صحيفة المثقف

حدود تحالف المنفعة والأيديولوجيا في خطابات السلطة

الحسين اخدوشتخدم الأيديولوجيا شبكة المصالح للفئات المهيمنة في المجتمع مبرّرة النظام السائد. إنّها تشرعن لنسق السلطة المسيطر عبر تدعيم الاتجاهات والميولات المعَبٍّرة عن هيمنة منفعة صاحب السلطة.1  يعمل هذا النزوع التبريري للأيدلولوجيا بفاعلية كلّما تعلّق الأمر بالبحث عن قيّم وأفكار تُدعّم مشروعية الهيمنة، وتكرّس سلطة صاحب المنفعة.

الواقع أنّ التبرير الأيديولوجي يشتغل بشكل ضمني غير مباشر، وذلك عن طريق التعتيم والتمويه والتضليل، وذلك لتجنّب صدام المصالح وإرادات الفئات المتصارعة.

يكرّس هذا النزاع الأيديولوجي سيادة نفوذ صاحب السيطرة والهيمنة، ممّا ينجم عنه سيادة خطابات السلطة. تتحوّل الايديولوجيا في هذا المستوى إلى خطاب شمولي يتضمّن التشكيلات الفكرية التي تعمل على تسويغ هيمنة السلطة. يشتغل التبرير الايديولوجي على صهر وتذويب الاختلافات داخل نسق هذا الخطاب، عبر أفكار ومعتقدات تبريرية.

تتشابك المنفعة والايديولوجيا في هذا المستوى بشكل معقّد لينتهي بهما الأمر إلى خدمة السيطرة والهيمنة وتعزيز النفوذ. ينجم عن تحالف المنفعة والسيطرة قيام خطاب أيديولوجي ذي أبعاد شمولية وكليانية، فتأخذ السلطة أبعادا ممتدة ومتشعّبة في مختلف التعبيرات السياسية والفنية والإعلامية والاقتصادية.

تتخذ السلطة أقنعة لغوية وفكرية وقيمية وفنية ورمزية ودينية. فضلا عن ذلك، تصبح الأيديولوجيا تجسيدا للسلطة المهيمنة لأجل حفظ الوضع القائم، وإعادة إنتاجه اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وفنيا وثقافيا. غير أنّ الغريب في هذا كلّه، هو أنّ الناس ينخرطون في هذا الوهم الأيديولوجي بوعي أو بدون وعي.

حاول الموقف التشكيكي للنظرية النقدية المعاصرة فضح الطابع الاستلابي للأيديولوجيا وجعل الناس يدركون خداع الوهم لهم. والبيّن أنّ الانتباه إلى هذا الأمر يعتبر ضروريا لتجنّب الاغتراب عن الواقع. غير أنّ المجتمعات المعاصرة تبدوا كما لو أنّها منفصلة ومقطوعة عن الأيديولوجيا، حيث لم تعد تأخذها على محمل الجدّ.

بالمقابل، لا يزال الواقع يشي بأنّ الأيديولوجيا تخدع الناس وتتسلّل إلى وعيهم عن طريق اللغة لتسلبه وتشوّهه. إنّها تجعل النفوس المروضّة اجتماعيا مغتربة عن ذاتها ووعيها، من حيث كونها تقبل تلك الدلالات التي تخدم السلطة. ولقد أظهرت النظرية النقدية المعاصرة مدى تقاطع الأيديولوجيا المهيمنة مع الأشكال التعبيرية اللغوية والرمزية المتداولة في الفضاء العام المشترك.

مكّن هذا المستجد النقدي من فضح تلك الخطابات الرمزية المتلبّسة بالسلطة، كاشفا عن كونها لم تعد مجرّد أنظمة مستقلّة للمعتقدات والأفكار، كما كان يعتقد الموقف الكلاسيكي للفلسفة، وإنّما تحوّلت إلى ما يمثّل خطابات تخدم الهيمنة والسيطرة. اعتبرت الأيديولوجيا في هذا السياق بنية رمزية مقنّعة تبحث لنفسها عن طرق مباشرة وغير مباشرة لخدمة علاقات السيطرة الموجودة لتدعيمها وتبريرها.

تحوّل معنى الأيديولوجيا انطلاقا من هذا المنظور ليتَّخذ صورة جديدة، هي الدلالة في خدمة السلطة. وقد سمحت نظرية السلطة الجديدة للتعامل مع اللغة انطلاقا من نزوع السيطرة، حيث الدلالات في خدمة علاقات السيطرة في واقع اجتماعي معيّن. من هذا المنطلق لم تعد تستعمل اللغة ببراءة في خطابات الناس، وإنّما تقع وراءها صراعات ومصالح فردية وجماعية.

تحاول الأيديولوجيات أن تؤمّن تجانس الواقع المتصدّع ووحدة الاجتماعي المتصارع فيه، كما السياسي والاقتصادي المتنازع حولهما، وذلك بأشكال وصيغ تعبيرية خطابية ضمنية غير مرئية بإضفاء اعتقادات تبريرية قد نختلف حولها كثيرا. لهذا أصبح فهم طريقة توظيف اللغة لخدمة السلطة هدفا للكشف عن كيفية اشتغال الأيديولوجيات بغرض فضح أشكال حضورها وجعلها مهمّة نقدية للتحليل النقدي للخطاب.

تحوّلت الأيديولوجيات بفضل هذا التحليل النقدي المعاصر إلى بؤرة لتتبع تقنّع السلطة وتلبّسها بالخطابات الإعلامية والسياسية والاجتماعية. لذا، أصبح الخطاب في الواقع يحتوي في بنيته الكثير من التشكيلات الفكرية ذات الأبعاد النفعية التي تعمل على تمكين الفئات المسيطرة من الهيمنة على المنفعة وتكريس سلطتها. 

إنّ الفكر المطلق، مثلما الفكر التبريري، كلّ منهما ينزع نحو جعل الدلالة في خدمة السلطة؛ ولعلّ هذا ما تعمل الأيديولوجيا على تكريسه في الواقع بشكل عام، وخاصة في سياقاتنا الاجتماعية والسياسية المغاربية والعربية من دون أيّ حسّ نقدي حتّى.

 

الحسين أخدوش

.................

  -1John (B) Thompson: Studies in the theory of Ideology; University of California Press, Berkley, Los Angeles, 1984, p.73.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم