صحيفة المثقف

المادية والمثالية في الفكرواللغة

علي محمد اليوسفتعريف اولي: هل الفكر ام اللغة هو وسيلة التعبير عن النظرة المادية او النظرة المثالية للوجود؟ أم ليس هنالك فرق بين الفكر واللغة في التعبيرعن الموجودات الواقعية والمثالية او الخيالية على السواء؟ كما تذهب له علوم اللغة واللسانيات المعاصرة في الفلسفة.

يبدو هذا التساؤل غير منطقي فلسفيا.... ولكن لنرى لماذا؟ لأن الفكر واللغة شيئان متلازمان في التعبير عن وجود الاشياء المادية او في التعبير عن وجودها الفكري التجريدي المثالي بواسطة التعبير اللغوي او غير اللغوي.. كيف؟ فوجود الشيء او الموضوع المستقل ماديا او خياليا يعالج من قبل الذهن فكريا في العقل قبل الأفصاح عنه وجودا ماديا او مثاليا بواسطة اللغة في العالم الخارجي.

الفكرالمادي او المثالي المعبّر عنهما باللغة في علاقتهما بالوجود لا يتم تفريقه في تعبير الفكرعنهما باللغة المجردة، فالفكر كوجود مستقل في الواقع لا تحدده اللغة كونه ماديا او مثاليا او اي شيء آخر بمقايسته باللغة كنظام دلالي يعطي معاني الاشياء في ملازمته التعبيرعنها.

وهنا يكون الفكر يمثل جوهر الوجود، بينما يكون تعبير اللغة عنه اصواتا شفاهية او مكتوبة لا تمنح الوجود ماديته او مثاليته بل صفته الظاهراتية، والذي يمنح الوجود المادي صفته والوجود المثالي صفته المتمايزة هو الفكر الناتج عن مصنع الحيوية والتخليق في العقل في ادراك الوجود واضفاء ماهيته وصفاته عليه..

ولايتم تفريق الفكرماديا او مثاليا بمقايسته بالوجود الطبيعي للاشياء وتفسيرها وفهمها لأن الوجود غير المدرك عقليا في استقلاليته في عالم الاشياء،هو غير الوجود الذي تم تخليقه وتصنيفه في تناول العقل له واعادته ثانية بتخليق فكري جديد. وليس باللغة المعبرّة عن الوجود فقط ينفرز عنها تباين الفكر المادي عن الفكر المثالي الا بعد الادراك العقلي له اولا، وفي تعبير اللغة عنه ثانيا.

فالفكر يكتسب هويته وماهيته بعلاقته بالوجود المتبادل معه، وليس باللغة التي تعبر عن الوجود في ملازمة الفكر لها. فالفكر يكسب الوجود ماهيته، ويكتسب هو بالوجود هويته وصفاته.

والفكر واللغة في تلازمهما معا لا يستطيعان خلق وجود شيء واعطائه صفاته وعلّة وجوده في علاقة تعبيرهما عنه، وانما الوجود يكتسب صفاته وماهيته في تعالقه مع الادراك العقلي له، قبل الفكر المعبّر عنه في تعالقه مع اللغة.

وجود الاشياء في نوع علاقتها مع التفكير العقلي لها، تسبق الفكر واللغة المعبّرة عنها لاحقا. فالعقل يستبق الفكر واللغة في تلازمهما ادراكهما للوجود.فهل يسبق الفكر او اللغة احدهما تراتيبيا في الوظيفة الادراكية التناوبية للموضوع، وفي تعبيرهما عن وجوده المادي في اختلافه عن التفسير المثالي على مستوى افصاح اللغة في علاقتها بالاثنين كوجودين مختلفين المادي والمثالي؟

اننا في هذه الحالة نفهم ان الفكر المادي في تمايزه عن المثالي هو في أسبقية الفكر على اللغة على صعيد الادراك الوجودي للاشياء في الواقع عقليا.

وان بدت انهما (اللغة والفكر) متلازمتان لا يمكن التفريق بين الفكرة واللغة المعبّرة عن الوجود، كما من المتعذّر اعطاء أسبقية لاحداهما على الاخرى في التعبير المختلف عن الوجود ماديا ام مثاليا.فاللغة قرينة الفكرفي عدم امكانية التفريق بينهما في تعبيرهما على الاشياء في العالم الخارجي.والفكر يتعالق مع اللغة في فهم الاشياء وادراكها.واللغة لا وجود حقيقي لها في مفارقتها التعبير عن الفكر.

عليه يكون التمييز بين الفكر المادي عن الفكر المثالي لا يتم بمنطق اللغة المجردة او المفصحة عنهما كموضوعين مختلفين في التعبير اللغوي فقط، كما فعل هيجل في اعتباره الجدل او الديالكتيك المثالي يتم بالفكرالمجرد وحده وليس في تعالقه المتخارج مع الواقع او الوجود الحقيقي للاشياء.

ان العقل وحده له الاسبقية في تحديد الوجود والفكرالمتعالق معه ان يكون ماديا ام مثاليا. واللغة تكون في هذه الحالة وعاء الفكر في تحديد نوع الوجود المادي او المثالي المفصح عنه بتعبير اللغة. وبهذا يكون التمييز بين مادية الفكر او مثاليته هو في علاقة الفكركوعي نوعي عقلي يتم في الذهن اولا مع ادراكه وفهمه الوجود او الموضوع، يليه تعبيرفكري لغوي نوعي مختلف يحدد علاقته بالوجود الواقعي للاشياء والظواهرالمختلفة في الطبيعة ثانيا ان تكون مادية أم مثالية.

فالفهم المادي يذهب الى ان الفكر انعكاس لوجود الاشياء في ديناميكية متخارجة بين وجودها والفكرالمدرك لها عقليا، بينما يرى الفكر المثالي ان لا وجود مستقل للاشياء سابق على الوعي بها صوريا في الذهن فقط وان ادراك وجود الاشياء يتم في صورها التي يستلمها العقل، ولا دور للغة اكثر من تحقيقها دلالة المعنى الفكري الصادر عن العقل المراد توصيله من غير ما نتصور ونعتقد خطأ ان اللغة هي التي تحدد الوجود المادي باختلافه عن المثالي او بالعكس. اللغة توصيف لفينوميلوجيا الفكر كشكل ومحتوى في ايعاز من العقل.

فوجود الاشياء الطبيعي المستقل هو الذي يسبق نوعية الافكار المفسّرة له بوسيلة التعبير اللغوي. وان اللغة والفكر متلازمان اثناء ممارسة العقل او الدماغ فعاليته الحيوية التخليقية في معالجة ايّا من المواضيع التي تنقلها الحواس له ماديا او صوريا، وكذلك يقوم بنفس الفعالية العقلية في تأمله تخييليا موضوعا ما لا وجود له في عالم الوقائع المادية والاشياء وانما في عالم الخيال الذي ابتدعه العقل.

وعن كليهما(التفكير المادي والتفكير المثالي) يعطي العقل نوعا من التفسير المتعّلق بتمايز فهم شخص عن غيره في حال تنفيذ الفكر واللغة نوعية الفكرة العقلية المختلفة عن الشيء في تنوّع واختلاف تفسير العقل له من شخص لآخر ان كان تفسيره وفهمه ماديا ام مثاليا.

من المهم التأكيد الى ان اللغة والفكر هما وسيلة العقل في الافصاح عن تخليقه وجود الاشياء في العالم الخارجي من جديد. وليس للفكر او اللغة اي افصاح متداخل عما يقوم به العقل في ادراكه الوجود والاشياء في تفكيره الصامت.

ان اللغة والفكر فعاليتهما الحقيقية في التعبير عن الموجودات والاشياء في الواقع المادي خارج العقل بعد تخليقها بالذهن واعطاء تفسيره في وجودها المستقل في العالم الخارجي.

ان تفكير العقل بموضوع مادي موجود في العالم الخارجي، او بموضوع خيالي يبتدعه الخيال مادة لتفكير العقل، هما فعالية واحدة يقوم بها العقل وتحديدا الدماغ بمعزل عن تدخل اللغة والفكرالافصاحي لما يقوم به العقل من تخليق للفكر في دراسة موضوعه،.

ويبدو هنا ايضا اننا وقعنا في اشكال وتعقيد أعمق علينا توضيحه عندما نجد ان وسيلتي العقل في الادراك ومعاملته للاشياء لا تتم من غير اعتماد العقل للحواس وللفكر واللغة في ادراكه الشيء والتفكير به سواء كان التفكير (صمتا) على شكل حوارفكري داخل العقل،او افصاحا عنه في التعبير اللغوي في وجوده المادي في الواقع او المتخيّل كناتج عقلي قبل كل شيء.

والوجود المادي والوجود التخيّلي لايختلفان في الماهية او الجوهر وحسب، وانما هما يختلفان بلغة التعبيرعن كليهما، فالوجود المادي تعّبر عنه اللغة المنطوقة او المكتوبة، في حين ان الوجود الخيالي لا تعبّر عنه اللغة التداولية نطقا او كتابة كما في الوجود المادي فقط، بل في غيرها من وسائل التواصل ربما كانت لغة رسم لوحة او نحت تشكيلي او غيرها من وسائل أكساب الموضوع المتخيّل حضوره الوجودي دونما الحاجة الى اللغة الصوتية الشفاهية او المكتوبة.

والا أصبح تساؤلنا كيف يفكّر العقل وما وسيلة التفكير التي يعتمدها، تقودنا الى طريق مسدود عند عدم الاقرار ان وسيلة العقل في التفكير وادراك الاشياء لا يمكن ان تتم خارج فعالية العقل توظيفه الفكر – اللغة في ادراكه الوجود للاشياء خارج التفكير العقلي وليس بداخله.لا يمكننا تمييز الفكر عن اللغة داخل فعالية العقل في تخليق الافكار بالصمت التفكيري، وانما يتاح لنا ذلك في الوجود المستقل خارج العقل التي يصدر العقل والجهاز العصبي عن طريق اللغة تخليقه الجديد له كناتج اجابته عما وصله عن طريق الحواس.

فعالية العقل تنعدم نهائيا عند افتراضنا ان العقل يقوم بفعاليته الادراكية ومعالجتة الموضوع المدرك عقليا بغير وسيلة تداخل الفكر مع اللغة (داخل) و(خارج) العقل.

وهذا يستلزم منا تبيان مالفرق بين تفكير العقل داخليا، وتفكيره خارجيا وما المقصود به وما دور الفكر واللغة في تحديد معنى المفكّر به كموجود.؟

كيف يفكّر العقل داخليا، وكيف يفكّر خارجيا؟ بالحقيقة ان العقل في كلا التفكيرين يتمّان في توافقهما والتقائهما في مصدر التفكيرالواحد الذي هو الوجود المادي او الموضوع الخيالي، فلا يوجد عمل فكري في العقل لا يرتبط بموضوع مدرك حسيا او خياليا والا كان تفكيرا وهميا لا علاقة للعقل به ولا للموضوع علاقة بالعقل المدرك له.

تفكير العقل داخليا تتم بوجود شيء مدرك محدد (موضوع) يكون مادة للتفكيرتنقله الحواس ادراكيا للعقل، وقد تتعّطل مهمة الحواس هذه عندما نجد العقل يفكّر تخييلا وتخليقا عقليا بموضوع ذهني لا علاقة له بالمادة والمحيط الخارجي للاشياء كأن يفكر الانسان في اشياء من الطبيعة او يتخيّل اي شيء او اية فكرة مجردة غير متعينّة ادراكا ماديا وجوديا امامه في الطبيعة او في الانسان كغيرها بما لا يحصى من الاشياء بالعالم الخارجي من اشياء.

ولم تقم الحواس المادية ولا من مهامها نقل موضوع التأمل الخيالي الى الدماغ وانما مخيلة الانسان وذاكرته تستذكره في الذهن خيالا مجردا وتجعل منه موضوعا للتفكير. يلي ذلك ان العقل قد يعبّر لغويا عنه بعد تخليقه الجديد له، او بغير تعبير اللغة عن موضوع التفكير الخيالي وكذلك عن التفكيرالواقعي.

اذن في البدء علينا الاقرار الآلي الثابت انه لا يمكن للعقل الانساني ممارسة التفكير مالم يكن هناك موضوعا واقعيا او خياليا يصبح مادة او موضوعا لتفكيرالعقل. وقلنا ان الحواس ليس من مهامها ولا من قدراتها نقلها موضوعا خياليا هو من ابتداع المخيّلة والذاكرة الذهنية للعقل ولا دور للحواس به. وان العقل يفكرخياليا بموضوع لم تقم الحواس او احداها بنقله له.

هنا يأتي تساؤل أهم ان وسيلة التفكير العقلي للشيء المدرك داخل العقل تتم بماذا أو بأي كيفية؟ وما هي آلية التفكيرالعقلي بالموضوع؟ لحد الان تمّكن العلم من معرفة كيف تعمل حاسة البصرالعين في رؤيتها الاشياء، وكذا مع حاسة السمع او الذوق او اللمس، اما كيف يعقل الدماغ نفسه ويعقل موضوعاته ووفق أية الية يتم الادراك العقلي فهو غير معلوم علميا اكثر مما تزودنا به الفلسفة وليس تخصص علم طب الدماغ والاعصاب على حد علمي.

فالعلم يوّضح كيف ان آلية التفكيرالعقلي تنحصر في موضوع مدرك حسيّا وعقليا عن طريق الجهاز العصبي المرتبط بملايين الخلايا الدماغية التي تتناوب الادراك في عملية معقدة من اختصاص طب علم الدماغ والجملة العصبية وهو مجال لا تعلمه وتعمل به الفلسفة ولا باستطاعتها الخروج منه بنتيجة يرضاها العقل والطب العلمي.

اما في توضيح الفلسفة فهو حين يعقل الانسان ذاته تفكيرا ماديا ام خياليا فهو يحتاج حتما لمادة او موضوع يدركه واقعيا او خياليا كما ذكرنا سابقا لا يخرج عن وصاية العقل في حال انعدام واسطة التعبيرالفكري – اللغوي عنه وبه. اي بمعنى ان التفكير العقلي لا يدركه الانسان الاخر خارج العقل الا في حالة التعبير الفكري – اللغوي عنه خارج وصاية العقل عليه حين يكون تموضعا فكريا في الواقع.

فاذا اراد العقل وجوب التعبير عن موضوعه المفكّر به للعالم الخارجي المستقبل له، توّسل لذلك الفكر – اللغة. واذا لم يشأ ذلك فانه اي العقل يجعل من موضوعه تفكيرا داخليا صامتا غير متاح ادراكه من غيره الذي هو (أنا) الفرد العاقل المفكرمن نوعه (الانسان الاخر) بمعنى ان الفكرة واللغة المعبّر بها انعدمت في التاثير وفي الحضور في كيفية نقل تفكير مصنع الحيوية التخليقية التي يقوم بها العقل.

فاللغة والفكر لا يحضران سوّية الا في محاولة تنفيذ ايعازات مصنع الحيوية العقلية بالاخبار الادراكي العقلي عن موضوع جرى التفكير به عقليا واكتملت مهمة اعادته من العقل الى عالم الاشياء كفكر وليس كوجود.في تنفيذ اللغة او غير اللغة ايعاز العقل في اعادة الموضوع المفكّر به من العقل الى امكانية ادراكه في العالم الخارجي في توّسله اللغة التي هي الفكر ولا فرق بينهما في التعريف المادي او التجريدي بالموضوع.

كيف تكون اللغة هي الفكر المعبّر عنه؟

التساؤل الآن كيف تكون اللغة هي الفكرحسب ما تذهب له جميع نظريات علم اللغة واللسانيات المعاصرة، ولماذا يعجز ادراك العقل للاشياء التفريق بينهما اي بين الفكر واللغة.اذا كانا يحملان مدلولين متباينين مختلفين في تعبيرهما عن الموضوع الواحد؟.هنا اللغة والفكر الملازم لها في التعبيرليس بمقدورهما تفسير وجود الاشياء بمعزل احدهما عن الاخر اي بمعزل اللغة عن الفكر، لانه يكون استحالة ادراكية.

ان عجز الفلسفة الخروج عن نظرياتها المفترضة شبه الثابتة ان الفكر هو اللغة المعبّرة عنه، او ان اللغة هي وعاء الفكر، او ان اللغة هي بيت الوجود.

جميعها تفهم اللغة على انها فعالية ادراكية عقلية في تحديد الفكرة او الموضوع في تموضعهما خارجيا كي يتم ادراك الشيء ومعرفته من قبل الآخرين من الذوات العقلية المدركة وهو صحيح الى حد كبيرولا يتوفر مجال أدحاضه.

في هذه الحالة حين تكون اللغة هي تعبير عن فكرة متموضعة داخل او خارج العقل،يستحيل الفصل بين اللغة والفكرة او الموضوع المعّبرعنه بهما. فبهما(الفكر واللغة) اصبح الموجود الذهني متعيّنا وجودا في العالم الخارجي، وفي هذا يكون تفكير العقل خارجيا او بالاحرى من اجل فهم الوجود الخارجي للاشياء المستقلة.

حين نقول تفكير العقل الداخلي المقصود به هو التفكير الصامت، أما تفكير العقل خارجيا فهو عندما يجري تعبير اللغة عن موضوع تفكيرالعقل.وبالواقع ان هذا التفريق في تفكير العقل داخليا صمتا وخارجيا بوسيلة اللغة، انما هما في الاصل تفكير واحد للعقل في موضوع محدد مشترك يتميّز به بمعزل عن كل موجود مادي او متخيل آخر.اي ان العقل واللغة والفكر يجمعهم (وحدة الموضوع ) المدرك.

ان ادراك العقل للاشياء الواردة له عن طريق الحواس لا يعقلها العقل دفعة واحدة، ويعطي الدماغ ردود الافعال الانعكاسية الارادية وغير الارادية من دون تراتيبية يعتمدها العقل.(وهذه النقطة اوضّحها تفصيلا نهاية المقال).

ذهبنا الى استحالة فصل اللغة عن الفكر في حالة افصاح العقل عن فهمه وتعّينه لموجود او شيء ما في العالم الخارجي. فمتى يمكننا استنباط امكانية فصل الفكر عن اللغة واين وكيف؟

قبل الاجابة نذّكر ان علم اللغة واللسانيات تعتبر اللغة والفكر هما وجهين لعملة واحدة ولا تفريق بينهما كما ذكرنا سابقا، فاللغة هي الفكر المعبّر عنه حسب ريكور وفنجشتين ودي سوسيروجومسكي وجميع فلاسفة وعلماء اللغة.

لكننا نجازف بالمباشرقولنا انه يمكننا فصل الفكر عن اللغة عندما يكون تفكير العقل صمتا داخليا في التفكيربوجود شيء مادي او خيالي لا يحتاج لغة التعبير عنه بل يحتاج الفكر وحده لانه وسيلة تفكير العقل، ويكون صمتا داخليا متخيّلا ايضا في تفكير العقل لموضوعه كوجود غير مادي اي خيالي لا يرتبط وغير ملزم التعبير اللغوي عنه.

للتوضيح فقط فالتفكيرالمادي الصامت هو في معالجته موضوعا او شيء ما بالتفكير المجرد كمتعيّن موجود في العالم الخارجي، اما في تفكير الصمت (الخيالي) غير المعبّر عنه باللغة فهو الهام تخييلي في انتاج العقل موضوعا يدرك خارجيا لم يكن ادراكه متيسرا قبل افصاح العقل له وتخليقه، كما في خيال انتاج لوحة فنية او قطعة نحتية او اي ضرب من ضروب التشكيل ومعالجات علم الجمال الذي من المتاح الممكن التعبير عنه بغير لغة الكلام او لغة الكتابة.

نأتي الآن الى معالجة اصل امكانية فصل الفكر عن اللغة، على انها استحالة ادراكية في فهم الاشياء والمواضيع في حال وجودها في العالم الخارجي في استقلالية عن الانسان سواء كانت مواضيع تناولها العقل بالادراك واعادها باللغة والفكر ثانية الى عالم الواقع، او لم يدركها في وجودها المستقل التي ايضا تستطيع اللغة التعبير عنها.

يبقى عندنا ان التفكير العقلي الصامت ماديا او خياليا فأن آلية العقل في التفكير تستطيع فصل اللغة عن الفكر طالما هما حاضران ذهنيا لحظات واثناء التفكيربموضوع ما،اي حينما يفكر العقل صمتا فهويفكّربالفكرذاته بموضوع. وليس باللغة خارج موضوعه في التفكير الصامت.،

وطالما كانت اللغة والتفكير معطّلان كوظيفة نقل ما يقترحه العقل عليهما نقله الى العالم الخارجي، اي بقاء العقل يفكر ذاتيا صمتا بمعزل عن نقل ما يفكر به لغة، فان العقل وسيلة تفكيره الفكر ذاته فقط ولا يحتاج اللغة الا على انها جزء من الفكر وملازمة له، وتفكير العقل وتخليقه لموضوعه، فلا يدرك خارجيا من غيره الا بواسطة اللغة فقط الناقلة للفكر من داخل العقل(الدماغ) الى واقع الوجود.

وعندما يتجسد ويتعين الموضوع في عالم الاشياء الخارجي بالتعبير عنه لغويا او بأية وسيلة تعبير غير اللغة الصوتية او المكتوبة، فهنا لا يصبح فصل الفكرعن اللغة ذات اهمية كبيرة، ولكن تبقى اللغة في اثناء عملية تفكير العقل (صمتا) في مرتبة ثانوية بعد الفكر في مقارنتها باولويتها في التعبير عن الوجودات الخارجية في العالم الخارجي والطبيعة خارج هيمنة ادراك الحس والعقل لها عندما تكون اللغة جزءا لا ينفصل عن موضوعها التي عبّرت عنه.

بمعنى توضيحي ان اللغة لا تستمد فعاليتها داخل تفكيرالعقل الصامت جوّانيا بموضوعه مع ذاته المستقلين عن العالم الخارجي، وانما تستمد اقصى فاعليتها في التعبير عن الاشياء في وجودها الخارجي المستقل.

وحتى في هذه الحالة فالفكر وتعبير اللغة يبقيان قاصرين عن التعبير عن الموجودات المستقلة من دون ادراك العقل لها وتحديده نوعية الفكر ونوعية اللغة المعبّرةعنها. ويكون وعي الذات هي كينونة متشّكلة من الوجود المدرك، بالمحسوسات، ومن والعقل، وايضا من الفكر واللغة.

لذا عندما يكون تفكير العقل صمتا جوّانيا، يصبح التفكير بالشيء سابق على لغة التعبير عنه خارجيا. فالموضوع المفكّر به صمتا غيرلغوي يبقى حبيس ووصاية العقل في التفكير به قبل اهمية انشغال العقل في التعبير اللغوي عنه.

كيف يعي الانسان ذاته؟

الوعي الوجودي بالمعنى الانطولوجي للذات هو وعي مفارق للاشياء في اثبات اناه الفردية المستقلة وفي ادراكه موضوعه ايضا. فالذات في ادراكها لشيء مغاير تدرك وجودها به هي اولا، وتجعل الموضوع المدرك ذاتيا مدركا من غيره يكتسب وجوده الديناميكي بوعي الذات له ثانيا، في غير وجوده المستقل بالطبيعة وجودا بذاته (نومين).

اتخذ سارتر من كوجيتو ديكارت (نقطة انطلاق الوعي وموضوعه في علاقتهما التي لا تنفك ولا تتوقف عند (الانا افكر) اي الوعي الخالص، لكنها تذهب الى ما يقصده الوعي من اشياء) نقلا عن حبيب الشاروني.

كذلك نجد هيدجر تخّطى الاثنين ديكارت وسارتر بقوله لا وجود لما يسمى الوعي الخالص، بمعنى ان الانا الذاتية لا تحقق وجودها في حيثية وعلة التفكير المجرد الذي ذهب له ديكارت في الكوجيتو ..انا افكر.

ان في انكار هيدجرما يسمى الوعي الخالص هو التعبير عن حقيقة وجودية فلسفية لا تتقبل الدحض بسهولة، فالوعي الخالص وهم وجودي حتى في حالة كوجيتو ديكارت في تحقيقه وجود الذات من خلال تجريد اللغة في التفكير والاستدلال.

الوعي الخالص هو وجود بذاته بالنسبة لكل وجود افتراضي ايضا بذاته غير فاعل في الطبيعة وعالم الاشياء بالنسبة للانسان في ان يكون موضوعا مغايرا له ويمكن الاستدلال به. والوعي الخالص وجود بذاته يطمح بلوغ الانا العليا المثالية التي اشار لها فرويد ومن قبله افلاطون.

والوجود بذاته سلب كما في تعبير وجودية سارتر له، فهو يقوم على تعطيل مغايرته الواجبة الضرورية في تبادله المتخارج مع الاشياء في العالم الخارجي في توكيد استقلالية ذاتية لا قيمة لها.

ونقلا عن الشاروني:(ان سارتر يعرّف الوعي بانه لا يحدث، الا بتمثله شيئا مغايرا عنه، فالوعي يولد موجها الى كائن ليس هو اناه) ان سارتر هنا يحول كوجيتو ديكارت نحو قصدية نادى بها استاذه هوسرل.

هوسرل ادرك في محاججته لديكارت الذي حصر وعي الوجود الذاتي(اناه) وتحققه بالتفكير المجرد، انما هو وعي اغترابي منعزل على صعيد عدم الاندماج في الكلية المجتمعية كجزء منها فاعل ومتمايز عنها. فتحقق الذات لا يتم من غير التعالق المتخارج بنوع من القصدية او الغائية مع العالم الخارجي وهو رأي هيدجر ايضا.

ان الذات لا تدرك وجودها الحقيقي بالتفكير المجرد غير المتخارج مع الوجود الخارجي وعالم الاشياء. وهذا الفهم من وعي الذات التزمه هوسرل ومن بعده سارتر وهيدجر، واجمعوا ان الوعي الذاتي الحقيقي من غير تبيان وتحديد الشيء المفكر به.

فقد نادى سارتر اننا يتوجب علينا مغادرة (انا افكر)، وطلب هوسرل بقصدية كموضوع مفكر به، واخيرا هيدجر الذي نادى بان لا وجود لذات من غير ديناميكية فاعلة تمتاز بها. بل واضاف باكثر وضوحا انه لا وجود لذات بلا عالم، والانا لا تحقق وجودها منعزلة لانها اولا واخيرا هي وجود – في – عالم.

ملحق: اعجاز الدماغ بالتفكير

كنت ذكرت في سطور سابقة من هذا المقال ان عمل الدماغ في فهم الوجود وتخليقه ثانية له لا يتم على وفق عشوائية اعتباطية، ولتوضيح ذلك في هذه الاسطر نهاية المقال هنا اردت جعله ملحقا منفصلا لوحده.

من البديهيات العلمية في علم الفسلجة، علم دراسة الوظائف العضوية لدى الكائن الحي، الانسان على وجه التحديد في الطب البشري، هو استحالة تفكير الانسان في صورتي حدثين اثنين في وقت واحد، في لحظة واحدة، في ومضة واحدة، يمكن لأي انسان اجراء التجربة على نفسه سيجد انه يفشل حتما.

مجموع الافكار الادراكية الصورية او الحسّية او الحدسّية الواصلة الى الدماغ عن طريق الحواس الخمسة في الجهاز العصبي والراجعة منه الصادرة عنه كردود افعال انعكاسية، لا يتعامل الدماغ معها بعشوائية غير منظّمة ولا من غير تراتيبية في الاسبقية. بل يعمل الدماغ والجهاز العصبي مع الافكار الواردة له من الحواس في انتقائية وفي تراتيبية معقدة النظام، هي خاصية الانسان الذكي في تعالق وظيفتي المحسوسات او المدركات مع وظائف الشبكة العنكبوتية للاعصاب الناقلة للاحساسات بالاشياء، في الاستقبال الوارد له، والراجعة الصادرة منه الى الواقع في وجود الاشياء والفكر المعّبر عنها في ظاهرياتها وفي جواهرها.

الاستجابة الادراكية الحسية التي هي رد فعل الجهاز العصبي الارادي او غير الارادي المستقبل منه او الراجع المتصل بالدماغ بما تنقله اليه الحواس الخمسة، ويمكننا اضافة حاسة سادسة هي حاسة الحدس او التنبؤ والتخاطر .

فالذي يرد الدماغ عن طريق الحواس من مدركات ينقلها الجهاز العصبي في تيار فائق السرعة غير المنظورة ولا المتوقعة من المحسوسات في العالم الخارجي الى العقلي المدرك في سطح القشرة الدماغية التي تحتوي على ملايين الخلايا العصبية،.

لترسل بعدها بعض هذه الخلايا العصبية في الدماغ والجهاز العصبي ردود الافعال المناسبة لما يتوجب على الانسان معرفته او القيام به، وتكون ردود الافعال كاستجابة لايعازات الدماغ في ومضة زمنية لايتعدى الجزء الالف من الثانية.( اجهل تحديد زمن الومضة الانتقالية من الدماغ بواسطة الجهاز العصبي علميا بضوء معرفتي سرعة انتقال الضوء المقدّرة علميا افتراضيا هي ثلاثمائة الف كيلو متر /ثانية).

ماهو مهم عدم أستطاعة الدماغ أعطاء ردود الافعال الانعكاسية سواءا منها الإرادية او اللاإرادية لحدثين اثنين في ومضة كهرومغناطيسية او ومضة واحدة في جزء جزء جزء من الثانية الواحدة يستلمها الدماغ بواسطة الجهاز العصبي وينقلها الى احساسات الانسان ثانية، ومن الثابت علميا وطبيا ان جميع الاستجابات الانعكاسية الصادرة عن الدماغ تجاه الحواس لا تنطلق من (فص) مخّي واحد موجود في قشرة الدماغ الامامية. الذي يحتوي ملايين الخلايا العصبية المسؤولة عما يرده ويصله عن طريق الحواس. مع هذا ليس بمقدور (المخ) ان يرسل ايعازين اثنين في لحظة واحدة او ومضة واحدة، بمعنى ان الدماغ وتحديدا المخ والجهاز العصبي المرتبط به ينشغل بالاستجابة لردود افعال الحواس تباعا تراتيبيا تجاه المحسوسات ووجود الاشياء التي سبق للدماغ وان ادركها عن طريق نقل الحواس الموصلة للمدركات الحسّية الى الدماغ واعادة ردود الافعال الصادرة عنه بشأنها.

مثال ذلك حين يجرّب احدنا وضع يده في ماء مغلي حار جدا. ويستخدم في نفس اللحظة اليد الاخرى في وضع شيء ما بفمه ليتذوقه نجد ان الدماغ يعجز عن اعطاء استجابتي ردي فعلين انعكاسيين للاثنين معاً في ومضة واحدة بل يجب ان يكون لاحدهما في رد الفعل الانعكاسي الصادر عن الدماغ والجهاز العصبي أسبقية تراتيبية زمنية على رد فعل الدماغ بالنسبة لرد الفعل على الآخر الثانوي المدرك حتى لو كان الفارق بين الاستجابتين لايتجاوز جزءاً من الف من الثانية، وحتى لو كانت ردود الافعال الصادرة عن الدماغ من نوع ردود الافعال الانعكاسية اللاإرادية.

ومثال آخر حين تسمع اغنية من المسجّل بجانبك وانت تقرأ في صحيفة او كتاب عندها يستحيل على الفكر الذهني المتلقي في الدماغ فهم مفردات الاغنية واستيعاب معانيها في نفس لحظة تصفّحك الصحيفة ومحاولتك فهم ما تقرأ.

الشيء المعجز ليس فقط ان هذه العمليات العصبية التي تجري ما بين الحواس والجهاز العصبي الناقل ادراكات الاشياء استرجاعيا تناوبيا الى الدماغ مع فعل الادراك للشيء او تصوره في الذهن، انها تجري هذه العملية في اقل من جزء جزء جزء من الثانية، وربما باسرع من سرعة الضوء. وانما (الاعجاز) الاهم هو في اختيار الدماغ لأسبقية ردود الافعال الواردة اليه عن طريق الحواس في النوعية والاهمية التي تقي الانسان من المخاطر واعادتها للانسان المدرك في حدثين وضع اليد بالماء المغلي والاخرى وضع شيء بالفم لتذوقه.وهكذا في تعامل الحواس والمخ مع آلاف الادراكات الحسية الواردة له، وايعازات الدماغ الاجابة الدقيقة المطلوبة منه عليها.

ولو اننا عدنا للمثل الذي اوردناه في ايّهما افضل في اسبقية الاستجابة الدماغية في الرد الانعكاسي عليه!؟ سحب اليد من الماء المغلي ام فحص حاسة التذوق للشيء الذي وضع بالفم!؟ نجد ان ايعاز الدماغ بضرورة سحب اليد من الماء المغلي يسبق ايعاز الدماغ في اعطاء الاستجابة لنوعية تذوق الشيء باللسان .

في هذا المثال التجريبي نلاحظ تأكيد الدماغ على نوعية واهمية الاستجابة الانعكاسية اللاارادية لعدد من المدركات الحسية المنقولة له بواسطة الجهاز العصبي عن مصدر الحواس وترتيب الدماغ لنوعيتها واهميتها.

في اسبقية الاستجابة يكمن فيها لغز تفضيلي اعجازي في وقاية الانسان من المخاطر وتجنبّها، ليس سهلا على العلم الطبي تفسيره وعلم دراسة فسلجة الدماغ و الجملة العصبية تحديدا الاجابة عليه على قدر فهمي اذ ربما العلم وصل الى تعليل كل هذه الامور التي اتحدث عنها كاعجازات للعقل والجهاز العصبي المرتبط به وهي كذلك برأيي في مقدرة علم الدماغ وفسلجة وظائف الجهاز العصبي تفسيرها ام لا !!.

الاعجاز التفضيلي في الاستجابات الانعكاسية للايعازات الصادرة عن الدماغ الارادية منها او غير الارادية تتوخى وقاية الانسان وسلامته من الخطر الذي قد يسببه وضع اليد في الماء المغلي وتأخر سحبها، مع ارجاء بقية ردود الافعال الانعكاسية الثانوية التأثير على سلامة الانسان ووقايته من الخطر اذا ما تلازم حضورها مترافقا مع الافعال المحدّقة الخطر بالانسان.

 

الباحث الفلسفي: علي محمد اليوسف - الموصل

..........................

ملاحظة:

- الملحق غير ماخوذ عن مصدر مطلقا ولا بكلمة واحدة آملا التصحيح بما اخطأت به علميا، ولا يمثّل هذا التوضيح اكثر من اجتهاد لكاتب المقال فقط. (الباحث علي محمد اليوسف /الموصل)

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم