صحيفة المثقف

نوتنغهام في علبة لشمانيا

قصي الشيخ عسكرتحية للدكتور صالح الذي كثيرا ما يحث ذاكرتي

 فيجعلني أخرج عن الركود إلى عالم زاه متعدد الألوان*.

1

كلّ شيء إذن كان يجري بشكل آخر ..

وفق ترتيب مختلف تماما .. لا نقص فيه ولا تحوير!

عن يمينه تقلصت غابة لأشجار الكستناء البريّ الضخمة والزيزفون إذ يمتدّ منها موقف واسع للسيارات، مرحاض لذوي الاحتياجات الخاصة وبناية ليست بذات علو تلوح عند نهاية الموقف من أقصى الجنوب.إنه الترام الذي شق نوتنغهام نصفين.فياله من زمن بعيد يعيد نفسه بوجه آخر.قيل له بعد كلّ تلك السنين إنه يستطيع أن يستقل الحافلة إلى " هايسن كرين" أو الترام الذي يتوقف في " فورست فيلد".الخارطة بين يديه ولم تكن مثلما بدت له قبل ربع قرن. نوتغهام تغيرت ولم تتغير.أصبحت أكثر حيوية وخمولا.كان يتلفت حوله فيراها تتبدل وتعود إلى صورتها .. هو أيضا قدم إليها ذات يوم يحمل حبة بغداد .. مشروع جديد ينبض بالحياة .. شهادة عليا من جامعة نوتنغهام .. حينها على الرغم من كل المنغصات لم يعترضه عائق .. لم يخف أو يفكر بالبقاء وإن مرت على الحرب أربع سنوات ولو عرف الغيب لقضى على نفسه أن يعيش سنوات ثلاثا في أتونها، ربما خالها كما يظن الآخرون لا تنتهي .. أيسمي ذلك عبثا .. أمر واقع لا يحب أن يتمرد عليه مثلما هو الحال الآن حيث وجد خطواته تسير باتجاه واحد يعرفه قبل دقائق أو سنوات .. تابع سيره وهو يهبط إلى "كريكوري بوليفارد".معالم جديدة .. أربع سنوات شدّته إلى تلك الشوارع والمحلات حتى انطبعت تماما في ذهنه إلى هذه اللحظة .. قد يتوقف الزمن وينطلق فجأة ليلتهم الدقائق والسنوات، وكان عليه ثاني يوم لوصوله بعد كل تلك السنوات أن يقصد هايسن كرين.استدار نحو شارع " رادفورد" الشارع الذي اشتغل فيه للمرة الأولى في حياته.لقد كان على حق تماما.مدينة توسعت ولا تنكر أصدقاءها القدامى .. تبدو بوجه آخر ومسحة ترتسم عليه من الجدة أخرى لكن لانشاز، وسيمشي الخطوات نفسها التي مشاها تلك الليلة.يرى محلات جديدة خمس أو أربع محلات .. حلاقة. مطاعم .. دكاكين حتى يصل مطعم البيتزا فيجد مكانه مكتبا للسفريات .. خطوط كردستان .. مطعم كردستان هي المرة الأولى التي يعمل فيها .. لاشيء هناك في العراق غير االدراسة حتى حصوله على البعثة .. والإعلان في الصحيفة التي أمامه يدعوه لعمل مساء الجمعة والسبت .. مطعم بيتزا في هايسن كرين .. يعدّ سلطة .. ينظف المحل وساعة يوزع المنشورات على البيوت القريبة.قال له أبوه أدرس .. أدرسوا .. أحصلوا على شهادات ولا تفكروا بالعمل .. أنا سأتحمل كل العبء. وهنا في نوتنغهام يقول لهم زيلهم مسؤول المنظة أدرسوا الدولة تتكفل بكل شيء، والإعلان نفسه يثير غريزته. العمل شيء جديد ليجربه .. شهر شهرين .. معنى ذلك يظلّ سرا إلا إذا كشفته المصادفة، قضية الشغل يومي العطلة ستظل خفية حتى عن عبد العال أقرب الاصدقاء إليه، فليصف الآخرين بصفاتهم الحقيقية أو المبهمة، إن عبد العال بآرائه الغريبة وفلسفته الواضحة المبهمة المتناقضة أحيان الايعدو كونه رفيق دراسة التقاه في نوتنغهام، صديقته جزائرية تدرس الطب البيطري.فلتكن قضية العمل في طين الكتمان إلا إذا ذهب ذات يوم إلى بيت وبيده رغيف بيتزا فيفاجؤه أن ساكن البيت أحدالرفاق عندئذٍ يصبح لكل حادث حديث.

وقد وجد نفسه يعبر المدرسة الباكستانية إلى الشارع الضيق فتجاوز عند التقاطع روضة الأطفال. الدروب الفرعية كما هي لم تخلع ثيابها أوتغير أسماءها .. لوحاتها القديمة احتفظت بنكهتها .. مطعم الشمس .. كان سوبر ماركت "المدينة" وحده يبيع اللحم الحلال ثم "الشمس" عليك يانادر أن تحذر حين تدس المنشورات في فتحة باب .. ربما ينهش أصابعك كلب ما .. خطا يتجول في الشوارع يلقمها المنشورات .. سمع نباح كلب وكان حذرا .. ثم تجول في فورست رود ويست ولم يعرف أن القدر وحده سيجعله يقف أمام باب يعود إليه بعد يوم .. أو ثلاثين عاما .. وعبر ممر الحديقة إلى الباب ثم دس منشورا في .. وهاهو فورست رود" يسقط بعد ربع قرن " بين قدميه .. لقد رنّ هاتف المحل عصر ذات مساء خريفي .. الشمس مازالت تهبط وعيناه تراقبان الشارع من زجاج الواجهة .. ترك السكينة وحبات البندورة والخس جانبا ثم صعد لنداء أنجم ا

العنوان قريب لا داعي لان اذهب بالسيارة وأترك الزبائن.

تطلع في الورقة فاتسعت ابسامة على شفتيه:

راد فورد .. شارع البغاء سأحث السير فأصل والبتزا ماتزال ساخنة .

طيب حثّ خطاك لئلا تبرد ولا تنس أنى تأخذ منها أربع باونات ..

حثّ خطاه ومرق ثانية من بين الشوارع الفرعية .. شارع البغاء كلمة مثيرة .. اسمه شارع البغاء هكذا سماه أنجم والآخرون، لكن لتكن أية تسمية، فالخطوات إلىدرب الحرام قصيرة، ومازالت البتزا ساخنة وقد طالعه عند الاستدارة أمام البيت امرأة في بداية العد الرابع تصرخ بوجه شاب في العشرين فر سريعا وهو يضحك:

الباون والنصف ايها المخنّث أعطها لأمّك ..

البيت نفسه السادس في جيبه العنوان ورقم التلفون لكن المرأة ظلّت تخاطبه كأنها تشبع رغبتها في الثرثرة:

ليلعق بظر أمه أقول له عشرة باونات عشرة لن تنقص بنسا يقول ممكن باوند ونصف ابن الكلبة twat أمك son of bitch

لو سمحت هذه البيتزا

التفت إلى الرزمة بيده، وقالت:

آسفة .. يبدو أنها إلى " جستينا" دلفت داخل البيت وبعد لحظات أطلت فتاة في في الخامسة والعشرين من عمرها طويلة شقراء تنضح بياضا وفتنة، تفوح من خديها رائحة عبقة، وفي شفتيها ابتسامة عذراء كل مافيها متناقض ولا تبدو عليها للزائر الغريب أية ريبةن، هي طيبة غير مفتعلة من البغايا.هكذا سمع عنهن في عالم البصرة حيث الكبت والعرف الصارم، لكنه جاء لهذا الوجه الجميل بحبة بغداد.أستاذه في قسم البايولوجي نصحه أن يختار موضوعا حيويا لم يسبقه إليه أحد، وخطر في ذهنه أن يكون موضوعه اللشمانيا، حملها من البصرة وجاء يطاردها في مختبر جامعة نوتنغهام.يا ترى أين يضعها في خد جوستينا اليمين ام الخد الآخر قرب الانف أم أبعد.مازال مفتونا بوجهها مبحرا لحظات في عينيها وهي تمد يدها إليه بالنقود:

شكرا لك

العمل والجنس محظوران عليه سنوات طويلة.أحدهما انهار أمام الإعلان والبخشيش، ثلاثة باونات ونصف. خمسون بنسا بخشيشا، وقد اعتاد أنجم أن يوصل الطلبات البعيدة بالسيارة ويتركه يوصل الرزمات القريبة من بيتزا وشاورما، فيألف شوارع هلدئة واخرى صاخبة، وفي باله خاطر أن يمتنع أحدهم من أن يدفع له فضلا أن يعتدي عليه كل شيء محتمل .. وهاهو يقبض أول مكافأة له من بغي قبل أن يستلم أجر اليوم من صاحب المحل ولن يخبره عن الخمسين بنسا .. عالم جديد .. حياته توزعت بين الدراسة واللعب .. الابتدائية والثانوية ثم الجامعة.يأخذ أجره من والده كل تلك السنين. فأي شيء تغير سوى أن أول مكافأة حطت على راحة يده من مكان مشبوه، وكأنه في شك مما يرى:

ياسيدتي ثلاثة جنهيات ..

لم يشغله كثيرا نصف الجنيه بل كان يتحسس جيبه ليتأكد من العنوان ورقم الهاتف!

2

وصل السكن المشترك الساعة وقد جاوزت منتصف الليل، في جيبه بضعة جنيهات ونصف .. وسوف ينعم بنوم هاديء ليستفيق متأخرا يوم الاحد فيجد شريكيه يملآن الشقة مع صديقتيهما حركة وحيوية.فريدريش ذوالأصول الالمانية الذي يحمل الجنسية البريطانية لا يثير استغرافه منذ أن ضمهم السكن في هذه الشقة وهو يلازم صديقة واحدة لا يغيرها وربما لا يفكر أن يستبدلها على الاقل في السنوات القادمة. تيموثي ويناديه الآخرون تيم أمريكي مغامر من نوع آخر .. لا يستدعي إلا صغيرات السنّ .. تجده اليوم مع قاصر وبعد شهر أو اسبوع تزوره صبية اخرى .. وفي أحدالأيام سخر منه قال له ساخرا وهو يفتح فمه بشكل غريب لينطق اسمه يا "نادر " لا تتحرش باية صديقة من صديقاتي .. لا تمارس مع أية منهن الجنس فهن قاصرات عندئذٍ يطالك القانون، ومن حقه أن يسخر، هذا العاهر خفيف الظل ..

ستة أشهر مرت ولا امرأة تغزو فراشه!

يتردد، مازال العيب يغزورأسه.هل ينظرإلى الأرض كالمنكسر إذا مشي، هكذا علموه، في جيبه نصف جنيه، واجرة يوم، هذا في عالم الحصار الطويل العريض. يعني راتب أستاذ في الجامعة بعرضه وطوله. دكتوراه بايولوجي، في جيبه آلاف الدنانير لتي تعادل دولارا، نصف جنيه، فلا غرابة أن يسعى أيضا إلى راتب جندي مكلف خريج يمكن أن يختصر بثلاثة حروف: ج م خ خريج أو خراء، لافرق .. يجد نفسه يقبل شأنه شأن الأساتذة المحاصرين كيلو لحم .. كيلوي خضار دجاجة لايهم .. سيبعثها إلى بيت أخته مقابل تعديل في العلامات وذات يوم وجد نفسه في نوتنغهام أمام الدجاج مباشرة، ركب الحافلة خلال جولة بحث متوجها إلى "الكامبوس" أقفاص دجاج تمتد أمامه، دجاج وأرانب وحيوانات وطيور، موضوع آخر غير اللشمانيا لكن لابدمنه، قال له مدير المخزن إن التجارب انتهت وبدلا من أن نقتل الدجاج والطيور يمكن أن نبيعها للطلاب القفص يباع بباوند سعر رمزي، طلاب خليجيون اشتروا.سيذبحونه .. طعام حلال، فكر في أن يبتاع أكثر من قفص فيبيعه بسعر أعلى إلى أنجم عندئذ قرف حين تخيل نفسه يأكل دجاج تجارب، وقرف أن يأكله الآخرون عن طريقه.اطلاع فقط على تجارب لاتخص موضوعه قرف منها ولم يقرف من تجربة أحضر بعض أدواتها معه.للمرة الأولى يدفعه القرف إلى التنازل عن نقود، فما الذي جاء به من بريطانيا إلى العراق ثانية؟ولم يكد يستديرعن الأقفاص حتى طالعه وجه صديقه طالب الهندسة عبد العال.كانا في الاجتماع الحزبي الشهري، وقد استغرب من سلوك رفيقه، كان مندفعا لان يتطوع في العطلة .. الذهاب إلى الجبهة .. القتال في حر تموز، وصديقته طالبة الطب الجزائرية تعارضه تحثه على الا يتسرع تقول العراق هو الذي كان سبب الحرب، يوافقها لكنه يرى أن الحرب واجب، معادلة صعبة، كل طالب بعثة يذهب في العطلة الصيفية يمكن أن يقضي شهرا في الحرب.يذهب ويرجع يتابع دراسته، نحن لانجبر رفيقا، وأيّ معتوه هذا يسافر إلى البصرة في شهر تموز، وقتهاالبلد لا يطاق فكيف بالصيف والحرب، وموعد الحرب الثانية والحصار الفتاك لم يحن بعد:

رائع أن أراك هنا وأنت المهندس في كامبوس الطيور والدواجن! !

حميدة ستأتي بعد دقائق! أخبرتني عن دجاج التجارب

ذهنه شغول بجوستينا يتردد .. يخجل أن يذهب إلى البوب والمراقص .. يسكر .. يرقص ثم يقول لمن راقصه هل نذهب معا .. عمل سهل وصعب، لو حاز على البعثة بعد الثانوية لفعلها وفي السينمات والمسارح تبدو القضية اصعب يقول:

أنا على وشك أن ابدأ سيصبح لي صديقة!

أخيرا انحلت العقدة!

وعلى بعد خطوات تقدم حميدة تتهادى مثل اوزة رشيقة بمريلته االبيضاء وقامتها المربوعة مد يدها تصافحه:

مرحبا بك

مرحبا بك ويواصل: اخبريني أنا بايولوجي وأنت بيطرية فماذا يفعل هنا المهندسون!

ياسيدي أنا أخبرته عن دجاج التجارب!"وأردفت"مازال لدينانصف ساعة ألا ترغبان أن نجلس في الكافتريا"

وحين اجتمعوا حول الطاولة وقبل أن يبدؤوا باحتساء القهوة غمز عبد العال حميدة بطرف عينه قائلا:

خبر جديد ياعزيزتي نادر وجد صديقة!

فتدارك الموقف:

تقريبا!

دفعها الفضول: عراقية أم عربية؟

يمكن أن تقولي إنكليزية قح!

فنظرت إليه بدهشة وقالت وهي تخفي بعض الامتعاض:

يعني نصرانية

كان يحلم أراد أن يقول ربما أخفق في محاولتي .. مجرد فكرة راودته.لديه إحساس أنه ينجح فتعجل بالتلميح .. بدت له حميدة مخلوقا غريبا .. جميلة لكنها أشبه بخرافة متناقضة .. ابنة مجاهد تدرس في الغرب وتكرهه .. والدها ساهم في حرب التحرير .. ثم عين ملحقا لسفارة بلده في لندن .. تزور عبد العال وتخلو به .. تكنك سيكس .. كل شيء مباح ماعدا البكارة لكنها تكره جميلة بوحيرد التي تزوجتمن محاميها النصراني:

قلت المشروع في بدايته:

يتدارك عبد العال الموقف:

على أية حال مادمنا مبتعثين فلا يحق لنا الزواج من أجنبيات!

عندئذ اشارب عقرب ساعة الحائط في الكافتريا إلى الحادية عشرة، فغادر الثلاثة إلى معرض الكامبوس حيث كان المكان يعبق برائحة الدجاج والطيور والحيوانات.

3

ماذا تقول؟

يسأله الرفيق مسؤول المنظمة في الجامعة وقد انفرد به في عزلة منالطلبةنهاية الاجتماع:

سيدي حالما أنهي دراستي سأذهب .. اتوجه مباشرة إلى ساحة المعركة آمل أن تنتهي الحرب وآمل ألا تكون انتهت كي أشترك فيها لكن الموضوع الذي أنا بصدد الإعداد له جديد ويتطلب جهدا مضاعفا؟

طبعا تعرفون أننا لن نجبر أحدا من ناحيتنا ندرك جيدا ظروف بحوثكم

ثم السيد المسؤول مجرى الحديث:

هل تعتقد أنك تتوصل إلى علاج ناجع للمرض!

سأحاول ممكن لِمَ لا؟!

كان كل شيء واضحا، مازالوا لا يضغطون على طلاب البعثات، قيل العراق بدأ يتفوق غير أن من يسافر يلتحق بالجبهة فترة ما ويعود.لا يخشى الحرب سوى أنه لا يستطيع أن يوزع نفسه في جبهتين، لتضرب الحرب رأسها بالحائط، إن انتهت انتهت وإلا سيذهب برجله لها .. الآن في هذه الساعات يجلس أمام جهاز الفحص يراقب اللشمانيا.يدخل عليها في خندقها.مثلما تترك الحرب علاماتها على الأجساد والنفوس يفعل المخلوق الخفي بالوجوه .. أما عبد العال فقد ذهب أكثر من مرة سافر خلال عطلة الصيف.توزعته الحرب نصفين شهرا مع أهله وشهرا مع الموت.كل ذلك جرى على الرغم من أنف حميدة التي عجزتعن إقناعه على الرغم من تعلقه بها.تساءل وهو يترك المجهر جانبا فتغيب عن عينيه الفطريات المخفية، ما الذي يدفع شابا من أسرة غنية غير مقتنع بالحرب أساسا إلى الذهاب هناك.الجنون.حب الانتقام والقتل؟إثبات وجود؟لا يشك في سلوكه ولا يظنه يلتقط الكلمات ليتقرب بها لمسؤولين، وفي غمرة الأسئلة والشكوك والحيرة فالتي ظلت تلاحقه في العمل غير المعلن عنه يسأله أنجم وهو يمزج البندورة بالخس والخيار:

ماذا لو ذهب وفد من المسلمين إلى الخميني للوساطة؟

يذهله مايسمعه من الآخرين ما الذي يجري في عقولهم، يذهب يأتي .. حرب أشبه بخليط السلطة .. يتصورونها مطارددة بين عشيرتين حرب البسوس تظل تطول إلى نصف قرن .. ليست هناك من حرب تستاثر بالاهتمام مثلها .. أنجم المولود في بريطانيا الذي يتحدث الإنكليزية بلكنة غريبة يتصور الحرب قرارات عشائر، إنها دول مجلس أمن، السياسة والدين، وليس مصادفة أن يثور الخميني عام 1979 ثم يحصل على بعثة بداية عام 1981 قبل الحرب بشهور، ليبق الوضع كما هو عليه وفي كل مرة يجد عبد العال العائد من رحلة الصيف إلى الشتاء يحدثه عن مشاهد عجيبة غريبة يكاد العالم ينسى لها كل شيء .. الإنكليز أنفسهم نسوا حرب الفوكلاند، وعبد العال يقهقه ويقول تلك ليست بحرب بريطانييا خسرت مدمرة قديمة وفرقاطة .. ألف جندي أسير .. إنه يريد أن ينسى، وسيأتي يوم يقدر على أن يجلب إلى شقة الطلبة امرأة ما فيتحرر من عقدة المرأة التي عاش محروما من لذة جسدها إلى هذه الساعة.: آلو؟

قرأت إعلانكم عن الحاجة إلى عامل مساء الجمعة والسبت في مطعم أنا طالب دراسات عليا أستطيع التفرغ في هذا الوقت.

مائتان وثلاثون جنيها راتب البعثة .. التفرغ للعمل خلال عطلة نهاية الأسبوع سيعيقه عن لقاء عبد العال وصديقته الجزائرية، مع ذلك ستبقى لديه فسحة من الوقت .. أربعون إيجار السكن، ست ساعات بست جنيهات سيوفر إيجار الشقة، يستطيع أن يشتري بالفائض بعض لوازم لمختبر يحلم به فلتذهب عشرة جنيهات إلى جيب " جستينا" تلك التي سمع اسمها قبل أن يراها، يستطيع أن يهبط إلى الطابق السفلي، الساعة الآن قاربت الحادية عشرة، قد غادر تيموثي، وفريدريك مع صديقته، ولا يريد ان يأكله الفراغ .. لا بد أن تكون استيقظت الآن:

ممكن أتكلم مع جستينا!

دقيقة من فضلك.

امرأة اخرى تجيب .. يظل لحظات ينتظر، يأمل أن تكون في الدار:

نعم من؟

أنا رجل البيتزا، هل يعجبك أن تتناولي الطعام معي:

سأغادر اليوم البيت يمكنك أن تأتي مساء الإثنين.

فوضع سماعة الهاتف غير أنه وجد فراغا هائلا ينتظره حتى يحين موعد اللقاء.

3

في صباح اليوم ذاته شغله حديث الأستاذ وطريقة البحث ثم وجد نفسه في المختبر، تشتت ذهنه بعض الوقت وعاد ثانية إلى حديث اللشمانيا.هاهو يباشر الذباب من وراء حاجز .. المختبر والجراثيم، حين يعود إلى العراق يفتح مخبرا للتحاليل يأوي إليه بعد دوام الجامعة .. مورد آخر ورزق مضاف .. فكره لا بأس بها.في هذه الدقائق الطرية يمتد أمام عينيه مخبر الجامعة.الأنبوبة أمامه والسائل الوسطي.طلاب آخرون يجربون في مختبرات أخرى، وطالبات يرحن ويجئن، بعضهن يحملن كتبا وأخريات أنابيب شفافة.جاء إلى هنا بطفيلي اللشمانيا، وفي باله حسابات أخرى تخصّ العالم:اللشمانيا تغزو الصحراء .. حوض البحر المتوسط .. استراليا .. شرق آسيا .. العدوّ اللدود للوجوه والجلود محشور في علبة أمامه .. لا أحد سبقه في أن يعترض هذا العدو القبيح فيحشره في علبة صغيرة ثم ينقله عبر مسافات طويلة .. حسنا لكن الذهن وإن تجمَّع في لحظة سطوع فلابدَّ له من أن يجمح.قالت دلال مارأيكم في الدكتور ناصر .. متكبر .. متعجرف .. العلامات يقطرها تقطيرا .. سأذلّه أمامكم .. لم يصدقوا .. قالوا تبالغ، سألتهم إن كانوا يرغبون بإذلاله فليتركوهما وحدهما .. طلبت منه بكلِّ أدب أن يشرح لها تجربة عجزت عن فهمها وهناك في المختبراستغلت الفرصة صفعته فجأة وصرخت .. راحت تبكي، أستاذ ناصر المتعجرف يقف مذهولا .. ولكي لا تنكسر هيبة الجامعة والأستاذ الذي أصبح منذ تلك اللحظة ذليلا لايرفع عينيه عن الأرض نقلوه إلى الموصل .. ضحك من كلِّ شئ .. نفسه والجامعة .. والأستاذ .. تذكر دعوته للبغي.يسخر من الحادث كلما دخل مختبرا .. وتحاشى ألا ينفرد مع زميلة له، تخيل أن يلتقي الدكتور ناصر بدلال في إحدى المطارات بعد ثلاثين عاما هو أصلع وهي بدينة تسحل حقيبتها جسد مترهل وتجاعيد.هل يعرف أحدهما الآخر .. تندر الطلاب وارتحاحوا حين انزاح عن صدورهم هم ثقيل .. أستاذ متعجرف .. ارتاح مثلهم ولم يقرن سلوك دلال بسلوك واحد مثل جينيسيتا من قبل .. لكنه في هذه الساعة والأنبوبة بيده يضحك ويتذكر البغايا وصداقة يسعى إليها ..

خاطر جديد تسرع ولمح عنه لصديق فانقله بدورهإلى صديقته الجزائرية!

يا ترى هل تنكشف لهم الحجب في المستقبل؟

- حسنا هذا كتاب من جامعة البصرة إلى كلية الطب نطلب منهم أن يوفروا لك طفيلي اللشمانيا وعليك أن تحسب حساب الوقت.

- شكرا لك دكتور.

يتحرك بخفة، يدخل كلية الطب، يناور من مكتب إلى آخر.يقابل طبيبا، وينصرف إلى حاوية، بضعة أيام من الركض في مؤسسة كلية الطب أخيرا يتنفس الصعداء.هاهي اللشمانيا في صندوق جاجي يحميها مثل جنرال داخل قفص زجاجيّ لايخترقه الرصاص!

وقبل السفر ببضع ساعات كان يحمل ذلك العالم الخفيّ الذي يفتك بالوجوه!

الطيران ثلاث ساعات، والعينة في يده .. يمكنها أن تظل كما هي لأربع وعشرين ساعة .. حساب الزمن أقل أو أكثر لايهم بل الأهم أن تصل سليمة إلى الجامعة، ومن حسن الحظ لم يكن في ذلك الوقت على الرغم من خطف الطائرات والعصابات وحوادث المطارات أيّ حضر على مادة في زجاجة تثير الريبة.كانت الزجاجة في نظره تعادل شهادة الدكتوراه، يا دكتور " نادر " الآن تغير الوضع كنا في حصار.بدأت الجامعة تنفتح على جامعات العالم .. انتهى كل شيء والجامعة التي درس فيها رشحته للسفر خلال عطلة الصيف كي يواصل بحوثه في الجامعة التي تخرج فيها. بعد فراق طويل ثلاثة عقود يرجع إلى نوتنغهام بجرثومة اللشمانيا.جنرال مخفيّ في صندوق مضاد للرصاص!رائع جدا ان تكون كذلك وفي جعبتك الكثير.مختبره في شارع " الجزائر " ينقصه الكثير، وشهد الكثير .. مصابون بالسفلس .. جراثيم كلاميديا .. مثل شقته تماما .. هذه العينة التي جلبها من العراق، توحي له بالكثير وتخفي عنه حوادث تجري لا مفر منها، أربع درجات تحت الصفر حينئذٍ عليك أن توازن بين ساعات سفرتك بين مطار بغداد والبصرة ثم لندن ونوتنغهام.

كان يبتسم.

يتذكر ويعبث قليلا بالزمن.

ترآى له أنبمقدوره أن يفعل أيّ شئ يشاء.

لو كانت هذه العينة في يده بعد ثلاثين عاما.سيصبح بلاشك محط الأنظار.ستتحوّل إلى جرثومة خبيثة تغزو أوروبا والعالم.إنه زمن داعش وقطع الرؤوس.ترك الانفجارات خلفه وجاء يعايش الفطريات والفايروسات.يلاحق عالم الخفاء الذي ابتدأ به قبل ثلاثة عقود .. ستأتيه نساء متزوجات أصبن بالسيلان، وأخريات يعانين من كلاميديا، عدوى زوجات من أزواج، وآخرين من شريكاتهم.أسرار لايبوح بها ولا تردد صداها جدران مكتبه.ظل يراقب البكتريا والفايروسات بصمت .. حذر كما لو يجلس في خندق يتابع جنودا أعداء يتسللون لقتله أو قتل آخرين، لكن "جوستينا" طاهرة من أي مكروب.

لا تخف .. هنا الصنف المعني يخضع لفحوصات دائمة وأنت على الرغم من عبثك لا تجرؤ على أن تقتحم عوالم المراقص وتختار منها صديقة أو تتحرك في وسطك الجامعي فلا تخلق لنفسك خيبة أمل.

أليس هو الخجل؟

في تمام الساعة الخامسة نهض من أمام المجهر .. أعاد العينة إلى المبردة، وقصد غرفته يستريح قليلا .. أخذته غفوة ثم استيقظ .. كان يتهيَّأ للمغادرة حين سمع ضحكات تصدر من غرفة تيموثي .. ادرك أنها فتاة جديدة، قاصر أيضا .. وكان بعد دقائق في المطعم .. وجد العامل الآخر مشغولا في القبو، وقال أنجم:

- هل سمعت بالحرب؟

- ماذا؟بين لبنان وإسرائيل؟

- العراق اجتاح إيران؟وعقّب وهو يهز رأسه ويلمس صدغه بطرف إبهامه: والله المسلمون مجانين

في هذه اللحظة قفزت البصرة إلى ذهنه طول الطريق من المطعم إلى بيت البغاء.ترى متى تنتهي الحرب؟يقول أنجم بدأت الصباح وقتها كان مشغولا بالمختبر والاستاذ. أجواء الجامعة تعبق من حوله، فهناك في هذه الآلات الصامتة الناطقة يحتجز هو والآخرون مخلوقات صغيرة لا أحد يراها لو فلتت لفتكت بالعالم كله.كائنات مخاتلة تتغير وتتلون كل يوم وكل عام لتنجو من قدرها مع ذلك لا يقدر للعالم أن يستغني عنها.وعن بعد اندلعت حرب كلّ مايعرفه من أنجم أن العراق دخل الحدود الإيرانية لكنّ البصرة في ذهنه لمّا تزل واعية بصورتها الأولى التي تركها عليها.شط العرب في مكانه، والعشار .. الزبير .. أبو الخصيب .. الخطر مايزال بعيدا ولا يظن أن الحرب تطول .. تستهلك يومين .. ثلاثة اسبوعين وإن بالغنا شهرا ثم يعود كلّ شيء إلى مكانه ..

صباح الغد يتصل بمسؤول التنظيم.سؤال مجاملة يدفعه إليه كونه طالب بعثة لا أكثر أو لينتظر أسبوعا حتى يحين موعد الاجتماع، لكنه يأمل ألا تطول الحرب التي هو بعيد عنها.

كان تستقبله بابتسامة واسعة، بكامل أناقتها.وتستلم منه البتزا والشاورما.تسريحة تأخذ شعرها الذهبي إلى علو وتهبط به نحو اللصدغين.اجتازت به الباحة العريضة التي تبين وسطها مقاعد فخمة تحيط بطاولة شفافة من زجاج وعلى يمين الصالة شخصت بعض سنادين الورد وشجرة لماعة طويلة يكاد رأس جذعها النحيف يلامس السقف.خمس غرف، ابتسامة تقابله من فتاةٍ عبرت الدهليز نحو الباب الخلفي .. اقتادته إلى غرفتها، فالتقط أنفاسه كأنه قادم من زمن بعيد!

تركت الباب مفتوحا، فتهادت إلى سمعه ضحكة ناعمة، خطر يجتاز الممر باتجاه الحديقة كهل في الخمسين، وخيّل إليه أنه رآى من فتحة الباب امرأة في الثلاثين من عمرها إلى دورة المياه، ثم عاد بحواسه إلى غرفتها.الباب المفتوح شغله بعض الشيء .. كان لون الجدران التركوازيّ يثير بعض اهتمامه، جدران ذو نكهة خاصة .. يطوقها من الجهات الأربع خصر خشبي ورفّ زينته أوعية صغيرة بدت بملامح رومانية أو يونانية قديمة، وثمة ثلاجة صغيرة ومغسلة ومنضدة وضعت عليها لفة الطعام:

- ما اسمك قالت ؟

سألته وهي تأخذ مكانها على االأريكة المقابلة، فبدت له بشكل آخر غير الذي رآها عليه أول مرة.

- نادر

نمت ابتسامتهاعن أسنان بيضاء ناعمة متراصة ذات بريق وسأته باهتمام:

- Nadiir "لحظة صمت "أنت لاجيء؟

- أنا طالب بعثة.

وسكت .. .قيل له إلإنكليز يجيدون فن الإصغاء فيجيب بقدر ما يسأل عنه، وإلا لظلت تنصت إليه مادام يتكلم، فقالت وقد ارتسمت علامات الدهشة على وجهها:

- من أي بلد أنت!

العراق!

- قطبت حاجبيها:

- عندكم حرب الآن؟

-لم أسمع بها إلا قبل قليل.

- آمل أن تنتهي قريبا.

ربما يبدو اللقاء في بدايته باردا .. اسمه .. ذكر الحرب، يزيده برودا مدفأة في زاوية الغرفة مازالت مهملة مادم الطقس معتدلا .. وزاد من شعوره بالبرودة باب الغرفة الذي بقي شقه مفتوحا، فتتسلل إلى عينه من خلل ضوء الصالة الشاحب حركة ما، أو حفيف، وقد تتهادى إلى أذنيه ضحكة خافتة من غرفة ذات باب مغلق.

انتشله من تشتته المفرط صوتها ثانية:

- ماذا تدرس؟

سؤال، ونظرة طردت الضجر .. تريد أن تسمع أكثر مما تتحدث، وقد تاه تماما عمّا سعى إليه.تجتاح جسده برودة.يودّ لو يتعرق فيطرد عن أطرافه صقيع لا يعلم من أين انبثق : كتفيه أم خاصرته .. في مثل هذه الظروف لا يستطيع أن يفعل أي شيء، على الأقل الباب مفتوح .. يشعر أن هناك من يعرف حين يغلق الباب أنه يضاجع امرأة .. ولا أحد يعرف أنها المرة الأولى في حياته .. خيال الآخرين رقيب نصفه يدري والنصف الآخر يجهل، وفي هذه الليلة يدرك وفق العرق الذي لفظه جسده أنه عاجز، وسيظل العجز يلاحقه مادام في غرفتها.

هذه الساعةلن يفعل شيئا ..

متأكد من عجزه تماما.

- أحضر الدكتوراه في اللشمانيا!

حدقت إليه باستغراب .. دهشة .. احترام .. تعفف .. أية كلمة لا يهم، وبخاطر سريع أسرع من أية ساعة وشهر أو قرون .. رآى حبة صغيرة .. قرصا ينطبع على صفحة خدها اليمنى .. سيكون وجهها أجمل وأكثر جاذبية لو رافقته حبّة بغداد .. ليجرب قليلا ..

- بديع "وبنبرة دافئة":you are clever

إنها لا تجامل، وهو حقّا لو لم يكن كذلك لم يحقق المركز الأول في الكلية، تفوق جعله على رأس المقبولين في بعثات إلى جامعات بريطانيا ورغم ذلك لم يعترض على سلوك دلال حين استدرجت أستاذهم القدير الجاف المتعجرف إلى غرفة المختبر ثم وجهت إليه صفعة رنّت لها جدران الكلّيّة.كان لا يخشى من تزمت أي أستاذ ولا تستعصي عليه مسائل الامتحانات.ذكي حقا إلى درجة الاستهانة وعم المبالاة.لا يهمه غيره ولا ينحاز إلى أية جهة سواء مع الحق أم الباطل لكن أي لقاء هذا يبدأ بحرب وينتهي بلشمانيا.

هل يحرك الجمر من تحت الرماد والباب مازال يفتح شدقه نحو نور الصالة الخافت وأكثر من حركة تتراوح بين الغرف والمدخل الرئيس فتزيده برودا:

- شكرا لك كنت منذ الطفولة أحتل المركز الأول في المدرسة!

وسكت ليعبر ضبابا أنزاح عن عينيه في الصف الرابع الابتدائي .. يجد علي زعلان احتل المركز الأول وانتقل هو إلى المركز الاول مكرر، ومن حسن حظه أنها المرة الأولى إذ أن علي زعلان منافسه الصلب انتقل بحكم وظيفة الأب إلى مدينة أخرى فلم يطل حقده على زميل الطفولة أما الحادث فبقي يحزّ في نفسه مثل علامة سوداء أو خال بحجم حبة القهوة على خد ناصع البياض:

تصوري هناك وجوه كثيرة تشوَّهت بهذا الداء كم أكون سعيدا لو عثرت على سرّ ذلك الطفيلي!

I hope you will do

مع ذلك راودته ثانية اللمحة الأولى التي جعلته يشتهي أن تكون هناك حبة صغيرة أصغر قليلا من حبة الحمص على إحدى صفحتي خديها فتزيدها إشراقا وربما ستظل تراوده في لقاآت يودّ أن تتم :

- آمل أن أصل إلى حل ما!

وغيّرت الحديث:

- هل تحب أن تشرب شيئا.

- أي شيء لو سمحت!

من رفّ قريب انتشلت زجاجة ذات سائل أحمر عندئذ عرف أن اللقاء يمكن أن يمر من دون أن تقع أية مفاجأة.ودّ أن يظل الباب مفنوحا ليبحث عن لقاء آخر فيتخيل وجهها بحبة بغداد أو ليكن بعلامة أخرى ok mother mark .. لن يزحف إلى سريرها فيحتوي بين ذراعيه جسدها البض.مومس مشرقة الجسد والوجه.مازالت في أوائل العشرينيات هل يُعقل في عالم آخر غير اللشمانيا أنه يزل لم يقترب من امرأة.طالبات القسم معه في الجامعة بضات .. جميلات. بعضهن يرتدين المنيجيب .. والأخريات يمشين بإثارة .. لمن كل ذلك .. أما أعصابه في هذه اللحظة فقد ظلت بليدة .. باردة .. المرة الأولى لتي يلتقي فيها امراة فلا يرغب أن يعرف الأمر أحد .. سيان سواء اغلق الباب شدقه أم ظل يطل على الصالة.

لن يحدث شيء تلك اللحظة قط!

- أظنك جائعة فالطعام مازال ساخنا!

خلال دقائق رتبت المنضدة فملأت الغرفة رائحة الخيار المخلل والخبز، والشاورما، تجاهل تماما رغبةً في احتوائها.أجّل كلّ شيء إلى لقاء آخر، فرفعت كأسها نخبه، ردّ عليها بكأسه وهو يقول:هل ترغبين أن تزوريني في بيت الطلبة؟

- لِم لا "أضافت بهزة من رأسها" يمكن أن تتصل بي بعد يومين حين أعود مساء من ليستر!

4

فرح آخر ينتظره ..

كان لابدّ للصباح أن ينتهي بين لقاء الأستاذ المشرف ومتابعة جرثومة تتحرك وتتمدد، لساعات بقي يضع الذرة الدقيقة تحت المجهر فيتابع خطواتها وامتداداتها اللانهائية .. عالم لا ينتهي نحاول بكل معداتنا الحديثة واختراعاتنا أن نقضي عليه .. أنا متأكد من نجاحي في محاربة جرثومة الخفاء .. ألم يندحر السلّ من قبل، حدث نفسه قبل أن يدخل بعد ظهر اليوم إلى قاعة اجتماع في الكلية استأجرها ذلك اليوم طالب التاريخ مسؤل المنظمة، اجتماع استثنائيّ عن الحرب، تقاطر إلى القاعة طلاب من خريجي الثانوية وبعض طلبة الدراسات العليا.كانوا بحدود عشرين طالبا:

- لا بدّ من هذا الاجتماع الاستثنائيّ الذي سبق اللقاء الشهري

قال المسؤول وعدَّل جلسته .. حاول أن يتحرر قليلا من آثار المختبر، ويؤجل نشوته بلقاء الليلة.لا يدري أو يدري ولا يعرف لِمَ يحارب اللشمانيا في الوقت نفسه يود حبة صغيرة منها على بعض الوجوه.عند السادسة ستأتي من لستر، ولعل الآخرين مثله، يفكرون بأمور أخرى، تافهة أومهمة: صديقات، بحوث، تسوّق، زيارة الأهل، وسواء حضر أم لم لا فلن يغير ذلك من طبيعة الاجتماع، يستطيع أن يتجاهل .. كان يفتخر أنه احتل المرتبة الأولى في الكلية ولولا شرط الانتساب لجرت الامور على خير مايرام .. لابد من أن ينتمي وإلا يفقد امتيازه .. بعثة يستحقها ومظروف شهريّ ب 280 جنيها من السفارة .. وكلّ ماجرى أو يجري من أجل جرثومة تنقلها ذبابة .. شدَّ الانتباه المسؤول مرة أخرى:

- زملاء كلنا قبل أن نأتي إلى هنا سمعنا برسالة الخميني الى الرئيس البكر كانت شاذة في الأعراف الدبلوماسية إنَّهم يريدون أن يصدروا ثورتهم وكان علينا أن ندخل المحمرة لنحمي أنفسنا!

تدخل أحد الطلاب بلهجة تودد:

- هل يتطلب الأمر أن نتطوع ؟

ابتسم المسؤول وتأمل قليلا بقسمات مرحة:

- لا أظن الآن سوف تنتهي الحرب خلال أسبوع أو على أكثر تقدير شهر!

وتدخل أحد الطلاب القادمين من المرحلة الثانوية متحمسا:

- لكن هل نعيد لهم المحمرة إذا توقفت الحرب؟

نفى المسؤول بهزة قلقة من رأسه:

- جيشنا اندفع داخل بعض الأراضي مسافة خمسين كيلو مترا المحمرة ستصبح محافظة عراقية .. إيران انهارت.تماما ..

والحرب لن تطول.

ولفت عبد العال نظر نادر وهو يندفع متحمسا:

- يمكن أن تسجل اسمي أيها الرفيق!

تذكّر أنّه نسي أن يهرع إلى التلفون في اليوم الأول لسماعه اندلاع الحرب فيطمئن على أهله.ظن ماحدث مجرد مناوشات أراد أن ينساها مثلما نسي أمورا كثيرة من قبل. واثق إلى أنها سحابة عابرة والبصرة بخير، لعبة لن تطول.إيران في ثورة وفوضى ولابدّ من أن توقف الحرب ثم تحول إلى اقرب كابينة هاتف .. في البدء ظنّ عبد العال غير جاد، فالحرب ستنتهي قبل أن تأتي العطلة وموعد زيارة الأهل، حسب أن المكالمة الخارجية مكلفة فوضع في باله بضع دقائق .. تحدث مع أمه فارتاح إلى أن الحرب مازالت بعيدة عن الحدود وكلّ شيء يسير على مايرام، وأن أهل الخير سوف يتوصلون إلى وساطة ما بين العراق وإيران!

حديث بارد عن حرب ساخنة يلهج بهاالعالم!

غير أننا في رهان مع الزمن، والحرب مثل الليل تطول وتقصر لا كما يعجبنا نحن، النشوة راحت تتابعه بعد الاجتماع، ومكالمة الهاتف .. أمامه وقت طويل لمغامرة جديدة.أما كان بإمكانه أن يتصرف مع الأخريات هنا في بريطانيا أورمن قبل في البصرة مثلما فعل مع جوستينا.اكتشف قوته متأخرا .. سخر من نفسه لاكتشافه المتأخر .. يحاول أن يعرف سرّ كائنات خفية ظنها أجداده جِنّا.في آخر لحظة أدرك نفسه .. خشي من برود يلاحقه .. خامره يأس ولم تتركه النشوة.وقبل الساعة السادسة طرد كل الأفكار الجامحة من رأسه، ذهب إلى مجمع "مدينة "حيث الذبح الحلال فابتاع لحما وخضارا وفاكهة.تحاشى أن يمرّ على مطعم" الفردوس " حيث يعمل فقد يفعلها أنجم ويعتذر عن قبول أي مبلغ مقابل ما يأخذه من طعام جاهز .. وتحوّل إلى " أزدا" كان يبحث عن نبيذ غال .. ثم عاد إلى بيت الطلبة .. كم ودّ أن يكون فردريك أو تيموثي عندما تأتي حاضرين، سيشعر بزهو عظيم .. مفاجأة .. لا يشكّ أن الأمور تجري على مايرام، تؤكّد ظنونه رائحة الطعام وجوّ المطبخ العبق برائحة الكاري والفلفل .. والطرشي المخلل.الطبخة الوحيدة التي يعشقها "رأس العصفور" وبهارات جلبها من "سوق المغايز" تكفيه سنتيين.

هذه الليلة تختلف تماما!

ترى هل تخونه جرأته مثلما شعر بها تفلت منه يوم المصراع المفتوح!

كل ّ شيء بأوانه لكن أين فرديردك وتيموثي .. لا بدّ أنهما يأتيان .. يريدهما أن يقبلا قبل أن تغادر .. مثلهما لديه فتاة وخمر ثمّ لاحرب ولا ليشمانيا .. الجنود في أماكنهم على الحدود يتقاتلون وحين يتعبون تنتهي الحرب.واللشمانيا قابعة هذه الساعة ي صندوق يحميها.كلّ شيء يتلاشى من الذاكرة .. يختفي مثل سحر لطيف .. والهاجس الوحيد الذي يخامره ألا يراوده عجز ..

خيبة أمل ..

هو الجسد الأول الذي يكشف أسراره، ويدرك معانيه، ويثبت قوته، وقطعت عليه تأملاته وهو مستلق على السرير في غرفته نغمة الجرس .. نغمة تكاد تكون غير غريبة هذه المرّة.كانت تحمل باقة من ورود زاهية الألوان، خلعت معطفها وارتمت في الصالة على مقعد يقابل باب الشقة، وهي تقول:

_ إنّه مكان جميل!

- شكرا على الورود الجميلة!

- dont mention

قالت ذلك وهي تتطلع في لوحة لمجموعة خيول شخصت بين الجدار الخلفي وإحدى الغرف، فسبقها يدخل في التفاصيل:

- هذه اللوحة جلبها فردريك زميلي في السك.ياسيدتي نحن هنا ثلاثة طلبة في هذه الشقة، تيموثي أمريكي يدرس الاقتصاد عبثي، لا يصادق إلا القاصرات، وفيريدريك يدرس الرياضيات وله صديقة، إنسان مركب من جذور ألمانية!

فتساءلت ببراءة فتاة صغيرة:

- مرتاح هنا في السكن معهم؟

- نحن نلتقي مصادفة، وغالبا ماتكون لقآتنا في المطبخ أيام عطل الأسبوع والعطل العامة، تدور بيننا أحاديث عابرة ومجاملات لابدّ منها!

وماكاد الوقت يمضي في تناول الطعام والحديث العابر حتى خشي أن تتخلى عنه همّته، يتكرر ماراوده من عجز ليلة زارها في بيت الدعارة، زاده قلقا أن رفيقيه مازالا غائبين وإلا لشعر ببعض الزهو صائحا من أعماقه: أنا مثلكما .. يسميها ليلة الزهو .. مراسم الفحولة .. بعد أكثر من عقدين من الجفاف والظمأ معي امرأة .. تأخذ نقودا لايهم .. الدنيا الآن انقلبت إلى عملة.مال كان غافلا عنه سنين طويلة .. حوالة ترسلها السفارة العراقية كلّ شهر مرة .. أنا غامرت فاشتغلت في عطلة نهاية الأسبوع، أنا نفسي لم أكن أعرف البيع والشراء والربح والخسارة.العالم نفسه منقسم إلى رأسمالي وشيوعي، أتابع اللشمانيا التي تفتك بالوجوه مقابل بعثة كلفت الدولة لكثير، لايهم أن تكون معي امرأة ألتقطها من مرقص أو كلية، كلهن سواء، كانت دلال عبد الجبار فاتنة أغوت الأستاذ من حيث لايدري وصفعته .. لايهم .. مادامت معك امرأة تدفع لها أولا.

وخلال هواجسه الطويلة وانشغاله بترتيب بقايا الطعام، تسربت إليه حركة من الباب الخارجي، فخطى الى المطبخ يلقي بالنفايات في صفيحة الأزبال .. ترك الباب مفتوحا .. لعل العابر يلمح خيال جوستينا .. كان يراهن قدرته على حضور الآخرين وباب الغرفة، الآخرون يعرفون أنه مثلهم.زهو لم ينتبه إليه خلال زيارته الاولى، وإذا به وجها لوجه مع فردريك وصديقته، تعمد أن يبدأهما بالتحية، ورفع صوته قليلا مخاطبا ضيفته:

عزيزتي جوستينا أنا قادم حالا .. .

ودخل وأغلق الباب خلفه.آخر ما تهادى إلى سمعه ضحكة خافتة من " كلارا " صديقة فريدريدك، وقف يتأمل جوسينا التي استقبلته بابتسامة وادعة عريضة وهي تفتح إليه ذراعيها .. استغرقه صمت ولم يتكلم .. لحظات مرت فظنّ أن الصمت يطول، فيتحرك نحوها ويعانقها .. يشعر بدفء جسد بض طريّ.شيء ولاشيء، لابرودة .. قوة عارمة تجتاحه وعجز مفاجيء، هل يعقل؟بعد عقدين من الزمن يلجمه شئ تافه لا يدري مصدره، كان يخشى أن يعرف الآخرون أنه مع امرأة فيبرد، ذهنه مشغول بأمور شتى تختلط وتتلاشى، وقد تمنى أن يعرف جيرانه في الغرفة المجاورة فتضاعف بروده، أما جوستينا فلم تتركه.أخذته وحركت رأسها على صدره .. استدارت نحوه وبدأت تتجرد من ملابسها ثم حكت هامتها تحت ذقنه قبّلته ومسحت فمها على صدره كأنها تطبق على بعض شعراته بشفتيها فتسحبها برفق، وهمست له: قبّل كتفي، تمسحت به كقطة وادعة .. تلاعب به العالم الجديد فبدأ ينسى، غادرته برودته وتردده وإذ أحست أنَّ حمى دبت في جسده اقتادته إلى السرير .

أخذت تشاغله .. تستله عما يحيطه، وشيئا فشيئا استعاد فحولته، فهوىبشفتيه على شفتيها ..

انتهت سنوات الظمأ ..

تلاشى الخوف تماما ..

هناك زمن الصبا، والقحط يكتشف الصبي نفسه فجأة .. من خلال حلم أو مداعبة متعمدة باليد.عبث صبياني يمكن أن يفعله في أي مكان: بستان وقت الظهيرة .. مرحاض .. ساقية خاوية من الماء .. لحظات وينتهي كل شيء في الصف الثاني الثانوي قال له تلميذ حينما تحدثوا عن الأمر لا تكثر يقولون إن ماء الرجل ينقص بالإفراط فلن يجد حين يكبر من كثرة الاستعمال ذرية ولن يصبح أبا وقتها صدق الخرافة.

عقيم لاعقب له ..

تعلق نظره بسقف الغرفة وانتشل نفسه من ذكريات بعيدة .. هرب من الخجل والخوف والتردد .. عالم آخر يخوض غماره وكان يخافه من قبل. مازال صامتا وهي تسأله:

- سعيد بذلك؟

هل يصارحها؟ إنها المرة الأولى التي يلتقي فيها امرأة على فراش واحد، تساءل يا ترى هل عرفت حقّا أنها هي المرة الأولى التي يمارس فيها ليكن لتعرف أم لا:

- جدا! وأردف " إنك رائعة"

راحت يده تمشي على صدرها وبطنها .. جسدها البض نعومته، تمثال دقيق الصنع لم يؤثر فيه مرور الرجال عليه .لم يلح خدش يشوه بريقه، في الثانية والعشرين من عمرها .. تستقبل زبائن كلّ يوم فيغادرون من دون أثر .. اجتاحته رغبة أخرى، تأكد أنه قادر على أن يفعل، هو الذي يبدأ .. جاء دوره الآن .. فانقلب نحوها ثانية وهوى بشفتيه على شفتيها، وعندما انتهى كل شيء، نهض من مكانه، وبباله أن يحسب سعر المرة الثانية، مبلغ إضافي .. استلّ من محفظته عشرة جنيهات أضافها للعشرة الاولى، وضعها جنب حقيبتها.قالت شبه مستنكرة:

- ماذا تفعل؟

قال باعتذار:

- مرتين أنا ممنون جدا، أنت رائعة هل المبلغ قليل؟

فكشفت عن وجهها الآخر وانحنت تقرص أذنه:

- لا تكن غبيا لو قدمت للعمل لما جلبت معي باقة ورد نحن أصدقاء!

وقتها تلاشى من ذهنه أيّ شيء سوى عبارتها، نحن أصدقاء، وتمتم مع نفسه كأنه يخجل أو يخشى أن يبوح لأحد وإن كان جوستينا نفسها التي اكتشفته:

- أجل نحن أصدقاء!

لكنه كان مقتنعا تماما أنها هي التي اكتشفته!

 

د. قصي الشيخ عسكر

.........................

* كلمة لا بدّ منها: هذه أخر رواية كتبتها.

خلال إحدى المكالمات الهاتفية سألني الصديق الناقد والأديب القدير الدكتور صالح الرزوق لماذا لا تكتب رواية عن نوتنغهام لا سيما أنه كان في ثمانينيات القرن الماضي طالبا يعدّ لشهادة الدكتوراه فيها فقفزت في ذهني صورة طالب عراقي متفوق في الجامعة يضطر أن يوقع للحزب مقابل أن يحافظ على حقه في البعثة .. يقدم إلى نوتنغهام ومعه خجل فيتعرف إلى بغي ويتعلق بها مدة دراسته. وفي أثناء دراسته تندلع الحرب.

والحق أنّ سؤال الدكتور صالح شحذ ذهني فكتبت هذه الرواية وحين أنهيت مسوّداتها بعثتها له فأعجبته وأخبرني أنه كتب مقالا عنها ثمّ بدأت أصحح المسوّدات في الوقت نفسه فكرت أن أنشرها في المثقف على حلقات.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم