صحيفة المثقف

النثرية في الشعر العباسي

محمد تقي جونالمقدمة: جاء مصطلح (قصيدة النثر) صادماً في المشهد الشعري. فبدا مثل تقبل واقع مرير، أو قرار اضطراري، أو ضرورة لاستمرار الحياة الشعرية. ولا أراها إلا أمراً لابد أن تصل إليه القصيدة العربية لأنها أصبحت منذ العصر العباسي تتحول مضمونا إلى النثر، وبقي الشكل الشعري الذي حوله دعاة قصيدة النثر إلى النثر، فحطموا الجزء الشعري الأهون.

إن الإطار العام لتبرير قصيدة النثر هو تعقل ونضج الإنسانية بعد كدح طويل عاشته بأحادية الطفولة الشعورية. وقد أنتجت في المرحلة الأولى بقدرتها على الغيبوبة الخيالية شعراً خالصاً، كالملاحم الإغريقية والشعر الجاهلي. وحين نضجت لم تقدر على الغيبوبة الخيالية فكتبت شعرا بعقلية نسبية أو بنثرية نسبية؛ فهو غير خالص الشعرية مهما كان تقديره واسم شاعره، وهو المتمثل بشعر العصور الوسطى الغربية والشعر العباسي.

وما زال الشعر تقل نسبته لصالح النثر حتى وصلنا إلى نثر بهيئة الشعر (نثر مشعور) ثم صرنا إلى (شعر منثور) و(قصيدة نثر). وشتان بين الشعرين؛ فالشعور الخالص المتحرر من إملاءات العقل وحده ينتج الشعر الشاعر، أما العقل وكوابحه فهيهات يسمح بالكثير من التحليق. انه المؤشر العام باتجاه انتهاء المرحلة الشعرية وابتداء المرحلة النثرية في العالم كله.

كان الغرب في القديم بالإطلاق يكتب بشعرية خاصة تلائم طبيعة لغاته (المعنوية) وهي التي مثلها الشعر على نمط نشيد الإنشاد ومزامير داود أي بلا قواعد عروضية، فلما أضيفت له القواعد العروضية ولاسيما القافية المستوردة من البلاد العربية صارت تثقله، كما فعلها الشعراء الفرس في العصر العباسي حين كتبوا شعرا فارسيا بعروض عربي[1]، ولم يستقم شعرهم حتى نبذوا تلك القواعد في العصور اللاحقة لعدم انسجامها مع طبيعة وذوق اللغة الفارسية.

وشيء آخر يخص القواعد العروضية، هو ان الشعر غير العربي غير منضبط على الوزن تقول سوزان بيرنار " في الأشعار المغناة، كان نبر الصوت أو النبر القواعدي (الذي يقع على آخر كلمة أو آخر مجموعة كلمات) يختفي لصالح النبر الموسيقي: لقد غنَّت القرون الوسطى كلها أبيات الشعر بالتوقف عند نهاية الشطر والقافية، على الرغم من كل العناصر المنطقية أو الانفعالية"[2]. وهو ما رصده الجاحظ في شعر الفرس " العرب تقطّع الألحانَ الموزونة على الأشعار الموزونة، فتضع موزوناً على موزون، والعجمُ تمطّط الألفاظ فتقبض وتبسُط حتّى تدخل في وزن اللحن فتضعَ موزوناً على غير موزون"[3].

وهذا يعني أن الشعر الأجنبي عموماً بلا عروض أفضل منه بعروض، فكان وصوله إلى قصيدة النثر حتمياً، بينما الشعر العربي بعروض أفضل منه بلا عروض، وإنما صار وصوله إلى قصيدة النثر حتمياً لاستحواذ الأساليب النثرية عليه منذ العصر العباسي واطرادها في العصور التالية.

فثورة النثر متوقعة ومنصفة للتراث الغربي، وقد أنتج الشعر النثري وقصيدة النثر أعظم شعرائهم وأبدع أشعارهم. أما بلادنا العربية فابتدأت بالشعر العروضي واستمرت عليه إلى أعتاب العصر الحديث، وأعظم شعرائه وأبدع قصائده هي العروضية.

كان العصر العباسي عصرا مختلفاً تماماً عن تواريخ العرب، لان زمامه كان بيد العجم، فأضافوا إليه أسلوبهم وذائقة لغتهم (المعنوية) شأن لغات الغرب، وهي ذائقة تختلف عن ذائقة اللغة العربية (اللفظية)، فأنتج المولدون شعراً متدرج النثرية، وقد قالوا: إن دولة بني أمية حلبة الشعراء ودولة بني هاشم حلبة الكتاب[4]. وفيه لاول مرة تطرح تسمية الشعر القديم والشعر الجديد. وقد استحوذ هذا الجديد المولدي (الشعر المتنثر) على المشهد الشعري العربي بعد ان أصبح يمثل ذوق العصر، وصار يستبدل قوالبه الشعرية بقوالب أخرى نثرية حتى صار مملولا ممجوجاً لا روعة فيه، وهبطت أهمية الشعراء لترتفع أهمية الكتاب قال الثعالبي " لا تزال طبقات الكتاب مرتفعة عن طبقات الشعراء"[5] فقد صار النثر أكثر حيوية وصدقا فنيا من (نثر) مختفٍ خلف قناع قصيدة شعر، فانتهى المضمون وبقي الشكل.

لقد صار الوزن والقافية بعدما لم يسيرا ديناميكيا مع نمو القصيدة وتتابع أفكارها بتحليق شعري (رحى تطحن قروناً)[6]، وصارا كالعوارض على المتسابق أن يجتازها ولا يضعها في اهتمامه وهو يريد إكمال طريقه إلى النهاية ويحقق الفوز، بينما كان الوزن والقافية في عصرهما الذهبي من إشراقات القصيدة واهتمام الشاعر، ولا يجود الشعر العربي بدون هذين المحركين. ولابد من بيان ان الوزن لا يقصد به القوالب العروضية المسماة بحورا اذا لم يحقق الشاعر من خلالها موسيقى اضافية تنفخ الروح في الكلمات، وكذلك القافية اذا لم تكن متماهية مع الوزن تاتي باردة وزائدة على الموسيقى بل منشزة وقطعها أفضل. وحتما عدم القدرة على تحقيق الوزن والقافية كما ينبغي اسقط في النثرية ودعا النثريين إلى التخلص من العروض، أو كما تقول بيرنار: الدعوة إلى التفريق بين (الشعر) و(فن نظم الشعر)[7] لعدم إمكان تحقيق شعر بهما من الكثيرين أو الأغلبية؛ فأرنولد ماثيو (ت 1888م) من الشعراء الكبار " لم تتعشق قواعد نظم الشعر مع شعره بشكل جيد"[8]، وكثير من الشعر العباسي جاء العروض فيه بارداً. وهذا بمجمله قاد إلى (قصيدة النثر).

ويرد الدكتور عثمان موافي الخصومة بين القدماء والمحدثين الى محاولة المحدثين الخروج بالشعر عن ميدانه الحقيقي الى ميدان النثر، بإلغاء الفروق الفنية الدقيقة التي تميز كل فن قولي منهما من الآخر"[9].

إذن قصيدة النثر حتمية ونتيجة لإخفاقات ومسببات وتطورات مختلفة جعلت الشعر العروضي يفقد بريقه وجمهوره، وما عادت متطلبات العروض الصعبة يحققها الشعراء بفنية، كالرقصات البدائية التي هجرتها الشعوب المتحضرة لصعوبتها، وصار الشعر بين خيار شعرية عروضية مستهلكة وشعرية غير عروضية حيوية.

يؤشر هذا البحث التحولات النثرية في الشعر العباسي، ويحددها، ويعددها، ليخلص إلى أن الشعر العباسي يعد المقدمة والانطلاقة الحقيقية أو الانحراف الأول الذي أدَى إلى قصيدة النثر العربية وتقبلها؛ لأنه شعر جديد حائد عن الشعرية العربية المتوارثة: الجاهلية والأموية، وان خروجه من قناة الذائقة اللغوية الأجنبية (المولدية) جعله (يتنثر)؛ فاللغات الأجنبية كلها تكتب الشعر بنثرية لاشتغالها على المعاني بشكل أكبر فالتفكير الشعري لديها معنوي، على الضد من التفكير الشعري اللفظي العربي الذي صنع شعراً خالصاً.

وحسبنا أنا أثرنا موضوعا جديداً في الدراسات النقدية، يربط بين الشعر العباسي الذي استحدثته مدرسة المولدين وصار طابع الشعر العربي العباسي وما بعده، وهو مختلف عن المدرسة الجاهلية، وبين اكبر صرخة أو موضة للشعر العربي ممثلة بقصيدة النثر. ويظهر البحث ان الشعر العربي وفق معطيات ما وصل إليه الشعر العربي من تجديد وعالمية صار متقبلا لقصيدة النثر، وربما لو لم تصدر إلينا لاستوردناها نحن أو أحدثناها، وسابقا كان للشعر العربي تجربة تقترب من النثر وهو شعر البند. متمنين أن يغوي هذا البحث لمزيد من الدراسات في جزئيات تخص النثرية في الشعر العربي القديم.

مظاهر النثرية في الشعر العباسي

المعاني والألفاظ غير الشعرية

 قام الشعر العربي الجاهلي والأموي على الألفاظ الجزلة والمعاني المتصلة بها، وكلا الألفاظ والمعاني شعري. الألفاظ مركز الثقل، والمعاني لا يسمح لها بالهبوط إلى الكلام اليومي السوقي، لذا لم تكن معاني الشعر الجاهلي تلك المطروحة في الطريق التي  يعرفها العجميُّ والعربيُّ، والبدويُّ والقرَوي، والمدنيّ، أي العامة، بل هي معان شعرية يعرفها الشعراء فقط ويلبسونها ألفاظها التي تطبعها بطابع الشعر المميز. فالشاعر العربي يكتب شعرا ويتكلم كلاما غير شعري، أي تختلف لغة الشعر عن اللغة الاستهلاكية اليومية. بينما قلت الفوارق بين لغة الشعر ولغة الكلام في العصر العباسي، لذا قال أبو العتاهية : "لو شئت أن أجعل كلامي كله شعراً لفعلت"[10].

 ويرجع سبب هذا الاختلاط إلى صعود النثر مقابلا إبداعياً في العصر العباسي. ويرجع طه حسين سبب ذلك إلى الحياة العقلية في العصر العباسي " أن هذه الحياة العقلية غلَّبت العقل العربي على الخيال العربي، ورفعت شأن النثر على شأن الشعر، وأكثرت الكتاب وقللت الشعراء"[11]. فالنثر صار يلذ العقل والشعور وغلب الشعر في في اخص الأشياء به وهو الموسيقى[12].

وكلما تقدمنا في العصر قوي النثر وضعف الشعر الخالص ليعوض نقصه الشعري بالنثرية. وازدهار النثر الفني أغرى الشعراء بتقليد الكتاب واخذ معانيهم واستعمال أساليبهم. فابن الرومي اخذ معاني الكتاب في وصف الشطرنج واعتمد ألفاظهم في قصيدة له في العتاب[13]. وإذا قرأنا رسالة التربيع والتدوير نحار في مكنة الجاحظ من الهجاء بأكثر من مئة صفحة في كل سطر معنى وصورة تجعل من رسالته ملحمة هجائية وهو ما لا يستطع أي شاعر تحقيقه.

إن قراءة الشعر العباسي تظهر أن غالبيته ينحصر تفكير الشاعر فيه بالمعنى، فهو يقدمه على اللفظ بعكس الشاعر الجاهلي والأموي. وهذا جعله يستخدم ألفاظاً غير جزلة بل حضرية ومولدة ودخيلة وعامية فاثر ذلك في الصياغة الشعرية اذ أصبحت أشعارهم اقرب إلى النثر منها إلى الشعر[14] كقول ابن الرومي:

عَلَّني أحمدٌ من الدُّوشاب       شَربةً بَغَّضَتْ قِنَاعِ الشبابِ

لو تراني وفي يدي قدحُ الدوشاب أبصرتَ بَازيارَ غُرابِ[15]

وجرهم الولوج إلى موضوعات غير شعرية كالتاريخ والفلسفة والتصوف وغيرها إلى استخدام ألفاظ تلك العلوم وأساليبها وهي نثرية بالطبع، فأسقطهم ذلك في النثر وهم لا يشعرون. ومن ذلك استخدام أو تورط الشاعر بتاريخ أحداث عصره وقضاياه كالكاتب والمؤرخ؛ فاثر في صياغته الشعرية وأصابها بعدوى النثرية؛ فالسرد التاريخي يجعل من الشعر اقرب شبها بالمنظومة التاريخية منها بالقصيدة الشعرية"[16]. ومن ذلك منظومة علي بن الجهم في بدء الخلق ومنظومة ابن المعتز في تمجدي أسلافه العباسيين. ولا يقل عنه إيراد أحداث معينة خلال الشعر كقول ابي تمام:

لَهُم يَومُ ذي قارٍ مَضى وَهوَ مُفرَدٌ       وَحيدٌ مِنَ الأَشباهِ لَيسَ لَهُ صَحبُ

بِهِ عَلِمَت صُهبُ الأَعاجِمِ أَنَّهُ        بِهِ أَعرَبَت عَن ذاتِ أَنفُسِها العُربُ

هُوَ المَشهَدُ الفَصلُ الَّذي ما نَجا بِهِ       لِكِسرى بنِ كِسرى لا سَنامٌ وَلا صُلبُ[17]

وفي هذا الصدد يقول أرسطو " إنَّ المؤرخ والشاعر لا يختلفان بأن ما يرويانه منظوم أو منثور، بل يختلفان بأن أحدهما يروي ما يقع على حين أن الآخر يروي ما يجوز وقوعه. ومن هنا كان الشعر اقرب إلى الفلسفة وأسمى مرتبة من التاريخ[18]

ومثله إدخال الفلسفة في الشعر كقصيدة النفس لابن سينا، والحكمة المتسلسلة عند ابي العتاهية وصالح بن عبد القدوس، فالحكمة هي كيلة من العقل ثقيلة تلقى على جناح القصيدة مما يجعلها تسف إلى النثرية. فسوق المواعظ والحكم يكون في لغة تقريرية واضحة، وتعبير صريح مباشر، تعوزه اللمحة الدالة، ويفتقر إلى شيء ليس بالقليل من صفات التعبير الشعري كالإثارة والتفنن في الصياغة والانفعال القوي والعاطفة الصادقة[19]. ومن ذلك حكمية أحمد بن محمد السكري المروزي:

مَن رام طَمْسَ الشمسِ جَهْلاً أخْطَا         الشمسُ بالتَّطْيِين لا تُغطَّى

أحسنُ ما في صفةِ الليل وُجِدْ        الليلُ حُبْلَى ليس يُدْرَى ما يلِد

نال الحمارُ بالسُّقوطِ في الوحَلْ         ما كان يهْوَى ونَجا من العملْ

مَن لم يكنْ في بَيْتِه طعامُ           فما له في مَحْفِل مُقامُ

كان يُقال مَن أتى خُوَانَا              من غير أن يُدْعَى إليه هَانَا[20]

كما أدى الإغراق بالبديع إلى استخدام ألفاظ لا خصوصية لها في الفصاحة والجرس والجمال فبدا الشعر المكتوب بها كأنه نثر خالص ليس فيه من الشعر الا الوزن الظاهري الخالي من الإيقاع كقول ابن الفارض:

نعم بالصبا قلبي صبا لأحبتي         فيا حبذا ذاك الشذا حين هبتَِ

سرت فأسرت للفؤاد غدية         احاديث جيران العذيب فسرتِ

أيا زاجراً حمر الاوارك تارك الموارك من أكوراها كالأريكةِ[21]

 الأوزان غير الشعرية

فرَّق الشعر الجاهلي بين الشعر وغير الشعر في الوزن؛ فجعل للشعر (القريض) الاوزان المعروفة كالطويل والكامل والبسيط...الخ، وجعل لغير الشعر بحر الرجز، توسعا في الشعر لشغفهم به. وانما سموه الرجز بمعنى ان قيمته في الصوت فقط، فكان الراجز يثير اهتمام المقابل بما يضجه من صوت مكثف تخدم الكلمات فيه هذا الضجيج الذي يحدثه تكرار القافية في كل شطر، واختيار حروف شديدة فضلا عن حروف مد لمد الصوت ورفعه. وهو ما انشدوه في الحروب كقول هند بنت عتبة:

نحن بنات طارقْ

نمشي على النمارقْ

والدرُّ في المخانقْ

والمسكُ في المفارقْ

إن تقبلوا نعانقْ

أو تدبروا نفارقْ

فراق غير وامقْ[22]

فواضح أنها اختارت القاف الشديدة، وجعلت القافية مؤسسة لاستخدام حرف ألف المد، وبتكرارها في كل شطر أحدثت الضجة الصوتية المطلوبة في جلب اهتمام الجنود وحثهم، وكانت معاني الأشطار في خدمة الموضوع وتوجيهه. وكذلك جعلوه لقضايا غير شعرية آنية كقول صخر بن الشريد لزوجته حين منعته أن يعطي أخته الخنساء من خيار إبله:

تالله لا أمنحها شرارها

وهي حَصان قد كفتني عارها

وإن هلكتُ مزقت خمارها

واتخذت من شعر صدارها[23]

 وعلة جعل الرجز بحرا لغير الشعر هو كثرة زحافته، وتفريع نغتمه، وعدم رصانة إيقاعه، وهذا كله يجعله أقرب إلى النثر بل يجعله خاصا وخالصا للنثر، لذا لم يعتد به في الجاهلية فما كتب عليه ليس بشعر. وعلى الرغم من تطويله في العصر الأموي وكتابة أراجيز بأغراض الشعر عليه إلا أن طبيعته ظلت على ما هي عليه، فسمي كاتبها راجزا ولم يسمَّ شاعراً، كما تدنت مرتبة الراجز عن مرتبة الشاعر كما قال المعري:

وَلَم أَرقَ في دَرَجاتِ الكَريمِ       وَهَل يَبلُغُ الشاعِرَ الراجِزُ[24]

في العصر العباسي وبسبب الاقتراب من روح النثر كتب الشعراء على بحر الرجز بتغيير طبيعته إلى القريض. وقد فات الشعراء ان القضية ليس تحويل الشطر الواحد إلى شطرين، وانما هي طبيعة وجبلة خلق عليها الرجز هكذا، وانه مهما غيّر يبقى نثرياً، ويسحب كل ما يكتب عليه إلى النثرية، وادخال الرجز في القريض احد أهم أسباب تفشي النثرية في الشعر العباسي. ونلاحظ نثرية هذه الأبيات بسبب كتابتها على بحر الرجز:

ما أجَلُ الهاربِ عنه هارباً       لا بل يَزيدُ طَلباً إذا هَربْ

ما تَبرحُ الآجالُ من مكانِها       فلا تُضِعْ فُرصةَ ذِكرٍ يُكْتَسَبْ

فَخْراً إذا عُدَ أبوه سافراً       حتّى إذا ما ذُكرَ الابِنُ انتقَبْ[25]

فهذه الأبيات لعبت موسيقى الرجز غير الثابتة والرصينة على اضفاء النثرية القوية عليها. وقد ازدهر هذا البحر الجديد فكتب عليه الفحول كابي تمام والبحتري والمتنبي فضلا عن أواسط الشعراء وصغارهم، ولكن المقياس انه لم تشتهر ولا قصيدة واحدة لاي شاعر على هذا البحر. وقد اطرد هذا البحر في الاستعمال مع تقدم العصر حتى كتب عليه ابن المغربي مطولة مشهورة تنيف على مئتي بيت عارضها الشاعر محمد مهدي الجواهري، ومن هذه القصيدة قوله:

يا دبدبه تدبدبي         أنا علي بن المغربي

تأدبي ويحك في         حقِّ أمير العربِ

وأنتِ يا بوقاته         تألفي تركَّبي

وابتدري وهدِّري         ونقِّري وطرِّبي[26]

وفضلا عن تحوير الرجز، فقد ابتدع العباسيون او الاعاجم منهم بحورا جديدة كلها ذات نفس نثري او تحيل بقصر نغمتها إلى النثر وهي كثيرة الا ان المشهور منها والذي ضمه عروض الخليل اربعة: المقتضب، المضارع، المجتث، المتدارك. فهذه البحور ساعدت كثيرا على كتابة شعر نثري بسبب ضعف نغمتها وعدم إمكان الأشعار من التحليق وتحقيق الموسيقى الشعرية الكافية لها. واكثرها نثرية أشهرها وهو بحر الخبب أو المتدارك على اختلاف في التسمية. فموسيقى الخبب تشبه موسيقى الكلام اليومي الذي تقوله العامة بموالاة ساكن فمتحرك في الأكثر وهو ما تحكية تكرار تفعيلة (فعْلن) مثل:

إِن الدنيا قد أَغوتْنا         واستغوتنا واستهوتنا

لسنا نَدرِي ما قدَّمنا         فيها إِلا لو قد مُتنا

يا ابنَ الدنيا مهلاً مهلاً      زِنْ ما يأتي وزناً وزناً

ما من يومٍ يمضي عنا       إِلاَّ أَوْهى منا رُكْنَا[27]

فأنت تحس ان نغمة هذا الشعر تشبه نغمة الكلام اليومي الذي يقال، وهذا يجعله على مستوى الخطاب النثري مهما حاول وضع آليات شعرية لتسمو به كالاستعارة والصورة وغير ذلك.

كما عملت مجزوءات البحور العباسية على إشاعة النثرية لعدم قدرة اغلب الأوزان القصيرة على تحقيق الموسيقى الشعرية المطلوبة، فكان تقصير الإيقاع محبطا ومثبطا للشعر مهما حاول الشاعر وكانت قدرته. وإذا استجابت بعض الأوزان القصيرة كمجزوء الكامل فالأغلب لا يستجيب شعريا كمجزوء الرمل والمديد والخفيف. ومن مجزوء الخفيف المشهور ويبدو فيه الشعر كلاما يوميا قول عبد الله بن الزبير:

اقتلوني ومالكاً         واقتلوا مالكاً معي؟[28]

رتابة  القافية

 " تعمل القافية على زيادة النغم الذي يصنعه الوزن الشعري، وتنظيم وضبط الوزن الشعري من خلال طرقات حرف الروي الثابتة الزمن"[29]. فالقافية جزء من الوزن الا انها جزء مثير ومنظم للايقاع، ولا يستطيع الا الشاعر من استثمار القافية نغمياً بجعلها جزءا من الوزن ومتفاعلة معه ومضيفة اليه, وعدا ذلك تكون مجرد نهاية غير طبيعية للبيت الشعري، ويكون حرف الروي فائضا عن الحاجة او مبعثرا للايقاع. والنوع المطلوب من القوافي يكون صارماً وقوياً ولذيذاً، فالاذن تنتظر القافية بفارغ الصبر لتطرب بضرباتها المدوية في اعماق النفس. ومن امثلة ذلك قول لبيد بن ابي ربيعة:

تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما         وهل أنا إلا من ربيعة أو مضرْ

فإن حان يوماً أن يموت أبوكما         فلا تخمشا وجها ولا تحلقا شعرْ

وقولا هو المرء الذي لا حليفه         أضاع، ولا خان الصديق ولا غدرْ

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما         ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذرْ[30]

وكقول المتنبي:

طَرَدتُ مِن مِصرَ أَيديها بِأَرجُلِها       حَتّى مَرَقنَ بِنا مِن جَوشَ وَالعَلَمِ

تَبري لَهُنَّ نَعامُ الدَوِّ مُسرَجَةً       تُعارِضُ الجُدُلَ المُرخاةَ بِاللُجُمِ

تَخدي الرِكابُ بِنا بيضاً مَشافِرُها       خُضراً فَراسِنُها في الرُغلِ وَاليَنَمِ

مَكعومَةً بِسِياطِ القَومِ نَضرِبُها       عَن مَنبِتِ العُشبِ نَبغي مَنبِتَ الكَرَمِ[31]

فأنت تشاهد القافية قوية مكينة ولذيذة تفعل بالنفس الطرب وكأنها تضيف معنى على المعنى. إلا أن كثيراً من شعراء العصر العباسي لم يستطيعوا تحقيق ذلك كقول أبي العتاهية:

أَينَ الَّذينَ عَهِدتُهُم       قَطَعوا الحَياةَ تَلَذُّذا

دَرَجوا غَداةَ رَماهُمُ       رَيبُ الزَمانِ فَأَنفَذا

سَنَصيرُ أَيضاً مِثلَهُم       عَمّا قَليلٍ هَكَذا

يا هؤلاءِ تَفَكَّروا       لِلمَوتِ يَغدو مَن غَذا[32]

فالقافية كما يبدو بوضح ليست كقافية المتنبي قوة ولذة، بل تأتي وتمر دون أن تحرك المشاعر ولا تؤثر فيها. وهذا البرود جعل القافية كالفاصلة في النثر، وجعل مثل هذا الشعر اقرب إلى النثر منه إلى الشعر. وقد سما النقاد القافية القوية المؤثرة (متمكنة)، والضعيفة (مستدعاة ومجتلبة ونافرة وقلقة) أي انها جلبت رغماً وتكلم ابن ابي الاصبع في ذلك فقال " يمهد الناثر لسجعة فقرته، أو الناظم لقافية بيته، تمهيداً تأتي القافية به متمكنة في مكانها، مستقرة في قرارها، مطمئنة في موضعها، غير نافرة ولا قلقة، متعلقاً معناها بمعنى البيت كله تعلقاً تاماً، بحيث لو طرحت من البيت اختل معناه واضطرب مفهومه"[33].

 ان الكثرة الكاثرة تفتقد القافية الشعرية، فقوافيها غير شعرية، ومنها ما هو مكرور مستهلك، كما ان الشاعر العباسي صار يكتب القوافي أولا ثم يكتب الشعر، بينما شعراء العرب كان يقول الشعر وتأتي القافية وحدها بمشيئتها وليس بمشيئة وإرادة الشاعر القسرية. وقد صرح بذلك ابن طباطبا العلوي في كتابه عيار الشعر[34].

تحطيم هندسة الشطرين

 الشطران والقافية الموحدة من أساسات الشعر العربي الذي استقر أفضل صورة يمكن أن تكون عليها الشعر العربي بعد متطاول الزمن، ومن ثم ليس من حق من جاء متأخراً أن يعبث بهذا البناء العملاق المجرب. ان النماذج التي طرحها العباسيون بسبب ضيق الطبيعة او النفس كلها غير شعرية.

 " نظام الشطرين يعني شطر الفكرة إلى شطرين بتناظر وزني تام. وعلة اختيار الشطرين إن الشاعر يبدأ بالفكرة في الشطر الأول فيهيئها ليكملها في الشطر الثاني، كما انه يأخذ نفـَسَه ويستفزُّ قريحته للبحث عن القافية التي سيرشحها تمامُ الفكرة" فكل كلمة في الشطر لها صميمة وحميمة بالشطر الاخر، وهي لا غيرها يجب ان يكون موجوداً، وبهذا فنظام الشطرين يحقق التلاحم الشعري وينضج التفكير الشعري كقول المتنبي:

على قدْرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ         وتأتي على قدْرِ الكرامِ المكارمُ

فتعظُمُ في عين الصَّغيرِ صغارُها         وتصغر في عين العظيمِ العظائمُ[35]

فكل كلمة في الشطر الأول لها علاقة وتمهيد في الشطر الثاني وكل كلمة في الشطر الثاني فيها كمال وإكمال لكلمة تناظرها في الشطر الأول، ويجتمع الشطران باكتمال فكرة البيت ونضوجه الشعري.

 ونعد تحطيم نظام الشطرين تهديم لركن ركين من الشعرية العربية. وهذا التحطيم مثل الوزن والقافية قد يأتي تحطيماً من الداخل أو الخارج. فكثير من الشعر الذي نعده موزوناً هو بلا غطاء نغمي حقيقي، كالمنظومات التاريخية والنحوية، فهذه فضلا عن بعدها عن روح الشعر لم تحقق الموسيقى الفاعلة بل حظها من الوزن ظاهر البحر الشعري، ومثله القافية. وكذلك نظام الشطرين؛ فهناك قصائد كثيرة ولاسيما المتأخرة حققت الشطرين ولكنها لم تحقق فعل الشطرين الذي ذكرناه، وهو شطر الفكرة والتفاعل بين الشطرين وصولا إلى القافية التي فيها تتم العملية الشعرية كلها او تصل إلى ذروتها.

ما عُبَيْدُ اللّهِ مِمّنْ       نالَ بالعَزْلِ خَساره

هو لم يُعزَلْ ولكنْ       عُزِلَتْ عنه الوِزاره

وكأنّي باللّيالي       ولقد تَكْفي الإشاره[36]

فهذه الأبيات لا يوجد تفاعل بين الفاظ الصدر والعجز، بل هو استرسال في الكلام من الصدر إلى العجز كما يكتب الكاتب نثرا فيسترسل من سطر إلى سطر وكأنه قال (إن عبيد الله) (لم يخسر بعزله) وهذا غير ما ألفناه من نظام الشطرين، فلو قال الشاعر (ما عبيد الله) وسكت لا نتكهن بأي نسبة تكهن بما سيكون عليه العجز لان كلمات العجز لا تتعلق بكلمات الصدر باي نسبة تعلق. بينما لو قال المتنبي (على قدر أهل العزم تأتي العزائم) لتكهنا بنسبة معينة بما سيكون عليه العجز، لوجود تعلق بين كلمات الصدر والعجز. ومن تحطيم نظام الشطرين داخليا اضافة قوافٍ داخلية، فهذه القوافي تشغل عن تفاعلية الشطرين مثل قول الحسين بن علي النحويّ:

طلعت سحراً وبدت قمراً         فبكى درراً لهم الرَّجل

أرقاً قلقاً سئماً ألماً         بهم زمناً فبه الخبل[37]

وجاء تحطيم الشطرين شكلا عبر أشكال عباسية ابتكروها كالمسمط والمربع والمخمس والمزدوج وغيرها.

التقليدية (الإخلاء أو الغسل)

وصل الشعر العباسي في وقت متأخر إلى عتبة مخيفة من عدم الابداع، وهي خلو الشعر من أي صورة ابداعية، لا في لفظ الا معنى ولا اسلوب ولا موسيقى، وكأنه كيان شعري جسدا بلا روح، مثل انسان ميت جسد فارقه الروح. ولاسيما في العصر السلجوقي الذي شهد فيه الشعر كسادا فنيا مريعاً. وقد صار الشعر عبارة عن قوالب جاهزة او كليشهات الا ما قلَّ وندر.

فكثير من القصائد بل الدواوين تجدها فارغة من الابداع، وقد اطلق النقاد على هذه الظاهرة (الإخلاء). وأرادوا به أن الشاعر يأتي بأبيات طويلة لا طائل تحتها. قال البحتري: دعاني علي بن الجهم فمضيت إليه، فأفضنا في أشعار المحدثين إلى أن ذكرنا أشجع السلمي، فقال لي: إنه يُخلي، وأعادها مراتٍ ولم أفهمها، وأنفت أن أسأله عن معناها، فلما انصرفت فكرت في الكلمة، ونظرت في شعر أشجع السلمي، فإذا هو ربما مرت له الأبيات مغسولةً ليس فيها بيت رائع، فإذا هو يريد هذا بعينه، أنه يعمل الأبيات فلا يصيب فيها ببيتٍ نادرٍ، كما أن الرامي إذا رمى برشقه فلم يصب فيه بشيءٍ قيل أخلى[38]. وفي قراءتنا لدواوين هذه الحقبة وما بعدها وحتى قصائد من الحقب التي قبلها سنجد شعراً مغسولا كثيراً. وهذا الغسيل الشعري يعني في ابسط توضيح له انه وقع في النثرية، فليس سوى (نثر عروضي) لم ينفعه العروض ولم يضره. ومن ذلك قول ابن سناء الملك:

صحَّ من دهرِنا وفاةُ الحَياءِ       فليَطُلْ منكما بُكَاءُ الوَفاءِ

ولْيَبن ما عقدتُماه من الصبرِ بأَن تَحْلُلا وِكَاءَ البُكَاءِ

وأَهِيَنا الدُّمُوعَ سَكْباً وعَطْلاً وهَبا أَنهن مِثْلُ الهَباءِ

وامْنحا النَّوْمَ كلَّ صبٍّ ينادي       من يُعيرُ الكَرَى ولَوْ بالكِرَاءِ

ليست العينُ منكما لي بِعَيْنٍ       أَو تعاني حَمْلاً لبَعْضِ عنَائي

فقد علق عليها الدكتور عبد العزيز الاهواني بقوله " وحسب الإنسان أن يقرأ هذه الأبيات ليحس أنها في ألفاظها وجملها أشبه بالنثر المنظوم منها بلغة الشعر[39]. والاهواني يجعل شعر ابن سناء الملك والشعر الأيوبي قاطبة ضعيفاً عقيماً[40].

 ويتكلم الفيلسوف جان بول سارتر عن الحدود بين الشاعر والناثر فيقول: " ان الناثر اذا أفرط في تدليل (منح الدلالة) الكلمات فان صورة النثر تتحطم وتقع في الفراغ، واذا تصدى الشاعر للحكاية او للشرح او للتعليم صار الشعر مدموغاً بطابع النثر وحسر دوره"[41].

 

أ. د. محمد تقي جون

.........................

[1] فنون الشعر الفارسي: 13.

[2] قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، سوزان بيرنار:29. 

[3] البيان والتبيين: 1/ 385

[4] أخبار أبي تمام،أبو بكر الصولي: 109.

[5] نثر النظم وحل العقد، عبد الملك الثعالبي : 6.

[6] الوافي بالوفيات: 1/ 260

[7] قصيدة النثر من بودلير الى أيامنا:33.

[8] دليل القارئ الى الأدب العالمي: 31.

[9]  في نظرية الأدب من قضايا الشعر والنثر في النقد العربي القديم: 1/ 36.

[10] كتاب الأغاني: 4/ 13.

[11] من حديث الشعر والنثر: 54.

[12] من حديث الشعر والنثر: 63.

[13] من حديث الشعر والنثر: 65.

[14] من حديث الشعر والنثر: 135.

[15] ديوان ابن الرومي: 1/ 395.

[16]  في نظرية الأدب: 318.

[17] ديوان أبي تمام: 1/ 187- 188.

[18] فن الشعر كتاب أرسطو طاليس، ترجمة وتحقيق شكري عياد : 64.

[19] في نظرية الأدب: 321.

[20] يتيمة الدهر، الثعالبي: 4/ 100.

[21] ديوان ابن الفارض: 1/ 208، 209، 212.

[22] شرح الأخبار، القاضي النعمان المغربي (ت 363هـ)، تحقيق: محمد الحسيني الجلالي، ط2 (قم، مؤسسة النشر الاسلامي، 1414هـ): 1/ 273.

[23] المحاسن والأضداد، الجاحظ : 123.

[24] لزوم ما لا يلزم:: 2/ 6.

[25] ديوان الارجاني: 1/ 95.

[26] فوات الوفيات: 2/ 100.

[27] رسالة الصاهل والشاحج: 192.

[28] سير اعلام النبلاء:4/ 35.

[29] أنا الشعر- دراسة في أساسات الشعر الجاهلي وصلاحيتها لعصور الشعر العربي: 62.

[30] يتيمة الدهر، الثعالبي: 4/ 100.

[31] شرح ديوان المتنبي: 4/ 287- 288.

[32] ديوان أبي العتاهية: 80.

[33] تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر: 192.

[34] عيار الشعر: 11.

[35] شرح ديوان المتنبي: 4/ 94.

[36] ديوان الارجاني: 1/ 368.

[37] الوافي بالوفيات: 13/ 11.

[38] أخبار أبي تمام،أبو بكر الصولي (ت 335هـ)، تحقيق: خليل محمود عساكر وآخران (بيروت، المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع): : 63.

[39] ابن سناء الملك ومشكلة العقم والابتكار في الشعر، د. عبد العزيز الاهواني (بغداد، دار الشؤون الثقافية، 1986): 43- 44.

[40] ابن سناء الملك ومشكلة العقم والابتكار في الشعر: 17.

[41] ما الأدب، جان بول سارتر، ترجمة: محمد غنيمي هلال (القاهرة، مكتبة الانجلو المصرية، 1961): 44.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم