صحيفة المثقف

اليقظة

قصي الشيخ عسكروتفقدت الهدهد فما رأيت له من أثر.

 حالما استفقت جرى الحديث أمامي عن حمى انتابتني وانفجار والذي كنت أهذي به وماحدث على ضفة العشار قبل أن أتهاوى على الفراش في غيبوبتي الطويلة .. وتأكدت أن عينيّ لم تعثرا بالقفص .. اختفى تماما .. كانت أمي قد خرجت وعلى شفتيها تسبيحة، فظننتها أنزلته لتنظفه وتبدل الماء .. زحزحت جسدي بنصف جلسة على الوسادة، وسألت أبي:

- أين الهدهد؟

نادى على أمي متجاهلا سؤالي وقال في اثناء دخولها:

- إسمعيه بعد كل ما جرى يسأل عن الهدهد!

قطبت حاجبيها وقالت:

 أعطيته لأم صابر!

 آخر ما أتوقعه أني موضع شك من أبويّ ..

مسحور ..

 مجنون!

مسكون .. أنهض في الليل أخاطب قن الدجاج الفارغ وأهم أن أخرج إلى حقول الالغام أبحث عن رشاد البرِّ ذي الرائحة العطرة أو أفكك معادن من زمن الحصار أبيعها في سوق الصفَّارين، وأسمع كماتسمع مدينة التنومة عواء مختلِطا بالنباح .. هذياني دفع أهلي إلى الريبة .. الطبيب الذي حضر بهاتف من ابن عمي المسؤول يؤكد لاشيء .. التقارير لاتفصح عن شيء خطر .. أنا أهذي أصرخ .. الصداع داء شقيقة مزمن .. والهذيان متأت عن الانفلونزا .. الطب قال كلمته .. ومايقوله الطبيب في البصرة يؤكده الطبيب في إيران والهند وبريطانيا .. جبيني ينضح عرقا، الآن بعد أن استفقت أراني تحسنت قليلا: إنهما يظنانه السحر .. عالم مبهم غامض يدفعني للسفر، الآن اتضح ماخفي فلا داعي لان أطأ الهند بلد السحر مادامت أم صابر موجودة .. قلت مغلوبا على أمري كاتما غضبي:

- ماالذي تفعله بالهدهد!

- أووه الهدهد معروف منذ عهد سليمان !

وقالت أمي بين غاضبة ومشفقة:

- إسمع لن أدعك تقتل نفسك أم صابر تستفيد من عظمة تعرفها في الهدهد لو لم يكن في بيتنا لكنت سألتها أن تشتري واحدا فتفكّ أسرك.اليوم ستعود إلينا بعد الظهر .. ستسمع وترى بعينيك!

 في وقت متأخر وعيت أن أبي استدرك الأمر بعد فوات الأوان .. اجتذبه من هذياني عواء يحتدم في البستان بعد منتصف الليل بساعة، ويقسم أنه رآى وهو على السطح عيونا تلتهب في الظلام، فظن من حدَّة سطوعها أنَّها غاضبة، وهناك على مسافة بعيدة من أطراف البرّ اختلط نباح وعواء .. ملحمة بين كلاب وذئاب .. عند الصباح والمدينة تستفيق من صمتها حكى لأمي ما شاهده وتبين الناس في اليوم التالي جثة كلب ممزقة .. يبدو- كما خيّلَ إليّ- أن العالم مشغول بالانفجارات والأحداث الجديدة، ولا يعلم أن السحر يحاصره .. كانت القصة تختلط بهذياني وزاد أمي شكا ماسمعته من ادعاء أبي عن الذئاب في الليلة التالية .. جاء أكثر من ذئب لم تقصد بستانا آخر .. أشباح تتحرك وعيون تلمع .. العتمة بدأت تخف بقدوم الهلال خلال ذلك كان هناك شيء ينبئ عن ضجة بعيدة يخالط فيها العواء النباح .. وأنا أضرخ ..

 أصرخ بكلمات غير مفهومة ..

 العرق يتصبب من جبيني، وأبي مع ضوء الهلال الخافت يسلِّط من على السطح المصباح الكاشف نحوالعيون اللامعة فيتأكد منها ومن غضبها .. بعدها التقطت التنّومة جثة أكثر من كلب .. راح أبي وأمي يفتشان عن أيِّ أثر في غرفتي .. بستاننا المستهدف وحده من دون بقية البساتين .. لم يأو فيه أيُّ حيوان مدة غيابنا عنه سنوات الحرب العراقية الإيرانية .. فتشا في ملابسي والكتب والدُرْج فعثرا على الأحجار الغريبة اللامعة، فظنا أني جمعتها في عملي مع المساح .. والحق إني كنت أسخر من نفسي حين قادنا أستاذ الآثار إلى مكان معركة الجمل فلم نجد هناك أية علامة تلفت النظر .. وقتها كان العالم غافلا عن كونه محاصرا بالسحر والذئاب فلم يحدث مثل مايريب، قلت ذلك لأبي وإن صعب عليه فهمي وسخرت أمي حين قالت: أنتم مثل الأطفال تبحثون عن حجر .. السنين إذا مرَّتْ غطت بالتراب القصور الشاهقة .. ومن حقي الآن أن أسخر من نفسي حين أعود فارغ اليدين من صحراء البصرة فأعثر بين الأنهار الميتة والبساتين المحترقة بحرب العراق وإيران على حجارة تسبب لي الصداع والمرض .. فأظل أهذي بها عن غير وعي!

ليس هذا فحسب، فخلال زيارة أبي نبيل لي التي لم أحس بها أو بغيرها عرض عليه أبي ما وجده في الدُرْج فأخذت الرجل المفاجأة عشرات الأحجار .. عرائس جميلة تكاد تتراقص على راحة اليد .. صامتة ترقص عنها ألوانها، وفي الزيارة الأخيرة التي وعيت بها سأله أبي وكأنه يقصدني:

- هل وجدها معكم في المسح؟

نعم أنا حذرته واستعذت بالله مما رأيت وسمعت!

- هل كان ينوي بيعها!

- يا أخي يا أبا "عقيل"هذه ليست آثار هذه رهائن الذئاب من عالم الخفاء!

والتفت إليّ العم أبو نبيل منكسرا:

- ألَمْ أقل لك إن الاحجار التي تلفت النظر تضم أسرى الذئاب ألَمْ أحذر من أن الذئب يرى الجن فيطارده إذ يدلف هذا الأخير في حجر ثمّ يأتي الذئب يتشمم الأرض حتى يصل الحجر فيبول عليه عندئذ لا يستطيع الجن الفكاك لكنك لم تكن تصدقني كنت تتحدث عن النت والموبايل والمخترعات الحديثة كأن الجن ليس له أثر!

عدت بذاكرتي إلى السحر الذي يحاصر الناس تحت الأرض وفي الحجر وهم غافلون عنه، وقاطع أبي الذي بانت على وجهه علامات القلق:

- والعياذ بالله هذا كفر الجن موجود في القرآن "والتفت إلى قريبنا السائق قائلا بلهجة توسل ورجاء":أخي أبا نبيل نحن أهل مايضرني يضرّك وما يسؤوك يسوؤني ليبق السر بيننا .. الناس لايخشون الله يتقولون ويختلقون الاكاذيب !

أما أمي فكانت تقصد أم صابر، قبل ذلك لم يمارس بيتنا طقوس السحر .. بل لم أسمع به إلا من أفواه الأخرين فأكاد أشكّ فيه .. حضرت المرأة ذات الخمسين عاما أسميها الساحرة وتسميها أمي الطقاقة قاتلة السحر، تطقه مثلما تكسر السعفة اليابسة، والحمد لله أنّ عصا موسى ابتلعت بقدرة الله كيد السحرة في مجلس الفرعون، وتمعنتْ أمي بهذياني ..

أصغت إليه ..

شكّت أن يكون هذيان مرض .. فدعت خلال النهار أم صابر، فطلبت الهدهد رسول الملك سليمان وأخرجت عظمة من صدره تقول إنها رمتها في شط العرب. لا أدري لِمَ خفت حدة المرض حين فشا بعض سري .. أمي عرفت بالحجر الملون وأبو نبيل وأبي .. وربما يشيع الخبر.كانت الانفجارات من حولي وأنا من حيث لا أدري أستفز الذئاب المنشرة في برّ الالغام على الحدود، وأحلق مع طيور غريبة أجذبها إلى فخ .. تعريت من ملابسي .جميع ملابسي ذهبت لتحترق، بقيت تحت اللحاف عريان أنتظر قدوم الزائرة الغريبة.امرأة ورثت موسى وسليمان، ذات تجاعيد صارمة، ليست مخيفة كالساحرات القدامىاللائي سمعنا عنهن في قرون خلت حيث اعتدن أن يركبن سعف النخيل الأجرد اليابس .. سوى أنها بدت أكبر من عمرها لحقيقي بسنوات .. بعد العصر جاءت بيدها كرة كبيرة وخيط.لمحت بنظرة خاطفة يديها فقرأت عروقا خضراء، كدت أرسم لأصابعها النحيفة بعض الأظافر الطويلة، وراودتني نظرة لعلني أرى بين قدميها سعفة جرداء امتطها، فسخرت من نفسي .. نظرت إليَّ نظرة ذات دلالة وشاعت على وجهها ابتسامة إشفاق .. طلبت من أمي وعاء مملوءا بالماء .. أطفأت زر الضوء فانقشع نو رالغرفة إلا من حزم تتسلل من فتحات الشبَّاك وكوة السقف التي يتراقص مع حزمتها الذهبيّة غبار طائش .. وبإشارة من يدها أمرت والديّ أن يخرجا فرضخا للأمر ..

 بقيت أنظر إليها كالأبله ..

هزّت رأسها وهي تقول :مسكين، أنصحك لوجه الله لا تلتقط ما لا يلتفت إليه الناس وإن كان ذهبا خالصا، وليست كلّ مرّة تسلم الجرّة.

راحت تضع راحة يدها على جبيني دقائق وتحرك شفتيها بكلمات لا أسمعها ثم تنزل يدها على بطني تنقرها بأطراف أناملها ولا تتوقف عن الترتيل الصامت.

أصبحت طفلا بين يديها.

دمية تحركها كيف تشاء أو تمثال يعي أنه مملوء بشيء مبهم.

رتلت بعض الكلمات، وانشغلت بنأمة طويلة، فبدت لعينيّ كأنها نسيتني بل نسيت العالم كله في ركن بعيد عنها .. الشيء الذي جعلني لا أتوجّس خشية من الصمت الغريب الذي اقتحم عليّ عوالمي .. بعدئذٍ أشعلت بخورا ودارت به حول سريري، وبين دورة وأخرى تتوقف تلمحني وتمس بعضا من جسدي بأطراف أناملها، كانت تنظر وهي ترتل بصوت خافت إلى الماء .. أغمضت عينيها، وأطرقت .. طالت إطراقتها فأحسست بموجة حر تجتاح جسدي وثقل كالجبل يخرج من رأسي .. أشياء ثقيلة تنسلّ هاربة من أعضائي .. البخور يملأ رئتي .. يحوم حولي ويتصاعد في الغرفة يعانق حُزْمَتَي ضوء الكوة والنافذة فيهتز راقصا مع ذرات الغبار .. لِمَ لا أصدق أني مسحور .. الطبيب يقول لا مرض .. الأشعة تثبت سلامة عقلي .. تحليل الدم .. الفحوصات العامة .. هذا زمن السحر فلِمَ لا أصدّقه وهو الآن في ذروته وأوج أوانه؟الناس محاطون مثلي بالعنف والسحر فلا يعون إلا العنف يحيطهم وينسون السحر وأنا أعيالاثنين، فجأة لاح لي أن الوعاء يتململ وسط العتمة الخفيفة.أشياء تتحرك تلتبس صور الحيوانات .. ألوان يختلط بعضها ببعض .. ألوان زاهية يطلقها جهاز حاسوب ذو تقنية عالية .. قوس قزح يهبط على الأرض .. يعشعش في وعاء ماء صغير .. في هذه اللحظة وجو الغرفة مثل قطعة منسوخة من بستاننا وقت الليل .. انفصلت الألوان في الوعاء واختلطت ثم انفصلت عندئذٍ توقفت أم صابر الطقاقة، وأشعلت الضوء ثم نادت على أمي .. فهرع إليها كلاهما ..

قالت وهي تنفث عن ارتياح:

 خلاص والحمد لله انتهىالسحر!"أشارت إليهما أن يصمتا وواصلت":لينزع حتى القطعة التي تستر عورته تحت اللحاف ولتحرق مع ملابسه " ووجهت الكلمة إلى أمي" احملي الوعاء واسكبيه في الماء الجاري حالا واحذري لا يشرب منه طير أو حيوان!

 خرج الجميع مع الماء الذي تلون بألوان شتى وكنت أخلع آخر قطعة تسترني وأراقب نار التنور تلتهب في ملايسي!

 

12 البر

أقسم أّني أدركت البرّ من غير صداع ..

وأنّي استعدت عافيتي فماسخرت منه أصبح حقيقة ماثلة للعيان.

كان عليّ بعد أن زال الصداع وتطهر جسدي أن أعيد الأسرى الملونين.وحدي أقوم بالعمل فلا أحد يقبل أن يمسَّه مامسني ولا أرضى أن يشاركني أيُّ مخلوق خشية من أن تستشري العدوى بين الناس .. مرض .. طاعون .. حُمَىً غريبة تستعصي، وليس عندي أي تعليل يبرؤني سوى أن الواقع اختلط بالخرافة فاستدرجتُ الذئاب من دون أن أدري .. واقع يستلقي على شطٍّ بدا يشيخ ويغزوه من المصبِّ إلى منتصفه ملح الخليج، فيكاد يموت، وخرافة تنتهي إلى برٍّ يضج بالألغام فَجَعَلْتهما، عن غير سوء نيّة، ذات يوم، يلتقيان!

خرجت حاملا كيس الحجر فوجدت الحقيقة أمامي .. لم أكبر بعد حتّى قن الدجاج الذي تركناه فارغا قبل الهجرة بعدّة أيامٍ من اشتداد الحرب عاد كما كان يضجّ بديك مفرط النشاط ذي صوت جهوري يوقظ أُمِّي للصلاة فجر كل يوم، ترافقه هنا وهناك دجاجات ثمان واحدة سوداء وأخرى حمراء والأخريات بيضاوات .. ذلك لأن أمي لا تحب دجاج مزرعة الشعيبي الداجن تقول دجاج العرب ألذّّ وأنقى له تحت اللسان مذاق يختلف، وكانت تتولّى رعاية القن في الفجر حيث تفتح بابه فينطلق طيره في باحة البيت الواسعة وقبيل المغرب تستدرج السرِّبَ أختي بوعاء حب الشعير .. أما أنا فيلذُّ لي أن أنتظر حتى أعرف أيَّةَ ساعةٍ تبيض دجاجة فأتربص بها، أراها تنزوي عن بقية الدجاج فتعصر نفسها تعصر وتقأقيء يطول الوقت أم يقصر فتنزل من مؤخرتها بيضة ذات بياضٍ لمّاع أسارع في التقاطها .. فأحس بحرارتها على راحة يدي وربما لمحتني أمي فتنهرني بخليط من ابتسامة وعبوس قائلة: أما تخجل؟أماتستحي؟وفي الوقت نفسه الذي امتلأ به قفص بيتنا بالدجاج، عادالشطُّ بهديره وموجه الصاخب .. مائه العذب والبساتين من حوله .. اختفى الزورق المقلوب من مرفأ الداكير حيث حلت محلّه باخرة ضخمة جميلة .. عاد المعبران كلاهما، معبر الأهالي والجامعة يمخران التيّار، وتلاشى الجسر الذي بناه الجيش زمن الحرب، وها هو بستان الشعيبي يرجع زاهيا يظلِّلُ بنخيله أشجار العنب والرمان .. نهر الشعيبي .. نهر الحوامد .. تلاشت مدينة الألعاب وعين البصرة اللتين يفصلهما شطّ العشار الهَرِمُ عن تمثال السياب.أهكذا حقا انكمشت التنومة فتصاغر معها العشار .. وعند استدارتي من الفلكة شممت رائحة من باحة بيت يعبق تنوره بشواءٍ لسمك الصبور، وحلقة أطفال عند باحة ذلك البيت تغني:

  يابط يابط .. إسبح بالشطّ

  قل للسمكة .. أتت الشبكة

  ميلي عنها .. تنجي منها

ربَّما بالغت كثيرا هذه اللحظة في خطواتي فتوغلت في زمانِ ماقبل الحروب فوجدت الأعمى حينذاك يبصر والأخرس ينطق رحت أتجاوز خواتيم الأمور حتى وصلت إلى الفلكة، هناك التقيت أحد عميان التنومة الثلاثة المبحرين في الظلام .. ساعة بيغبن الحادة بدقاتها ورنينها ذي الصدى المتتابع فاجأتني عودته في مثل هذا الوقت الغامض الذي يتساوى فيه الحضور والغياب:

- كم الساعة الآن يامختار؟

 آخر ذكرى لك أنك رحلت مع من رحلوا كانت التنومة وكردلان صغيرتين لم تترهلا .. لكن أهلنا حذرونا أن نسألك عن الساعة فيما بعد لئلا يُحمل الأمر على سوء الظن من الأمن .. .كم الساعة الآن عشرات يسألونك وأنت لاتمل ولا تخطيء فأين كنت ولِمَ أعرضت عن الجواب زمن الحرب ؟

كم الساعة يا مختار الآن؟

 ......... !

مختار، الحرب انتهت لا تصمت بل انتهت بعدها حربان أخريان، فلا تخف، هل كنت تعلم بذلك؟ هل أُصِبْتَ بالصمم؟

الزمن الذي سعينا إليه ملهوفين أصبح أخرس .. ابتسمت لمختار الأعمى من أعماقي .. بدا لي أن الشيخوخة تحاشته .. لم يترك عند أي أحد منا علامة مثلما فعل جار الله حتىساعة سورين في قلب العشار التي نعجب بجمالها ولا نثق بها مثله اختفت قبل أن يختفي هو وزالت زوال دورالسينما وعمارة النقيب المقابلة لها .. الزمن كله اختفى بحلوه ومره قبل أن نعثرعلى مختار .. لكني لا أريد أن أشغل بالي بما ضاع فذلك امر لاحيلة لي فيه!

تخطيت في رحلتي بعيدا .. التنومة صغيرة لا يتعبني المشي في شوارعها وحاراتها .. اجتزت الشارع الرئيس إلى بداية البرّ عبرت الجامعة القديمة ثمّ دخلت البرّ وحدي .. كانت ساعة ضحى والوقت يميل إلى برودة تجعل قشعريرة حادة تدبّ في كتفيّ ذكرى من أيَّام زمان يوم كان جار الله الأعمى الواثق بي يضع على راحة يده حفنة من الفلفل الأحمر الحار يبتلعه دفعة واحدة ويغط في الشط فنسمع عن برد العجوز والجوامبيس التي تغادر الماء سبعة ايام هربا من برد يعقرها .. أخرجت الحصاة من الكيس وبقيت أرميها في الهواء .. لايهم ان أذهب إلى الدعيجي فأعيدها إلى مكان التقطتها منه .. أيُّ مكان كان .. لايهم فالذئاب تستدل على أحجارها بالرائحة .. الذي أرغب فيه أنها تمتنع عن اقتحام بستاننا وقد فعلت .. حجر يلي حجر.ينطلق من يدي نحو الهواء، أرمي الحجارة إلى البرّ وأظنني أرميها على سطح الماء فتقفز مرة وثانية ثم تهوي .. .

كأّي ألفظ الماضي كلّه الذي طاردنيعبر رائحته وقسوته!

حتى عدت فارغ اليدين من أسرى الذئاب ..

وعند العودة تغير الأمر.انقلب إلى حديث آخر .. كحكاية مسافر آلى أن يقطع الصحراء، رآى مطاعم وعيون ماء زلال، وأشجاراً عامرةً وطيوراً تصدح بالغناء، فحدَّث نفسه وقال هذه الأرض عامرة وأنا أحمل زاذاً يثقلني فرمى طعامه وأراق ماءه وإذا الصحراء عادت برمشة عين إلى ماكانت عليه من حقيقتها الأولى .. الخرافة أصبحت واقعا ولم يعد أيٌّ يفرق بين الصحو وأضغاث الأحلام ..

التنومةكبرت .. على حافة البرّيّة .. قبل حقول الألغام مجموعة شباب بعضهم يفترش الأرض وآخرون يجلسون على كراسٍ كلٌّ منهم يشد خيطاً إلى يده .. طائرات ورقية كثيرة .. حمراء وخضراء وصفراء .. بنفسجية اللون ذات ذيول ملتوية كالافاعي وزعانف مثل السمك .. أما أصحاب الطيور فكانوا وقوفا غائبين عن كل شيء ماعدا ملاحقة أسراب حمامٍ راحت تناور في الهواء تحوم وتلف .. حمام يعترض السماء فلا طير غريب الشكل واللون .. طيور مألوفة عرفناها قبل أن نشعر بأسراب البعيجي والأوز تعبر باتجاه الجنوب في بداية الربيع .. أما ألسنة شط العرب ذات الماء الراكد فقد وقفت عند البوارين وحدِّ الدعيجي، وانحشر ماء النهر العذب في قنان بلاستيكية فارغة ألقاها العابرون في البرِّ فكبت مثل دمى لاتثير أحداً، فلانسر ولاعصفور أو شواهين تحوم.لم يكن هناك من ضجيج سوى همسات وأحاديث عابرة ولا أحد يعيرني اهتماماً .. لابشر يلاحق شخصا تبعته الذئاب في الليالي .. وبين هؤلاء المشغولين بالحمام والطائرات الورقية مساحة من زمن الحصار ربض عندها حقل ألغام امتدَّ إلى الحدود .. جذب ذلك الحقل بعضاً من المغامرين والمحتاجين بالرشاد البريّ الحاد ذي الرائحة العبقة والكمأة المنتشرة بين الهياكل والمعادن الصدئة، فدخلوه غير مبالين ولا ملتفتين إلى الموت بعضهم قُتِل بلغم وآخر فقد عينه وثالث طارت يده في الهواء.رشاد من بر التنومة ذو لسعة حادة.كان أبي بعد سكون الحرب الأولى يحذرني من أن أجمع الرشاد البري.يقولون إنه يعالج السكر فلا حاجةَ أن يدخل سُمُّ الأنسولين في أجسادنا لم يُعْرَف عن أيٍّ من آلِ النبهان مات بمرض السكر .. السكتة القلبية نعم .. الضغط .. الكبر صحيح .. القتل، ويقول في الوقت نفسه بعد ان استدعت أمي الفكَّاكة أم صابر، من حقها أمك ياولدي أن تفعل كل ماتراه مناسبا لسلامتك فلا تلمها، في النهار اعترتك الحمى فقفزت من سريرك اتجهت راكضا إلى زاوية البيت عند قن الدجاج، رأيت نملة وحيدة تدلف في ثقب فقلت صارخا أنت هنا تختبئين فأين أخفي نفسي، ويبدو أني في الليل صرخت هائجا:أنا لم أدخل حقل الألغام ولم أعمل في تهريب الرشاد البري ولا معادن المدافع ..

لكني الآن تخلصت من كل شيء وعدت وحدي ..

الكيس نفسه تركته على البرّ، أطلقته في الهواء فوقع بين قدمي، ومع تلك العودة فارغا من دون خِحارةٍ راحت التنومة تكبر وتتمطى ..

 تتسع فتضيق أنفاسي ..

تتعاظم ببيوتها وسكانها الجدد وضجيج سياراتها التي تغص بالشارع الرئيس .. الجامعة القديمة اختفت وامتدت مكانها بيوت لأناس لا أعرف من أين جاءووا .. أين كان كلّ هؤلاء البشر محبوسين ؟الناس يموتون، يقتل بعضهم بعضاً، يخوضون معارك كلَّ يوم، لا تكاد الارض تخلو في أية ساعة من لحظة موت، انفجارات، اغتيالات وعبوات ناسفة، انتحاريون، مع ذلك يتكاثر البشر ويزداد عددهم .. حقا كانت الحقيقة تختلط بالخرافة وقد داهمني من كل ذلك صداعٌ وهزالٌ كاد يقضي عليّ، أما وفاة قريبنا الحاج محسن النبهان فلم يبق لها من أثر سوى دعوات نعي قديمة بَهُتَ لونها وعلاها غبارٌ على أعمدة الكهرباء، وبعض الحيطان الممتدة مع الشارع الرئيس وصور له تشير إلى أن كل ماحدث من أمر جلل في طريقه إلى التلاشي وأن الناس ينتظرون مراسم أخرى للحزن يمليها عليهم حدث تال!

وانتبهت في طريقي إلى البستان ساعة انتهيت إلى المكان الذي قابلني فيه جار الله الاعمى وأتحفني بالحجر الأخضر المزرق .. تذكرت أني سأجده يوما ما في مكان ما، مادام جارالله أعطاني إياه بعد الحرب الأولى فالأمر هين .. وهو واثق من أني أحافظ عليه.لعلّ نسيما هبّ من خاصرة النهر فغطّاه بالغرين، سأكون إذن كمن راح يبحث في مكان بعيد عن كنز مطمور تحت قدميه.سنين وأنا أترك أحجارا لاتثيرني في بر الزبير خلفتها معركة قديمة .. أحجار متشابهة يعلوها الغبار، وفي بغداد حيث زرت المتحف هناك رأيت الصخر، والتماثيل، ورقع الطين، وحجارة صغيرة، فكان كل الذي رأيت حقيقةً تنطق عن سرّ، حقيقة يدركها الجميع ثم التقطت حجرا انكشف بعد حرب دامت ثماني سنوات فهاجت عليّ الذئاب .. لابدّ من أن أعثر على حجر النهر .. لا أخاف الذئاب فما يمنحه النهر بخاصة إذا كان نهرا كبيرا مثل شط العرب لا خوف منه .. الرهبة في نفسي منه ظلت منذ آخر غطسة لي فيه .. سوف أبحث عنه في أي مكان .. لقد تركته في مكان بعد إنذار الجيش لنا بالمغادرة خلال الحرب مع إيران .. لقد شفيت تماما .. الساعة لا تعنيني وقعت الحرب الأولى فخشينا أن نسأل عن الوقت.كل ذلك يمكن أن أتفاداه.

وعندما وصلت البيت قال أبي :

- ماشاء الله صحتك اليوم عال، خفنا عليك يبدو أنك نسيت الهاتف النقال على السرير!

حقا لم يكن الهاتف النقال ليشغل بالي ولم أعر اهتماما للمسافة التي مشيتها من كردلان إلى البرّ على الرغم من أنني نهضت من مرض عنيد .. كلّ همي أن أتخلص من كدس الحجارة:

- قلت هل من شيء!

- ابن عمك " صالح "قَلِقَ عليك فاتصل يقول لا تتعب نفسك لا تذهب إلى الشغل حتى تشفى تماما!

قالت أمي تزف خبرا آخر:

- والله "صالح "حزام ظهر.اليوم في الليل يطير إلى الإمارات هو وأخوك يقول لديهما مشروع سيديره اخوك عقيل في دبي هناك والله دبي جنة!

 إذن أخي يطلب اللجوء بطريقة أخرى .. أيّ بلد محطة أولى لغياب دائم .. يستطيع أن يتجنب العبوات الناسفة ويربي أولاده في الخارج أفضل تربية .. تجربة جديدة .. كان يجرِّب أن يفلتَ من مظلة عمل تحتها بحماس مفرط أيَّام الحزب ولجأ إليها بعد الاحتلال .. وربما عثرت الآن -بعد أن رميت حجر البرّ إلى ذئاب رأتني غنمت أسراها-على السبب الذي جعله يبِّريْ ذمته أمام أبي.

راودتني نشوة زاهية فالبستان أصبح حقيقة لي وحدي.قلت:

-ألم يتصل بك!

قال أبي:

- كانا معا واعتذر أخوك عن المجيء لانه سيرسل زوجته إلى أهلها حتى يرتب أمور سكنه في هناك في الخليج!

قلت مع نفسي:

 كم كان جارالله ذكيا يوم حظر النهر على واحد كبير السنّ من آل النبهان وقبل بآخر صغيرٍ مثلي فأهداه قِطْعَةً منه لكنني نسيت أن أسأله هل عثر على شيء يوما ما في النهر-ماعدا الحجر الأخضر المزرق- أعرض عنه الناس أوشيء لم يدّعِه أحد، ففي ذلك الوقت كان سني لا يسمح لي بالتفكير في أمور تبدو صعبة جدا، واصلت بهزة من رأسي وأنا أطيل النظر إلى قنِّ الدجاج الفارغ:

 - لن أذهب إلى الشغل وسأعمل في وظيفة اخرى!ربما التدريس.

 قلت ذلك آملا ألا تطالني وصاية ابن عمي من جديد في سلك التعليم، وإن كنت أشك في الأمر .. ومن دون أن انتظر أيّ جواب قلت:

- مارأيكما أن نربي بعض دجاجات كما كنا قبل الحرب!

عقدت لسانهما دهشة من السعادة، والتفت إلى امي قائلا:

- لن تتعبي سأعتني بالدجاج والبستان حين أعود من العمل.

 ردّ أبي بابتسامة تدلّ على ارتياح لما تهادى إلى سمعه:

- صالح يخصك بالسلام ويقول فكرتك عن حديقة الحيوان مشروع يستحق التقدير أوّل مايرجع من الإمارات يتعاون معك في الموضوع.

تلقيت لكمة هائلة على فمي .. أيّ خطأ ارتكبت عن غير وعي ساعةَ تحدثت بحضور صالح النبهان عن رغبتي في أن أبني قفصا كبيرا للطيور داخل باحة البستان الفارغة ناسيا أني أخاطب شخصا يقتنص كلمات ويصطاد جملا من أيٍّ كان تصبح بمرور الوقت مشاريع عملاقة .. والطامةالكبرى التي لا أجد لها حلاً أن الذئاب التي جاءت من أجل أن تستعيد أسراها من الجان سيكون أحدها أو بعضها داخل قفص فلا تأبه للأمر .. ولا تطالعنا بعيونها الحمراء عند هبوط الظلام .. زلّة لسان جعلتني من دون قصد أسابق المستقبل فأقلب بستاننا الذي سلم مع بساتين قليلة على النهر من حرب الخليج الأولى إلى مَعْلَم جديد من معالم المحافظة تطاول به التنومة عين البصرة ومدينة الألعاب على ضفة العشار.

كدت أترنح مما سمعت.

 وقبل أن أخطو إلى غرفتي قلت بصوت خافت ظننته زعيقا عاليا:

- على فكرة هل تتذكر يا أبي حجرا أعطاني إياه بحضورك ذات يوم جار الله الاعمى!

- أما زلت بعدكل ماجرى من تعب بسبب الحجارة تبحث عن حجر؟

لم أجب، قلت مع نفسي: إنه حجر الماء الذي كان علامة على سلامتي ثم خطوت إلى غرفتي أبحث عن ذلك الأخضر المزرق .. رحت أبحث وأبحث في كل مكان .. قد اضطرّ _ إذا أخفقت في البحث _ إلى أن أحفر الأرض فأنا على يقين أني سأجده ذات يوم.

 

د. قصي الشيخ عسكر

....................

حلقة من رواية: النهر يلقي إليك بحجرا

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم