صحيفة المثقف

رماح الملائكة.. الواقعية الاجتماعية وصناعة الخيال

631 رماح الملائكةالواقعية الاجتماعية إحدى الأنماط السردية الأكثر شيوعا في عالم الرواية، كونها تمثل نافذة حية نطل من خلالها على الواقع المعاش، لكن برؤية فنية تتفاعل مع الملتقي بطريقة أكثر تقبلا واستساغة من الواقع الفج، عن طريق صناعة الخيال، وهذا ما عبر عن ذلك الروائي نجيب محفوظ بقوله (الفارق بين الحكاية المحضة والقصة الفنية هو الخيال).. في رواية (رواح الملائكة) للروائي إبراهيم حسين حسن، الصادرة عن دار سطور 2019 .. نجد سيادة هذا النمط السردي على السياق العام للنص، عبر أحداث اجتماعية واقعية، تتخللها رؤى وأحلام، تنطلق من معاناة ذلك الواقع وإسقاطاته على العقل الباطن، الذي لجأ الى صناعة الخيال كوسيلة دفاعية، للهروب إلى الأمام لتغيير هذا الواقع المأساوي الذي يعيشه البطل السارد (جواد)، والذي كان  المحور الرئيسي في صناعة الحدث الروائي وتدويره، والمحرك الرئيسي له وللأبطال الآخرين، على امتداد البناء الهرمي للنص، فقد استعان الروائي بتقنية السارد الضمني لخلق ما يعرف اصطلاحا (وهم الإقناع) أي جعل السارد جزءا من النص لإيهام القارئ بجدية وصحة مايجري داخله، بل ذهب إلى ابعد من ذلك، حين لمح في أكثر من موقع في الرواية إلى إن البطل جواد ماهو إلا الروائي نفسه، وان ما نقرئ ماهي إلا عملية اجتزاء لمشاهد حياتية عاشها الكاتب، ووضعها في قالب سردي روائي، لذلك يمكن اعتبار رماح الملائكة رواية (اتوبيوغرافية) أي تعبيرية، لحضور الروائي فيها بقوة وفعالية.

يبدأ النص بعتبة سردية اختلط فيها الواقع بالخيال، عبر رؤى لم تخرج عن حيز الموروث الاجتماعي الشعبي، وتراكماته في العقل الجمعي للمجتمعات الشرقية، حين يتنبأ الإنسان بقرب اجله، ودنو ساعته، وعندما يتحول الأطفال الموتى إلى ملائكة وطيور جميلة.. مدخل سردي صادم وموغل بالحزن والوجع، لطفل مريض يحتضر في أحضان أمه المفجوعة به، يُحدثها عن رؤى يعيشها وهو يطالع نافذة الطائرة التي أقلتهما عائدين من رحلة علاج غير مجدية، ينتهي المشهد بموته بطريقة دراماتيكية، ينتقل بعدها السرد إلى تفاصيل أكثر واقعية  يمكن أن تمر بها أي عائلة عراقية في مثل هكذا ظرف صعب وحزين، ثم يكسر الروائي هذه الرتابة، بحادث مأساوي آخر، وهو موت الأم حزنا على فقدها لطفلها .. يقف النص عند هذه العتبة،  ثم ينطلق من زاوية جديدة، تمثل محور النص وفلسفته، حين ينتقل عبأ ماجرى إلى جارهم (جواد) الرجل الذي شارف على التقاعد من وظيفته، وحمل شخصية، ساكنة، مرتبطة بثوابت المكان، مسالمة، متدينة، مستسلمة لاقدارها، حاول الروائي أسطرتها وكسر هذا القالب الروتيني لها برؤى خيالية، ومنحها كل هذا الاهتمام والمسؤولية.

الطفل مليك الذي توفي في أحضان أمه، يتحول إلى كائن خيالي يشبه الملاك، ويصبح زائرا مواظبا يؤنس ليالي جواد التي تسودها الظلمة والترقب، لغد قد يكون أفضل من سابقه.. فقد تحولت نهارات جواد إلى محطات انتظار مضنية تشوبها المتناقضات ( اليأس والأمل، الحزن والسعادة ) لليل سيتمكن فيه من رؤية مليك الطفل الذي أحبه وتعلق به في حياته.. تسيدت هذه النهارات على الوجه العام للنص وشكلت الجزء الأكبر منه، وعضدت هرميته بتفاصيل تكررت كيوميات عراقي يعيش محنة الفوضى والإرهاب ونقص الخدمات، حتى وصلت حد الإسهاب، واعتقد إن الهدف الذي كمن وراء هذا التكرار، هو لإعطاء صورة كاملة لحالة البطل النفسية والذهنية المأسورة لهذا الواقع، والتي قادته لهذه الرؤى والأحلام.. كما عبر عن ذلك هنري جيمس بقوله (إن مهمتي التي أحاول الاضطلاع بها هي أن أجعلكم ترون).

من الملاحظ إن البطل (جواد) حاول جاهدا على طول الامتداد الأفقي والامتداد العمودي للنص، إثبات مصداقية مايحلم به للآخرين، من خلال حوارات ماراثونية تبريرية مع زوجته أم رباب، وتستمر هذه الحوارات لتنتهي بعملية (سرد ممسرح ظاهري) قام به أمام مجموعة من أقاربه في مدينة العمارة، لعب فيه دور الحكواتي، عبر تقنيات (الاستذكار والاسترجاع والتلخيص) كان الهدف منها لملمة شتات نصه وبيان دلالته، وإقناع الحضور بجدية وحقيقة رؤاه .. لكن مثل هكذا نصوص سردية يختلط فيها الواقع بالخيال ويتداخلان بطريقة تفاعلية، لاتحتاج كل هذا الكم الكبير من التفسير والتبرير ومحاولة ايجاد مخارج منطقية لاحداثها من قبل الروائي، بل كان الأجدر ترك النص حرا يعبر عن نفسه كيفما يشاء، دون ممارسة كل هذه السطوة عليه من قبل الكاتب، فالجيش الذي شكله الطفل مليك مع مجموعة من الأطفال القتلى ضحايا الإرهاب، لمقاتلة الإرهابيين والثأر منهم، كانت نتائجه الملموسة تبدو واضحة للعيان على ارض الواقع، لكن بتجليات وسببيات أخرى، لم يكن يدركها سوى جواد نفسه، وهي بالمنطق غير قابلة الحدوث، لذلك كانت محاولة إثباتها عملية غير مجدية .. لذا فأن الرؤية الأدبية التي يعدها الناقد تودروف ( بأنها أهم شيء في العمل الأدبي)، نجدها هنا قد توحدت في هذا النص بين البطل جواد والكاتب إبراهيم حسين، وهذا جعل من الأحداث تُفسر بوجهة نظر واحدة وأفق ثابت، حتى تداخل السارد الخارجي العليم الذي يعرف كل شيء عن الأحداث، وماجرى وما سيجري، مع السارد الداخلي الذي يعرف جزء من الحقيقة.

في رواية رماح الملائكة، استخدم الكاتب نوعين من  التكنيكات السردية، الغرض منهما تعضيد نصه وهما:

1- صناعة (القرين) أو مايعبر عنه سينمائيا بالبطل الظل، الذي يتشارك مع البطل في جزء مهم من أفكاره ورؤاه وهمومه، أو يشابهه في ظروف حياته وأقداره، فقد كان (سوار) حفيد البطل (جواد) قرينا استعان به الروائي ليثبت صحة مايراه بطله الرئيسي (جواد) ويدركه، فكان سوار يرى بعضاً من رؤى جده، ويعيش شيء من معاناته، وهو يرى مليك وأصدقائه الموتى. 

  2-  القصص جانبية التي تشير إلى نفس المعنى العام للنص الرئيسي، وهي دلالات توضيحية للجو  الذي يحيط بالبطل، مثل (قصة الطفلة دنيا التي قتلها الإرهاب، قصة الطفل سهيل الذي كان ضحية للإرهاب، قصة سالم ابن جواد ومقتله في حرب الخليج الثانية) حيث هيمنت القصة الأخيرة على الوعي القائم للبطل، وكانت سبباً رئيسياً في تولد الأحلام والرؤى التي عاشها وتأثر بها.

كانت لغة النص بشطريها السرد والحوار، نخبوية بعض الشيء، انطلقت من بيئة ثقافية ثابتة، لم تراعي المستوى الثقافي والتعليمي للأبطال، وهذا مطب سردي يقع فيه اغلب الكتاب، حتى الكبار منهم.. لكنها في نفس الوقت كانت لغة سلسة مرنة غير متناقضة ولا متكلفة، قادرة على إيصال سيميائية الصورة والحدث بدقة وعفوية.. إضافة إلى أن الروائي اعتمد مقاربات واستعارات قرآنية، واستخدم فيها الأفعال الإخبارية الماضية، والتي تفيد التقرير، أي تجعل من أحداث الرواية يقينية واجبة الحدوث ..لذا يمكن أن نطلق على (رماح الملائكة) بالرواية الواعدة، التي تبشر بظهور روائي له القدرة على صناعة الحدث الروائي بطريقة غرائبية، وباستطالة سردية أفقية تغطي هذا الحدث وتغنيه.

 

احمد عواد الخزاعي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم