صحيفة المثقف

تأويل الرواية بين المنتصر والضحية في حكايتين شهيرتين

بكر السباتينصحيح أن التاريخ يكتبه المنتصرون ولكن نقاط التلاقي في السرد التاريخي بين المتنازعين تتحول إلى مرتكزات لتأويل نقاط الخلاف والخروج تالياً بالرواية التاريخية المقبولة.. كتابة التاريخ لا تتم في ليلة وضحاها لأن الرواية التاريخية تفاعلية وغير مكتملة إذْ تتعدد التأويلات والحكاية واحدة.. وهذا ينطبق على الحكايتين التاليتين للخروج بخلاصة القول بعيداً عن السرد التاريخي كي نُخْرِجَ النص من مأزق التجاذبات التي تحول الرواية إلى سلاح إعلامي في يد القادة إبان إي صراع ينشأ على الأرض.. هذه مقاربة بين الخيال والواقع وكلاهما يعتبران من نتاج العقل البشري في سياقي الفكر والفعل.

تقول الحكاية الأولى على لسان راوي الملك الذي يمثل سلطة الأقوى بأن أهل مملكة ما اعتادوا على تقديم الهدايا لملكهم في كل عام.

وفي اليوم الموعود احتار الفلاح الفقير فيما سيهدي للملك، فلا يوجد لديه الكثير ليقدمه.

ذهب الفلاح الفقير إلى قصر الملك، حيث احتشد الجميع، كلٌ أتى بالغالي والنفيس ليقدمه هدية.

وقف الناس خارج أسوار القصر، وكلٌ يتباهى بما لديه، وبهديته.

فُتحت أبواب القصر لعامة الناس لتقديم هداياهم، وبعد ساعاتٍ طوال جاء الدور على الفلاح الفقير، فسأله الملك: ماذا لديك لتقدمه لنا أيها الرجل؟ فأجابه الفلاح: سأقدم إليكم يا مولاي "أغلى ما عندي". فسأله الملك: وما هو أغلى ما عندك؟ فأجابه الفلاح: انه هذا الطائر «القونو». فتعجب الملك، وسأله وما الذي يميز هذا الطائر ليكون أغلى ما عندك؟ فرد الفلاح: يساعدني في الصيد، فهو يغرد وينادي على الطيور من أبناء فصيلته وجنسه، فيأتون مسرعين لنجدته أو لتلبية دعوته فيقعون في الشراك التي أنصبها لهم في الحقل.

إلى هنا يتفق الرواة على التفاصيل والتداعيات التي أخذت مجرى النهر إلى الشلال.. ويأتي الخلاف بين سلطة الرواية التي يسردها راوي الملك والراوي المحنك المتردد الخائف من بطش الملك الذي أخذه التأويل إلى نهاية أخري قد تنصف الطائر ومالكه من بطش الملك.

الرواية الأولى سردها راوي البلاط الملكي الشاهد على الحدث منوهاً إلى أن الملك قام غاضباً، وأمسك برأس الطائر وقطعه قائلاً: هذا طائر خائن وكذاب، ولا يمكننا قبول الخونة والكاذبين في مملكتنا، فهو لا يستحق العيش ها هنا، ونحن لا نريد في المملكة من يخون قومه حتى لو كان حيواناً!

من هنا تسوق الخاتمة إعلامياً لتثبيت حكم الملك من خلال بث الرعب في قلوب الرعية.

طبعاً الحكاية تنتهي عند موقف الملك إزاء الطائر.. لكنها من جهة ثانية لا يجب أن تمر دون تأويلات أخرى، ربما لو طُرِحَتْ في حينه؛ ستخرج الطائر من المأزق وتجعله محظياً عنده.. فلو قال أحد رجال البلاط الذين يؤمنون بسياسة التسامح بأن الطائر كان يحذر بقية الطيور من جنسه كي تحتاط للأمر فلا تقع في الفخ من باب الشهامة والإباء، فلم تستجب تلك الطيور لندائه فهبت لنجدته رغم أنها تعلم بأن الفخ ينتظرها..  ربما لاحتسبها الملك حينها شهامة من الطير فيكافئ صاحبه ويتقبل الهدية وربما يعمم حكايته ليجعله رمزاً للتضحية لأجل الملك نفسه.. هنا التأويل سلاح ذو حدين.

وفي سياق المفهوم ذاته سنأخذكم إلى حكاية أخرى مشهورة.

تقول الحكاية الثانية بأن الملك الجبار عزم على قتل كلّ من يشك بنواياه، وأخضع المقربين منه للاختبار، حتى سقط فيه أحدهم فأمر بمعاقبته بطريقة مبتكرة، إذ جوَّعَ مجموعة من كلابه التي يثق بها، وأمرها بالانقضاض على رجل الحاشية المُدان في ساحة مكشوفة محاطة بالجمهور وهو جالس في المقدمة كي يتشفى بالضحية التي وقفت والأغلال بيدها في حضرته، وأخذت تستدرّ عطفه مذكرة إيّاه قائلة:

هل هذا جزاء من أخلص في خدمتك وخضع لأمرك طوال عشرة أعوام يا مولاي!

 لكن الملك أصر على موقفه دون أن يستجيب لدموع الضحية "فكيف يتراجع ملك عن قراره".. وبعد إلحاح استجاب الملك لطلبه في منحه مهلة عشرة أيام يقضيها مع الكلاب قبل أن يرضخ لها فتنهش لحمه. خلال هذه الفترة كان الرجل المدان يعامل الكلاب بالحسنى ويطعمها بيده حتى كسب ودها ووفائها.. لذلك حينما آن موعد القصاص رفضت الكلاب الاستجابة لأوامر الملك.. فما كان منه إلا أن أمر بقطع رأسه بعدما اكتشف حيلته.. من هنا انقضت الكلاب على الملك انتقاماً لسيدها الجديد الذي اعتنى بها خلال الأيام العشر وفاءً له.. إلى هنا لم تكتمل الحكاية، فسارع راوي السلطة يثني على موقف الملك ويحرض على قطع رؤوس من دربوا هذه الكلاب الخائنة للعهد. لكن خاتمة الحكاية أخذت التأويلات إلى جهة النقيض، حينما علم الراوي بأن الكلاب ماتت بالسم الذي كان يملأ جسم الملك المحاط بالخونة فانقلبت تأويلات الرواية رأساً على عقب..

فلاحظوا بأن التأويل الأول يعتمد على بقاء الملك حياً وفي يده الصولجان، على اعتبار أن الخائن ومعه كلابه لا بد من القصاص منهم، ولكن في التأويل الثاني المعتمد على نهاية الملك وموته بالسم يتبين كيف أن الكلاب التي يرعاها الإنسان أكثر وفاءً من الخلِّ والرفيق والحاكم، فيما يذهب التأويل إلى أنه كلما زاد البطش اقتربت نهاية الظالم.

 

بقلم بكر السباتين

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم