صحيفة المثقف

قبضة من تراب

خلود البدريتُصيبنا الحيرة، فنقع في براثن القلق، بين المنطق وما يتراءى للناس، وما نكتشفه من خبث ولؤم من وثقنا بهم بعد حين من الزمن. لم أكن أرغب بمعرفة الحقيقة، ولم أبحث عنها في يوم من الأيام. فتصرفات تلك المرأة كانت واضحة للعيان، رغم أنها تحاول أن تبدو بمنتهى الطيبة والمسكنة، لا سيّما وقد تزوجها أخي وهي صبية صغيرة، لم تتجاوز مرحلة الطفولة إلا قليلا. هي قريبة لنا من ناحية الأب، وأنا منذ البدء لم أُكنّ لهذه المرأة

الموّدة. قامت وقعدت المشاكل بين عائلتينا قبل زواجها بأخي. أشرت على أمي أن لا تتورط في تزويجه هذه المرأة، ولأنها تعودت العناد معي في كل شيء، أصرت على تنفيذ رأيها. وكان ما شاهدته نتيجة حتمية لعدم الروية في الاختيار. لأكمل لكم القصة وما رأيت. دخلت غرفة المطبخ _ دون قصد مني طبعا _ وقعت عيني على صُرّة صغيرة في ركن من أركانه، لا يصلها ضوء المصباح الكهربائي، لوجود بعض الأغراض المُكدِسة والتي انتفت الحاجة إليها، لكن أمي _ سامحها الله _ تحب الاحتفاظ بكل شيء. فككت عقدة الصُرّة تناثرت على أرضية المطبخ خرزات ملونة غير متساوية الأشكال، حمر، صفر، سود، شُدّ نظري إليها، قلّبت بعضها بيدي، لم اتبين ماهيّتُها. في أول الأمر لم أسترب فيما شاهدت، قلت في سري: ربّما هي بعض الأشياء التي تُطحن وتُضاف إلى الطعام لإعطائه بعض النكهات، وقد اُبعدت في هذا المكان بفعل الجرذان، خاصة ونحن نعيش في منطقة زراعية، تنتشر فيها هذه القوارض، مهما كوفحت من قبِلُنا. طبعا سوء رؤية مني للواقع الذي بدأ يفرض سيطرته علي، وأفقد بسببه كياني. فقد أصابتني حالة نفسية منذ دخول تلك المرأة الى بيتنا، بدأتُ لا أطيق نفسي، أعتزل أهلي، الناس، تكالبت علي الأمراض لا أعرف كيف أصاب بواحدة ولا أكاد أشفى منها حتى تطل عليّ الأخرى. التجأت لرجل مبارك يعيش في قريتنا ليرقّني، عادة تذهب إليه الأمهات، يقرأ الآيات القرآنية على رؤوس الصغار. يعوّذهم ويحصنهم بها من المرض والحسد. بعدما أعجزت الأطباء من الوصول إلى سبب حالتي المرضية. يومها قال لي منذ لحظة وقوع بصره علي، وفي فورة من الغضب: رأيتها في الظلام، تجرأت على أرضي، أخذت حفنة من ترابها، تسللت إليها أصابعها، لكنها حتما خلطتها بأعمالها الشيطانية، لا تعرف معنى الحلال والحرام ! شعرت ساعتها بمغص يقطع أمعائي، ويُثير الرعب في نفسي. حسبتني في غفوة، ولم أسمع، أو أرَ ما حصل أمام عيني. ارتجفت أطرافي وأنا أنفي عنها تهمة السرقة، قلت بخشية وهيبة: يا شيخ ربما توهمتَ بامرأة أخرى؟! أو لم تكن تعلم أن تلك الأرض تعود لك، وإلا كيف تسوَل لها نفسها ذلك. تأسفت منه، ووعدته أن أسترجع منها ما وصفه لي. عدت ولساني يردّد آيات تُحصنني، واستعذ بالله مما رأيت وسمعت، لكني تفاجأت بزميلة لي في العمل تنصحني بالتفتيش من جديد في بيتي. أخبرتني برؤيا حلمت بها قريبا، وأن كل ما مررت به سيزول. سردت عليّ تفاصيل غريبة، يومها قررت أن أبحث في كل ركن من أركان البيت، وأن أقلبه رأسا على عقب كما يقال، لم أعثر على شيء. تذكرت ما قالته زميلتي، وهي تصف الشيخ الذي رأيته، وحفنة التراب. فجرا صحوت على صوت تهشم شيء ما يخترق طبلتي أذني. نهضت من سريري فزعة، بعدما أزحت الغطاء عن جسدي، فشعرت بقشعريرة تجتاح بدني، فنحن نستقبل تغييرا طرأ على الطقس. وهاهو الشتاء يزحف ببطء شديد. قفزت مسرعة، ولجت غرفة المطبخ نظرت إلى قطع الفخار، وقد تناثرت في كل ركن من أركانه، وفُرِشت أرضه بتراب أحمر. صحت بأمي: ابتعدي، لا تُجرح قدمك، استفاقتْ من صدمتها، فسألتُها مستغربة: ما الذي أنكسر، وما هذا التراب كأنه دم سفح ومُلأت به الأرض؟! لم تجبني، بل صرخت بي متساءلة: منذ متى نضع زهريات في المطابخ؟! ومن وضعها ها هنا ؟! على أثر الجلبة وصياحنا، دخلت امرأة أخي، تحاول طرد بقايا النعاس من عينيها، لتحل الدهشه بدلا عنه. حال لونها، وحاولت الانفلات من نظراتنا المُتسائلة. أمي بعصا كانت تتكئ عليها لكزتها في خاصرتها، وهي تردد بصوت عال " لا يفلح الساحر حيث أتى ".

 

خلود البدري

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم