صحيفة المثقف

دعوة الشيخ أمين الخولي للتجديد

663 امين الخولي 1خلافاً لما يتردّد على الدوام في بعض الكتابات، من أن المؤسّساتِ الدينيةِ التقليديةِ عالقةٌ في التاريخ، ولا يمكنها أن تتلمس دروبَ التواصل مع العصر، فإن محاولاتِ تجديد جادّة في عالم الإسلام انطلقتْ من الحواضر والحوزات المتخصّصة في تدريس المعارف الإسلامية، واحتضنتها وانخرطتْ في سجالاتها ونقاشاتها ومعاركها.

ففي مصر احتضن الأزهرُ الشيخَ رفاعة رافع الطهطاوي، والشيخَ محمد عبده، والشيخَ مصطفى عبدالرازق، والشيخَ علي عبدالرازق، والشيخَ محمد عبدالله درّاز، والشيخ خالد محمد خالد، وغيرهم... وفي تونس احتضنت الزيتونةُ الشيخ عبد العزيز الثعالبي، والشيخَ الطاهر الحداد، والشيخَ محمد الطاهر بن عاشور، وولدَه الشيخَ محمد الفاضل بن عاشور، وغيرهم... وفي النجف احتضنت الحوزةُ السيدَ محسنَ الأمين، والسيدَ هبةَ الدين الشهرستاني، والشيخَ محمد جواد البلاغي، والشيخَ محمد رضا المظفر، والسيدَ محمد تقي الحكيم، والسيدَ محمد باقر الصدر، والشيخَ محمد مهدي شمس الدين، والسيدَ محمد حسين فضل الله، وغيرهم... وكان غيرُ واحد من هؤلاء الأعلام عنواناً للضجّة في عصره، بعد طرحه لآراء وأسئلة غير مكرّرة، تتجاوز ما هو مألوف. وكانوا يختلفون في كيفيةِ ونوعِ الأسئلة التي يطرحونها ومدياتِها وعمقِها، وفي بيانِ آرائهم تبعاً للاختلاف في مواهبِهم وسياقاتِ تكوينهم التراثي والحديث.

يتفق هؤلاء في خروجِهم على خطاب تبجيل وتمجيد كل شيء في التراث، وفي سعيهم لاستيعاب شيء من عناصره استيعاباً نقدياً، والجرأةِ في نقد بعض المقولات والآراء في التراث، وعملهم على البحث عن آفاق لقراءةِ النصّ وتفسيرِه في سياق الواقع ومعطياته واستفهاماته، ومحاولتِهم الكشف عن شيء مما هو نسبي وتاريخي في ميراث المتكلمين والفقهاء.

غير أن معظمَ هذه المحاولات على الرغم من جرأتها وأهميتها، لم تغادر المناهجَ التقليديةَ الموروثة، إذ كان أصحابُها ينطلقون من مناهج ومفاهيم وأدوات التراث نفسه في فهمه ونقده، وقلّما حاول بعضُهم توظيفَ مناهج ومفاهيم وأدوات جديدة من الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة في فهم الدين ونقد التراث. لذلك لم تتبصّر هذه المحاولاتُ الأنساقَ المضمرةَ في التراث، وما هو مستترٌ من نظم انتاج المعنى الكامنة فيه، وكيف تسهم طبقاته التحتية في توليد المعنى وتكراره عبر العصور المختلفة، ولم تُنقّب في البنية العميقة للتراث عن كلّ ما يعمل على إعادة إنتاج الآراء والمفاهيم والأسئلة ذاتها. لذلك لبثت هذه المحاولاتُ في مدارات التطلعات والطموحات والأحلام، ولم تبتعد كثيراً عن إثارة بعض التأويلات والتفسيرات والشروح الجزئية للنصوص، التي تسعى لاستخلاص آراء وفتاوى لوقائع جزئية تنفتح على ما يفرضه الواقعُ على المسلم.

663 امين الخولي 2

الشيخ أمين الخولي

ولد الشيخ أمين الخولي في 1 مايو 1895 بمحافظة المنوفية بمصر، وتوفي في 9 مارس 1966. حفظ القرآن وهو في العاشرة من عمره. وتخرج من مدرسة القضاء الشرعي. أصبح مدرساً في مدرسة القضاء الشرعي في 10 مايو عام 1920. في 1923، عيّن إماماً للسفارة المصرية في روما، ثم نقل إلى مفوضية مصر في برلين عام 1926. عاد عام 1927إلى وظيفته في القضاء الشرعي. انتقل إلى قسم اللغة العربية بكلية الآداب 1928. وأسس جماعة الأمناء عام 1944، ومجلة الأدب عام 1956. وأصبح عضواً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1966. وكتب الخولي مقالات متنوعة في الصحف والمجلات، وألفَ مجموعة من الأعمال، من أهمها: "من هدي القرآن في أموالهم: مثالية لا مذهبية "، و "فن القول"، و"الجندية والسلم: واقع ومثال"، و"دراسات إسلامية"، و"مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب"، و"المجددون في الإسلام"، و"كتاب الخير: دراسة موسعة للفلسفة الادبية مطبقة على الحياة الشرقية والتفكير الاسلامى".

ومع أن الشيخَ أمين الخولي لم يدرس في الأزهر، بل تعلّم في مدرسة القضاء الشرعي، لكنه درَّس فيه. وكانت محاضراتُه أولَ ما يُدرَّس من الفلسفة رسميًّا في العهد الجديد للأزهر، فهو بعد عودته من ألمانيا عام ١٩٢٧، انتُدب للتدريس في الأزهر، فألقى محاضراتٍ على طلاب كلية أصول الدين في التاريخ العام لفلسفة الأخلاق، أو كما أسماها هو "الفلسفة الأدبية"[1]. كما اهتم بتجديد البلاغةِ وأساليبِ البيان العربي، ودعا إلى تحريرها من حمولة الفلسفة والمنطق الصوري، واصطلح عليها "فن القول"، وكان هاجسُه ربطُ أساليب البيان والتعبير بالحياة، وتكريسُ الذوق الفني، والانفتاحَ على مكاسب العلوم والمعارف الحديثة. فكشف عن الأبعاد النفسية للبلاغة. ودشّن أفقاً آخر في بيان أساليب تفسير النصوص، وما يشوبها من ملابسات الذات والزمان والمكان والبيئة.

وكان الشيخُ الخولي أولَ رجلِ دينٍ مسلم حاول العبورَ من المناهج والمفاهيم والأدوات التراثية في فهم الدين ونصوصه، إلى استعمال مناهج ومفاهيم وأدوات جديدة، وتوظيفها في بناءِ فهمٍ بديل ونقدِ الفهم القديم. وتميز بخبرة رصينة، وشجاعة كبيرة في توظيفها.

التكوينُ الديني للشيخ أمين الخولي تقليدي، إلا أنه استطاع أن يتقن اللغات: الإيطالية، والألمانية، والفرنسية، عندما اتيحت له فرصة الإقامة ففي بعض البلدان الأوروبية، عندما "صدرَ المرسوم الملكى فى 7 نوفمبر 1923 بتعيين أئمة للسفارات الأربع المصرية فى: لندن، وباريس، وواشنطن، وروما، وكانت الأخيرة هى مكان عمل أمين الخولى فأبحر إليها من الإسكندرية، وبقى فى إيطاليا عامين، وأجاد الإيطالية، وشرع يطلع على الحياة الدينية والثقافية وجهود المستشرقين فى أوروبا، كما عمل فى مفوضية مصر فى برلين عام 1926، وتعلم اللغة الألمانية، ولما ألغيت وظيفة الأئمة من السفارات والمفوضيات المصرية عام 1927 عاد إلى مصر، واستأنف عمله فى مدرسة القضاء الشرعى ثم فى كلية الآداب بالجامعة المصرية مدرساً، ثم أستاذا مساعدا ثم أستاذا لكرسى الأدب فى عام 1943"[2].

اكتشف مدة اقامته في ايطاليا الأساليبَ الجديدةَ في التربية والتعليم في أوروبا، وتعرّف عن قرب على نمط التعليم الديني في الفاتيكان، الذي جعله يدرك ضرورةَ إصلاح نظام التعليم الديني القديم في الأزهر، كما أشار هو إلى ذلك بقوله: "قصدت إلى دراسة الخطط والأساليب التي تتبع في الدراسات اللاهوتية، كما نظرت فيما حولي من الدولة الدينية – الفاتيكان – القائمة في عاصمة الدولة المدنية – ايطاليا – وخلال تتبع لهذه الدراسة اللاهوتية في أقطار أوروبا عشت فيها بعد ذلك، كألمانيا، أو أقطار زرتها مجرد زيارة، وعمدت بعد الدراسة والتفكير للكتابة عن قضية الأزهر واصلاحه"[3]، فكتب بيانَه لتحديث الأزهر، الموسوم بـ"رسالة الأزهر في القرن العشرين". ونشر الأزهرُ عام ١٩٣٦ هذه الرسالة، ثم تكرّرت طبعاتُها لاحقاً، بعد أن نفدت الطبعةُ الأولى سريعاً[4]. وفي أوائل الخمسينيات من القرن الماضي عاد الخولي مرةً أخرى يدعو لإصلاحِ الأزهر وتحديثِ نظامه التعليمي، فنشر سلسلةَ مقالاتٍ في جريدة "المصري"، "وقد أفردت جريدة المصري حينذاك مساحة لأمين الخولى على مدى ثلاثة أشهر، يشرح فيها رؤيته حول رسالة الأزهر الاجتماعية، ويبين العلاقة بين الدين والحياة، وإصلاح الدين نفسه بالحياة هو ما كان يتطلع إليه الخولى، الذى رأى أن يكون مادة للتجديد الروحى والسمو الخلقى، ويكون أداة فعالة فى الإصلاح الاجتماعى"[5]. غير أن الأزهرَ لم يصمت هذه المرّة كما صمت في المرة الأولى، فأصدرت جبهةُ علماء الأزهر بياناً ورد فيه: "اعتاد الأزهر الشريف أن يسمع من حين لآخر أفراداً يحاولون أن ينالوا منه ومن رجاله، وكأنما خولت لهم أنفسهم أن تعلقهم بهذا الجبل الأشم يلقي في روع الناس أن لهم شأناً، أو عندهم رأياً، أو فيهم غيرة على حق، أو غضباً للدين، أو حرصاً على صالح عام، ولكن هيهات، فهم كناطح صخرة يوماً ليوهنها"[6]. إلا أن الشيخَ الخولي وجّه لهم نقداً صريحاً ذكر فيه: "ان قصدهم النفسي من هذا التوجيه ليس بارئاً، ولا خالصاً، من الغايات المدخولة، فسبيلهم إلى هذا التوجيه والبيان سبيل غير صادق، وتناولهم له غير مستقيم،كما أن سيادة روح التحكم في فضل الله ونعمه، والاستبداد بدين الله وهدايته واضح، فإذا أفتوا فقولهم هو رأي الاسلام، وإذا حكموا فحكمهم هو حكم الله، وإذا خالف عليهم إنسان فهو يحارب الله"[7]. لكن الأزهرَ لم يتوقف عن مساجلته، فردّوا على نقده ببيان أيضاً، غير أنه لم يتراجع عن دعوته لإصلاح الأزهر[8].

وتنبه الشيخ الخولي إلى ضرورة تبني نمطَ "تدين إنسانى القلب، نبيل العاطفة، يؤدى إلى التعاون البشرى، ولا يعوق الإخاء الإنسانى. تدينٌ لا يعرفُ تلك السلطة الغاشمة التى ترهب العقل الطليق، وتفت فى العزم الوثيق، وتفسد الذوق الرقيق، وتتحكم بجبروت لاهوتى فى الحياة الدنيا، وتسد الطريق إلى الآخرة. تدينٌ لا يخلقُ تلك الطبقة التى تحتكر الدين، وتسد المسالك إلى الله، ولا يعترف بتلك الطبقة التي خلقتها الظروف، لأنه لا رياسة فى الإسلام، وكلهم قريب إلى الله سبحانه وتعالى"[9].

ولبث الشيخ الخولي كل حياته وفياً لتجديد التفكير الديني، الذي يعتقد انه يقوم على تفاعل وتبادل الدين مع مختلف العلوم والمعارف البشرية وتوظيفها في فهمه وتفسير نصوصه. كما يلخص لنا الخولي ذلك بقوله: "ان الدين فى هذه الحياة لا مفر له من التفاعل والتبادل مع ما سواه من فهم وتنظيم لتلك الحياة، وأنه لن يُكتب لهذا الدين البقاء إلا على قدر ما فيه من قدرة على هذه المسايرة والمفاعلة والاستفادة، والانتفاع بما سواه من التفسيرات والتدبيرات الأخرى"[10].

 

د. عبدالجبار الرفاعي

.................................

[1] الخولي، د. يمنى طريف. أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد. القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012،  ص 28 – 29.

[2] بدر، د. عزة. "أمين الخولى وتجديد الفكر الدينى". روز اليوسف، 25 مايو 2017.

[3] سعفان، كامل. أمين الخولي. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983، ص 65.

[4] طبعت هذه الرسالة ثانية عام 1961، ونشرتها دار الهنا في القاهرة.

[5] بدر، د. عزة. "أمين الخولى وتجديد الفكر الدينى". روز اليوسف، 25 مايو 2017.

[6] سعفان، كامل. أمين الخولي. ص 146.

[7] المصدر السابق. ص 146-147.

[8] المصدر السابق. ص 147.

[9] بدر، د. عزة. "أمين الخولى وتجديد الفكر الدينى". روز اليوسف، 25 مايو 2017.

[10] المصدر السابق.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم