صحيفة المثقف

دمعة على الاغنية العراقية!

داود السلمانفلنعترف أن الاغنية العراقية قد ماتت منذ ثلاثة عقود أو تزيد، إذ أن كثيراً من المعنيين بهذا الشأن قد اعلنوا موتها، كما أعلن الفيلسوف الالماني نيتشة موت إلهه في (هكذا تكلم زرادشت). ومن هؤلاء المعنيين الناقد الموسيقي الكبير الراحل عادل الهاشمي، فقد صرح في اكثر من مرة من خلال بعض وسائل الاعلام: "إن هناك اكذوبة كبيرة اسمها كاظم الساهر"، وكذلك أعلن إن هناك كثير من المغنين اساؤوا الى الاغنية العراقية، من دون أن يحدد بعض الاسماء، لأن في قاموس معلوماته كثير جدا من هذه الاسماء من الذين ساهموا بقتل الاغنية واعلان الحرب عليها.

لقد كانت الاغنية العراقية في قمة العطاء، والذوق والجمال والابداع الحقيقي الذي كان يعبّر عن الحس المرهف للمطرب وللملحن وللشاعر، وهؤلاء الثلاث قد قدموا اغانٍ رائعة، لا تزال تصدح في قلوب واذواق وحناجر المتلقي العراقي، فضلاً عن المتلقي العربي، إذ كانت هذه الاغاني بالصدارة، حتى أن هناك الكثير جداً من تلك الاغاني راح يرددها مطربون ومطربات عرب، وقولهم أن الاغنية العراقية فيها احساس وجاذبية مغناطيسية قل نظيرها، حتى أن المطربة الكبيرة أم كلثوم حينما زارت بغداد في الخمسينيات من القرن المنصرم، وسمعت اغنية (كلبك صخر جلمود ما حن عليه) أعُجبت فيها أشد الاعجاب، وراحت تدندن بها، وهي معجبة في مفرداتها ولحنها وطريقة اداؤها بصوت الفنانة الكبيرة سليمة مراد، ذلك الصوت العذب، ذو الاصالة العراقية.

ونستطيع أن نقول: إن الاغنية العراقية قد مرّت بثلاثة مراحل، أو قل ثلاثة مدارس قبل أن يعلن المعنيون موتها، واقامة الحداد عليها.

المرحلة الاولى: وقد تمثلت بالمطربين الكبار امثال: محمد القبنجي، ناظم الغزالي، داود الكويتي، صالح الكويتي، سليمة مراد، زكية جورج، عفيفة اسكندر، زهور حسين، رضا علي، احمد الخليل، وحيدة خليل. والقائمة طويلة جداً، لا تسعفني ذاكرتي المعطوبة بذكر المزيد.

المرحلة الثانية: ياس خضر، حسين نعمة، سعدون جابر، رضا الخياط، قحطان العطار، صباح السهل، فؤاد سالم، كمال محمد، مائدة نزهت، أمل خضير، سيتا هاكوبيان، انوار عبد الوهاب، رياض احمد، حميد منصور. والقائمة ايضاً طويلة جداً.

المرحلة الثالثة والاخيرة: صلاح عبد الغفور، عارف محسن، كريم حسين، كريم محمد، وامثالهم كثير.

وبعد هذا الجيل الاخير، مرت الاغنية العراقية بوعكة صحية الزمتها فراش المرض لسنوات، فكانت وهي في فراشها لم يزرها من اصحاب الذوق الرفيع الا القليل المعدود على اصابع اليد الواحدة، فكانت تعاني الحرمان والاهمال المقصود وغير المقصود، لظروف سياسية واجتماعية واخلاقية مرّ بها العراق، حتى لفظت انفاسها الاخيرة وغادرت الحياة بصمت، فلم يبكِ عليها فقط أصحاب الذوق السليم من الذين يعون ويدركون ما معنى الاغنية العراقية؟، وما هو سر وجودها؟ وسر محبة الناس لها؟.

وهكذا ودعنا الاغنية العراقية الاصيلة، واصبحنا نسمع اصوات نشاز، من التي تكالبت علينا من كل حدب وصوب؛ اصوات ليس لها صلة بالأغنية الجميلة المعبرة، لا من بعيد ولا من قريب، ولا تعبّر عن معاناة الفرد العراقي، وتنقل همومه للناس وللمجتمع، وقالوا لنا: هذه هي الاغنية العراقية بطابعها الجديد، وللأسف هناك اذواق مريضة اصبحت تسمع الى هذه الترهات وتطرب لها، حتى صار لها جمهور مريض فاقداً للحس المرهف الذي كان يمتلكه جمهور الخمسينيات والستينيات والسبعينيات وانتهاءً بعهد الثمانينيات، لأن معظم هؤلاء لا يمتلكون الاذن الموسيقية، ولا الثقافة الحقيقية، ولا الاحساس السليم.

 

داود السلمان

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم