صحيفة المثقف

بعد خلق الازمات.. سيكولوجيا التغافل عن محاسبة الفاسدين

قاسم حسين صالحالفساد في العراق لا يشبهه فساد في العالم ولا حتى في التاريخ، فوفقا لصحيفة (واشنطن بوست) فان الفساد تسبب بسوء صرف أكثر من ترليون دولار أميركي خلال المدة من ٢٠٠٣ الى ٢٠١٧ . وان احدهم (كمثال) هو مدير شركة التجهيزات الزراعية السابق (عصام جعفر عليوي) المحسوب على احدى القوى الاسلامية الشيعية المشاركة في الحكومة والبرلمان، اعترف للجنة النزاهة بأنه دفع مليار ونصف المليار دينار لنائب سابق لغرض تهريبه (2017). ولا احد يشهد ان بين المسؤولين الكبار من هو نزيه، بدليل ان رئيس الوزراء الأسبق السيد نوري المالكي اعلن أن لديه ملفات فساد لو كشفها لانقلب عاليها سافلها، وانحاز للفاسدين على حساب الشعب..لثلاثة اسباب:حماية فاسدين من حزبه، ويقينه بأن الشعب عاجز عن ان يفعل ما يخشاه، ودفع شر خطير في تقديره.ففي لقاء قبل ايام مع مقرّب من السيد المالكي قال: لو انه امر بمحاسبة الفاسدين وقتها (كان صارت دمايات)..وفي هذا مغالطة، لأن اكثر من عشرين مليون عراقي، بينهم سبعة ملايين تحت خط الفقر، والمرجعية ايضا سيكونون معه..فضلا عن ان سكوته عن نهب مليارت من خزينة الدولة يعد خيانة ذمة كونه المؤتمن عليها.

ومعروف للجميع تصريح السيد مشعان الجبوري لمراسل صحيفة الغارديان مارتن شولوف (جميعنا فاسدون بمن فيهم انا)..وبمن فيهم حيتان معممون ورجال دين في احزاب الأسلام السياسي، ومسؤلون كبار سرقوا ملايين الدولارات، وآخرون بينهم ثلاثة وزراء وتسعة مدراء عامين و779 من افراد عائلات واقارب مسؤولين في الحكومة والبرلمان (الديمقراطيين!) نهبوا عشرين مليار دولارا، لو استرجعت منهم لما بقي في العراق سبعة ملايين آدمي دفعهم تحت خط الفقر من اعتبروا العراق غنيمة لهم فتقاسموه..ولما شكونا من عجز ميزانية 2019 بـ(19) مليار دلار وقبلها عجز ميزانية 2018 بـ(11) مليار دولار، ولما بقيت اغنى مدينة في العالم يشرب اهلها ماءا مرّا ويتنفسون هواءا عفنا من سواقيها الاسنة.وان الاستهانة بالشعب بلغت بمن وضعها أنه لم يكترث بمعالجة الحال المزري لأهل البصرة، ما دفع أهل البصرة وبابل بعد يومين من اقرار الميزانية (25/1/19) الى التظاهر واصفينها بأنها (ضحك على الذقون) وانها ستذهب الى جيوب الفاسدين، فيما وصفها متخصصون بانها ستذهب كما ذهبت سابقاتها الى جيوب الفاسدين. ونتذكر هنا ما قاله الراحل احمد الجلبي تلفزيونيا: (ما دخل العراق بين 2006 الى 2014 من واردات النفط بلغ 551 مليار و800 مليون دولار..فيما بلغ مجموع استيراد الحكومة 115 مليار دولار..طيب..وين راحت افلوس البقية..وقد وجدنا ان هناك عصابات في البنوك تحميها مجموعات من الفاسدين السياسيين).

ومن شباط 2011 طالب العراقيون بمحاكمة الفاسدين، وهتفوا في ساحات الحرية (باسم الدين باكونه الحراميه)، وحاول بعض كبار المسؤولين العراقيين بقيادة رئيس الوزراء السابق السيد حيدر العبادي وبتشجيع من رجل الدين آية الله علي السيستاني شن حملة ضد الفساد، لكنهم فشلوا..ولم يفي (العبادي) بوعد قطعه على نفسه بأنه سيضرب الفساد بيد من حديد.

ان تحليل عدم محاسبة الفاسدين، وحيتان الفساد بوصف المرجعية، يقوم على اعتماد آليتين سيكولجيتين:

الأولى: الهاء الناس بانتاج الأزمات

والثانية: اعتماد سيكولوجيا التغافل

وتحليل ذلك، ان ترويض الناس بتعويدهم على خلق ازمة وخروجهم منها ودخولهم في اخرى على مدى خمس عشرة سنة، فان عقولهم تتبرمج على الخوف والقلق من المستقبل، ويتكيفون نفسيا للواقع الذي يعيشونه، ويلهيهم عن المطالبة بمحاسبة الفاسدين..وهذا ما حصل لغاية انتهاء حكومة السيد العبادي. اما الان فان السيد عادل عبد المهدي وجد الحال ممهدا الى ان يعتمد سيكولجيا التغافل عن محاسبة الفاسدين بالعمل على تحقيق ما يراه أهم للناس بتوفير الخدمات واعمار المدن المتضررة.

ومع ان السيد عادل عبد المهدي شكّل مجلسا لمكافحة الفاسدين فانه يعرف مسبقا انه لن يستطيع ان يحقق شيئا ما لم تكن هنالك ارادة سياسية حقيقية وخطط علمية لمكافحة الفساد..تتولى فتح اخطر ثلاث ملفات فيه:ملف تهريب الاموال، وملف بيع العملة، وملف وزارتي الكهرباء والدفاع.ولنا ان نتذكر ان السيد العبادي استدعى محققين دوليين متخصصين بمكافحة الفساد جاءوا وذهبوا ولا نعرف عما فعلوه شيئا..ما يعني ان تغلغل الفساد في احزاب السلطة يجهض أي تحرك يستهدف حيتانها ما لم يتم اعتماد اجراء قانوني يجرّم كل حزب سياسي يثبت عليه انه تستر على فاسد يحتل موقعا متقدما في الحزب او السلطة.

ما يجري في العراق يذكرنا بقول لأبن خلدون :حين تنهار الدولة يكثر المنجمون والمتسولون والمنافقون والمدعون والقوالون والانتهازيون وقارعو الطبول والمتصعلكون، وتظهر وجوه مريبة وتختفي وجوه مؤنسة، وتزداد غربة العاقل ويضيع صوت الحكماء.

ولو شهد ابن خلدون ما يحصل الان في العراق لأضاف:

ويصبح الحاكم سارقا لقوت شعبه، ويشيع الفساد بين الناس ليتحول من فعل كان يعدّ خزيا الى شطارة، وتصبح خزائن احزاب السلطة مثل جهنم يسألونها هل امتلأت تقول هل من مزيد..ويصبح الناس عاجزين امام حكّام هم جاءوا بهم ليسلطوهم على مالهم وحياتهم فيدارون انفسهم بالتغافل!.. مع انهم لو توحدّوا لأسقطوهم!.

 

أ.د.قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

امين عام تجمع عقول

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم