستدركت أنَّ أبَوَيَّ لم يسمعا شيئا. دفعني الفضول:

- كأني سمعت البارحة عواء ذئب يقترب من البستان!

سألت أمي:

- هل كنت تحلم؟

- لا أبدا لم أنم من الصداع إلا قبل الفجر!

قال أبي بشكل عفويّ:

- حتى وإن كان هناك ذئب فلا خطر إذ لا يخرج في الليل إلا السراق والعصابات المسلحة!

ولم يكن هناك من داعٍ لأن أخرج فأبحث عن أثرٍ لحيوانٍ، فقد جعلني الكشّاف أبصر الذئبين، وإن كانت الحشائش والعاقول تخفي أثريهما عن العيون.

9 - انفجار

كان ذهني مشغولا بحدث آخر يبدو أنه اكثر أهمية من زيارة عمنا "محسن النبهان" إلى المحافظة إذ شاع خبر عند الصباح مفاده أن أهل كردلان وجدوا على أطراف البساتين كلبا مقتولا من الكلاب السائبة، وعثر بعض كبار السن ممن لهم الخبرة أن على الطريق المكشوف آثارَ ذئابٍ فمثلما تعرف الذئاب الجن في الحجر بأنوفها تعرف أيضا حقول الألغام فتلجأ إليها من أي خطر، ربما ليس هناك من يهمه -شأن أبي- ما يجري في الليل، أما أبونبيل فقال دع العصابات في الظلام يقتل بعضها بعضا ودع حيوانات البرية تقتلهم ويقتلونها . لن يهدأ الليل مادامت الشوارع معتمة، هذه أمريكا التي صرفت المليارات لا أظن أنّ محطة توليد كهرباء تنير البلاد كلهّا تكلفها أكثر من مليار، فدع الخلق للخالق ولنسكت عن كثير مما لانرضاه، . ربما كنت الوحيد الذي يقبض على سرِّ المدينة من حقي بعدئذٍ أن لا أعير اهتماما لأي حَدَثٍ مهما كان وإن تعلق بالعم"محسن النبهان " الذي جاء إلى المحافظة مع علي إسحاق يتأبط ملفّا دخل غرفة "صالح النبهان" بقي أكثر من نصف ساعة ثم قصد الثلاثة غرفة المحافظ . سخرت قليلا وقلت مع نفسي: لو ان جَدّي وافق على زواج أمي منه فكيف أكون . مقدر ومكتوب شكلي منذ الأزل بهذه الصورة التي أنا عليها، ولو انقلبت ملامح وجهي إلى صفات تشبهه سأقول نحن من أصول واحدة . لكن – كوني ابنه -هل أختار قسم الآثار فأطارد الحجارة . أقتنص ما لايأبه به الآخرون، أم تولد معي موهبة أخرى؟إذن كانت هناك معركة في الظلام الدامس قريبة من أطراف البساتين بين كلاب وذئاب آثارها واضحة في الصباح ومع تكتمي على هواجسي في أن لي يدا بالأمر لمحت العم "محسن" يخرج والملف تحت إبطه مع علي إسحق من مكتب المحافظ ومعهما "صالح"ثم يغادران بهيئة تنذر بالشرر . تركا المحافظة دون أن يلقيا بالتحية على صالح الذي لاح على وجهه قتام ويأس . لحقته إلى مكتبه، فبادرني بحدّة:

- لقد رفعت يدي من قضية عمك!الآن هو والمحافظة وجها لوجه!

- ماذا حدث؟ لم أفهم لحد الآن ماذا يريد!"راح يعيد القول كلما سنحت له فرصة للتعريض بمن يخالفه":لم أُقَصِّرْ قطُّ معكم. ألم أخدمكم أنتم آل النبهان هي فرصة لم لا تغتنمونها أرأيت حيوانا يقال له ستصبع مليونيرا فيرغب أن تخضر جذوع النخل الموتى!؟

خرجت وعقلي مشحون بسفري إلى الهند والكلاب والذئاب . ماذا يحدث هذه الليلة هل تتسلل الحيوانات وتتشاجر، وفي الصباح يتحدث عنها الناس قبل أن تفاجأهم حوادث القتل والانفجار، بغض النظر عن كل شيء فقد تجاهلت الصداع الذي يبدأ خفيفا في الصباح فيصبح سكينا تقسم رأسي نصفين عند الظهر وحالما يجن الليل تبدأ المطارق تهوي على دماغي!

وقد أطل عليّ الوجع اليوم وانا في طريقي إلى البيت. دفعني الحادث الأخير إلى أن التزم الصمت في السيارة، وتظاهر "أبونبيل"بمتابعة الطريق. تلك قضية تخصّ آل النبهان، ولن يزجّ بأنفه فيها أمّا إذا تطلب الأمر فإنّه بلا شكٍّ سيقف في صفّ ابن عمه صالح . لقد وجد مثلي راحة في الصمت . تناولت حَبَّتي أسبرين وكرعت قنينة ماء، وعندما ترجلْت خُيِّل إلي أني سمعت انفجارا هائلاً هزّ البصرة . انصرف فكري إلى غارة لطائرة أمريكية رصدت مقاتلين في مكان قريب من العشار . شعرت أن قواي خارت . تهاوت، ولا أستطيع المشي . تهاديت بتثاقل مثل بطة عرجاء إلى باب الدار . سألت كاتما وجعي:

- هل سمعتم شيئا ما.

قال أبي وهويهرع إليّ:

- يبدو أنَّه انفجار قريب!الله الحافظ.

لم أكن احلم وإن عشت الحقيقة والحلم بوقت واحد. اتكات على أبي وقالت أمي التي شغلها وضعي عن صوت الانفجار:

- مابك هل حدث شيء؟

لعلني مثل السمكة التي تفقد توازها من ديناميت صيادٍ ينفجر عن بعدٍ فتظلُّ تترنح على الماء . هكذا كنت . فقدت توازني. وتلمست طريقي بعون أبي وأمي إلى غرفتي وفي النهاية تهاويت على السرير.

لحظتها لم يكن الهدهد صامتا كان يترنم بأغنية طويلة . لم أعلم حقّاً أنها الاخيرة فقد غبت عن الوجود تماما وكأنَّ الانفجارَ وقع في رأسي لا في العشَّار!

10 - غيبوبة

دامت غيبوبتي ثلاثة ايام وفي اليوم الثالث تغلبت على المرض، وجدت أمي تطالعني بقلق، وأبي يطمئنني أن الطبيب حضر فأكَّد أن لاخطر. لكن الايام الثلاثة التي انصرمت جعلتني لا أدرك مايدور حولي، زارني "صالح النبهان" . رحت أهذي كما يُروى بالذئاب والحجارة والشط والسائق أبو نبيل يسمعني. ذئب . حجر . الشط . أما الذئاب التي سمعتها في البستان ورأيت أشباحها خلال الظلام فقد شاهدها غيري عند الفجر تنسل إلى البرَِّ المليء بالالغام . لاأتذكر أيا من أحلام الغيبوبة تلك. وفق رواية أمي كانت شريرة إلى حد بعيد . جامحة . شرسة، تعرضت وأنا صغير، مثلما تتحدث، لحُمَّى وأمراض دفعت بي إلى الهذيان . الحصبة، مرض الجدري، فلاونزا، حكت أني صرخت كدت أطير وقفزت من فراشي، رأيت في نومي لصوصا تسلقوا النخيل، وفِيلا يضحك، ومعلم المدرسة يسبح في النهر . أصعب الاحلام تقول أمي كانت ليلة وقفت على السرير وصحت ها أنا اطير . أحلِّق، ولاشكَّ أن هناك احلاما جميلة حلوة تذكرتها في الصباح . رأيت فيلا يطير من غير جناحين وديك القُنِّ يُطارِد ثعلبا. كلُّ أحلامي التي نسيتها ظلت ذاكرة أمي ساطعة تحتفظ بها إلى زمنٍ متأخّرٍ غير أني هجرت مرغما غرفة والديّ حالما غادرنا التنومة فانتصب سريري في غرفة أخوي وعندما عدنا بعد توقف الحرب ضمتنا ثلاثتنا الغرفة التي أصبحت لي وحدي، أما في أحلام الليالي الثلاث الماضية فكنت والعياذ بالله أعوي كالذئب وأصرخ من ألمٍ مجهولٍ يفتكُ برأسي . أحلام جديدة . كوابيس بشكلٍ مخيفٍ . أصرخ وأصفع رأسي أروم أن أخرج شيئا ما يعشعش فيه . شاركتني أمي الغرفة وكان أبي يعاونها . يُثَبِّتُ يَدَيَّ علىالفراش حتىلا أفِرَّ من سريري . وإذ استفقت في اليوم الأخير لرحلتي الغريبة رأيت "أبا نبيلٍ"يهز رأسه ويتحدث مع أبي بهمس . وأسوأ خبر انتهى إليّ أن الانفجار الذي سمعته قبل أن يُغْمَى علي استهدف العم "محسن النبهان" وعليّ إسحق.

احترقا في سيارتهما .

عبوة ناسفة.

في اللحظة التي بدأت أوغل في غيبوبتي . .

شغلت عن مرضي بالخبر وتساءلت:هل علم "صالح النبهان" من قبل بعملية الاغتيال؟ وأمام تأنيب ضمير وشكًّ راودني هاجس أن له يدا في القتل . رجل داهية لاتخفى عليه خافية من أسرار المحافظة . لا يرغب أن يصبح هو نفسه محافظا ولا يحبِّذُ أن يشغل المنصب ذاته أيّ من آل النبهان . لم ينطق صراحة مايجول بخاطره لكن سلوكه ينم عن خفايا كثيرة أدركت بعضها يوم جعل أخي عقيلا يعود إلى منصب معاون مدير المطاحن . وكم أودُّ أن يخيب ظنى فيه على الاقل هذه المرة . لعل وجوده في الخارج مدة طويلة أكسبه صفة التخمين لما يمكن أن يحدث قريبا أو بعيدا . موهبة تلتصق بقراءة الغيب . قال لي إنه يذهب ويأتي بمشاريع يستحسنها الكبار فيظنه الآخرون يبتدعها مع أنه ينتزعها من أفكارٍ عامة ينطق بها غيره، فيعيد صياغتها بموهبته . صناعة تجميع . الهند كانت تجمع الأشياء إلى أن وصلت إلى الفضاء . الصين. هذا لمَلَمةٌ لأفكارٍ تبدو إلى حدٍّ ما متباعدة يمكن أن نجد لها صيغة تجعلها أقرب إلى بعضها بشكلٍ مقبولٍ، لا أنسب إليه التواضع، ولا أجده يمزح مع غيري مثلما يفعل معي . كان يرى ان النظام السابق بنى جيشا قويا وجهاز مخابرات وحرسا جمهوريا فانهار كل ما بناه في بضع ساعات . أما الدولة الجديدة فلها وضع آخر . آل النبهان ومنهم عائلتنا وافقت . اتبعناه في أن ننسى ماكان ونقطف ثمرة الآتي، صحيح أنَّ بستاننا لم يتضرر ولم نفقد أرضنا لكننا كنا مع الناس . مادمنا لانستطيع إعادة الموتى إلى الحياة ولا البساتين إلى ماكانت عليه قبل الحرب الاولى فليكن الحل الآخر . لعلني الوحيد الذي ساورني الشك فيه بضع ثوان إذ أن آل النبهان يعدون ابنهم الكبير منزلةً في المحافظة شبه إلهٍ شملتهم مكرماته فهناك من اشتغل بتوصية منه في البلدية، وآخر بالصحة وثالث عمل في النفط ورابع . وخامس . لا يكاد مكان يخلو منا ولا أنسى نفسي قط يوم وُظِّفْتُ بإشارة منه رئيس ملاحظين أبي نفسه ممتن ل" صالح " يتحدث بفضائله التي فاقت التصور:إلى الحدِّ الذي جعله يسجل في قوائم الشهداء جميل النبهان البعثي المعروف الذي مات بالسكتة القلبية بعد الحرب الثانية، ويصدِّق أن أخي الأكبر كان زمن النظام السابق ينسق مع المعارضة في الخارج!عقيل غامر بحياته تداخل في الحزب واضعا روحه على راحته زمن حكم فقد الشفقة والتسامح، لوكشف أمره لواجه الإعدام ولولا صالح النبهان لبقيت الشبهة تحوم حول ولدنا لكن الله لطيف خبير . من لا نفع فيه لأهله لانفع فيه للآخرين، ولم يبق في العشيرة إلا عمنا "محسن النبهان" مازال يعيش في عناده . لا يدري أن الدعيجي إذا تغيَّرت تغيَّر العالم . يريد أن نعيد الحياة لجثَّةٍ ماتت . لسنا وحدنا . العالم كله يريدها أن تكون بهذا الشكل. حين أحكّم عقلي أجد أنّه من السهل جدا على العالم أن يرى نفسه في بقعة ما عندذاك يجد أبناء ذلك المكان صعوبة في تشكيله وفق هواهم . كان محسن النبهان يطعن نفسه بيده . كل يوم يفقد سلاحا من أسلحته ولم يبق عنده إلا ملفٌ يتأبطه وعناد متجذِر لا يستطيع أي مخلوق مهما أوتي من قوة أن يسلبه إياه . يقال إنه حين رآى جدي يفضل عليه أبي آلى على نفسه ألا يزور بيتنا إلا في الاحزان . ووجدناه يُبِرُّ بقسمه فحضر وفاة الجد وعزاء أخي قتيل الحرب. كان يجلس أقل من ساعة كأيِّ غريب . وكان أبي يقابله بالمثل فيحضر بيته مواسيا ومعزيا . أما أنا فبعدكل ما قيل كنت أشاكس أمي، فأسالها في حضور أبي أم غيابه: قولي بصراحة أيهما نال إعجابك قبل الزواج أبي أم"محسن"؟فتشيح بوجهها عني:استح يا ولد في أيامنا لم يكن هناك حب! . الجواب نفسه ترد به أية امرأة في أي عصر ولو بعد ألف عام . فألح:أنا لا أتحدث عن الحب بل الإعجاب!. كلامك مثل الطعام من دون ملح! دعينا من الحب الآن : أيهما أكثر وسامة، فتقهقه من كل قلبها وتقول: لا أحد وسيم في آل النبهان!

وكم تأسفت لأنني مارست غيبوبتي ساعة الانفجار فلم أر أية ملامح ارتسمت على وجهها حين ورد النعي . السيارة وقفت في شارع فرعي ساعة دخول السيد "محسن النبهان" ولست أدري هل كانت تنفجر لو اتفقوا معه في المحافظة على حلّ ما . أيُّ فاقد للضمير يمكن أن يدس عبوة ناسفة في سيارة ما . الحكاية تبقى على الألسن تدور بضعة أيام . ثم تتلاشى أمام عنف تالٍ، والآن استفقت فوجدت العزاء انتهى والناس مشغولين بانفجار جديد واغتيالات متناثرة، تطبع على على وجوههم علامات ذبول وذهول . مامر كنت غافلا عنه، بل إني احاول أن أتخلص من هذا الصداع الذي ينخر رأسي بل كيف أعالج هزالا دبّ في جسدي!

 

د. قصي الشيخ عسكر

.........................

حلقة من رواية: النهر يلقي إليك بحجرا

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم