صحيفة المثقف

غناء التروبادور والموشحات الاندلسية

670 شمهود 1التروبادور  trovador هو عبارة عن غناء رومانثي - خليط -romance - ظهر في كاتالونيا وجاليقيا وشمال ايطاليا وجنوب فرنسا والبرتغال.. وقد ظهر هذا النوع من الغناء في القرن الحادي عشر على يد الشاعر 1127-1071 Guillermo de Poitiers ثم تطور هذ النوع من الغناء  في القرن الثاني عشر .. ويذكر بان هناك تشابه للشعر الاندلسي في مضامينه مع شعر التروبادور حيث كان شعرا دنيويا خالصا مثل الغزل والحب ومدح الابطال المحاربين .. وبالتالي فان شعراء التروبادور كانوا متأثرين جدا بشعر جيرانهم الاندلسيين العرب الذي كان الغزل ووصف الطبيعة اكثر الموضوعات ورودا في اشعارهم .. ويذكر بان الشعر الرومانثي او اللغة الرومانثية هي خليط بين الموروث الايبيري واللغة العامية العربية او الفصحى . وكان غناء التروبادور غناء جماعي تؤديه فرق جوالة رحالة تنتقل من مكان الى آخر وعادة مايكونون من طبقة النبلاء واغانيهم غالبا ما تدور حول الغزل وتمجيد الابطال ورجال السياسة .. ويذكر انه غناء متأثر او بالاحرى مأخوذ من الموشحات الاندلسية... وقد انتشر بين طبقة الاغنياء ورجال السياسة والدين فغناه الكثير من الملوك وقساوسة الكنيسة مثل الملك الانكليزي ريكاردو قلب الاسد والبابا كليمنت وغيرهم ..

ورد في كتاب - مسالك الابصار- لابن فضل العمري -1349- بان هناك مولى اندلسي يدعى سالم كان عبدا للامير المغيرة بن الحكم - القرن التاسع - اشتهر بالغناء والعزف وانه قد تعلم بعض الالحان من النصارى , وكان المغيرة قد جلب مغنية من المشرق الى جانب سالم ... وهكذا مزج سالم بين غناء النصارى والغناء العربي القادم من المشرق . ويسمي بعض المؤرخين هذا النوع من المزج - بالرومانثي - الى ان جاء علي بن نافع الملقب زرياب سنة 821 قادما من بغداد الى قرطبة في زمن عبد الرحمن الاوسط فجاء بما لم تعهده الاسماع واحدث ثورة في التجديد والالحان والموسيقى في الاندلس ....

ثم جاء الشاعر والفيلسوف - ابن باجة - واخترع طريقة جديدة للموشحات لا توجد الا في الاندلس مال اليها طبع اهلها فرفضوا ما سواها ... وهنا تروى قصة طريفة يرويها ابن باجة فقد القى على بعض قيناته موشحته ..:

جرر الذيل ايما جر       وصل السكر منك بالسكر

فطرب الممدوح لذلك فلما ختمها بقوله :

عقد الله راية النصر      لامير العلى ابي بكر

670 شمهود 3.jpg

فلما طرق ذلك التلحين سمع ابن تيفلويت صاح واطرباه وشق ثيابه .... وقال ما احسن ما بدأت وما ختمت . وحلف ايمانا مغلظة لا يمشي ابن باجة لداره الا على الذهب ... فخاف الحكيم سوء العاقبة فأحتال ان يجعل في نعله ذهبا ومشى عليه.. - وقد روى هذه القصة المقري في كتابه- نفح الطيب - الجزء الرابع.

من جانب آخر يذكر بعض المؤرخين انه حدثت هجرة للنصارى من المناطق الشمالية الاسبانية الى المناطق الاندلسية لطلب العلم والدراسة والعمل في بلاطات الامراء والزراعة والصناعة وغيرها وسمي هؤلاء - بالمستعربين -mozárabe - وكان من بين المهاجرين مغنيات وشاعرات . وكانت هذه الجواري قد جلبن معهن تقاليد مجتمعاتهن , حيث كان بعضهن يرجع الى اصول مدن تتكلم اللغة - الاوكستانية - وهن افرنجيات - . وبالتالي فقد نقلن الاغاني والموسيقى الى الاندلس وبذلك اختلطت الثقافتين وظهر نوع من الشعر يدعى الموشحات ..... ويذكر ابن بسام في كتابه - الذخيرة في محاسن الجزيرة - ان مبتكر هذا النوع من الموشح هو الضرير مقدم بن معافي القبري - القرن التاسع - وهو شاعر مولد وانه قد جاء بعد المولى سالم ب 75 سنة فمالت اليه الناس ونسوا ما سبقه ...

وعندما عاد قسم من هؤلاء المستعربين الى اوطانهم ومدنهم نقلوا معهم الثقافة العربية والاسلامية ونشروها ومنها لون الاغاني وطرزها وفرق الموسيقى وآلاتها بل حتى الامثال الشعبية .... وازداد هذا النقل عن طريق العرب والمسلمين الذين عاشوا في الامارات النصرانية ويسمون - بالمدجنين - al mudéjar

وبذلك فقد انتشر الغناء الشعبي الاندلسي في الممالك النصرانية واصبحت هناك فرق جوالة موسيقية يطلق عليها - التروبادور - وهذه الظاهرة انتشرت في اوربا عن طريق الاندلس . وبالتالي اصبح هؤلاء يتحركون بدون حدود فعبروا الى اوربا حاملين معهم تقاليدهم الموسيقية والادبية متأثرين بفنون العرب فدخلوها لاول مرة بنوع جديد وثوب لم تالفه اوربا من قبل ..... وقد تكررت هذا الظاهرة اليوم عندما بدأت في نهاية الستينات من القرن العشرين حركة الهيب هوب والبريك دانس والبونك والراب وغيرها وهي ايضا فرق موسيقية رحالة انتشرت في كل انحاء العالم .

670 شمهود 2.jpg

الآثار الباقية

يذكر احد المؤرخين العرب المعاصرين وهو الدكتور عباس الجراري بأن الموسيقى الاندلسية المحافظ عليها حتى اليوم في المغرب مماثلة لما هو موجود في بعض الاقاليم الاوربية التي كان لها احتكاك بالمسلمين مثل اسبانيا وصقلية وجنوب فرنسا وجنوب ايطاليا واليونان والتي احتفضت بموسيقاها الشعبية دون محاولة للتطوير او ادخال تعديلات التي قد تغير الملامح على حد ما يثبت غناء - الافلامنكو - الاسباني و- الفادو - البرتغالي .

واليوم تعود هذه الظاهرة الغنائية الشعرية والشعبية على شكل فرق منظمة ومنسقة في المراكز السياحية والساحات العامة وهي تعزف بمختلف الالحان واللغات محاولة منها السير على التقاليد القديمة للتروبادور .. ومن هذه الفرق التي تسمى اليوم في اسبانيا تونا Tuna - - وهي فرقة لها جذور قديمة تعود الى القرن الثالث عشر ومنهم من يقول الى الخامس عشر وكانت تتكون من الطلبة الفقراء الذين اخذوا يتجولون لجمع الاموال لسد نفقات دراستهم فكانوا يعزفون ويغنون الاغاني الفلكلورية . واليوم تتكون هذه الفرق من طلبة الجامعة بزيهم التقليدي القديم وباناقة وجمال ساحر فهم يرتدون الملابس السوداء من سراويل قصيرة وقميص وعباءة تنزل على الظهر عليها شرائط من الالوان المختلفة كما توجد على احد الاكتاف مجموعة من اعلام وشعارات الامارات والدول وهي اشارة الى اممية الموسيقى وتجوالها... ويظهرون في الاحتفالات الخاصة والعامة والاعراس وعلى نغم الالحان والموسيقى القديمة.... وهناك فرقة اخرى تسمى اليوم الجوتيس Chotes - - وهي من التقاليد المدريدية الموروثة حيث لها لون آخر من الشعر الغنائي الرومانثي مثلا لازالت اغنية ترددها بعض الجماعات الغنائية الشعبية ومطلعها في الاسباني .

Por la calle alcala

Todo el mundo viene y va

Por la calle alcala

وهي على نغم الموشحة وتعتبر رومانثي لانها خليط من الكلمات العربية والاسبانية المحلية وقد ورد في هذه المقاطع كلمة alcala اي القلعة وبالتالي فان الاغنية تترجم هكذا: في شارع القلعة, كل الناس تأتي وتروح, في شارع القلعة.

وقد صدرت بحوث ودراسات كثيرة جدا في مطلع القرن العشرين حول هذه المواضيع على يد عدد من المستشرقين الاسبان منهم المستشرق الكبير ميغيل آسين بلاثيو واميليو غارثيا غومث وماريانو مورينو والاخير هو مؤرخ واستاذ كبير وقد ترجمت بعض كتبهم الى اللغة العربية وغيرهم .Mariano Moreno .Emilio Garcia . Miguel Asin Palacio.

وبعد الانفتاح الاوربي على ثقافة الشرق بدأت تقام مهرجانات ثقافية وفنية متبادلة لتعزيز اواصر الصداقة والمحبة بين البلدان واثراء الثقافة الانسانية والعلاقات الاجتماعية بين البشر . وقد وفد على اسبانيا كثير من الفرق الفلكلورية العربية في مناسبات وطنية واصبحت مدريد مركز استقطاب لهذه الفرق الموسيقية الشعبية

فكانت اعناق السواح تمتد اليها مذهولة طربا واعجابا بتلك الفنون الجميلة التي لم يألفوها منذ عدة قرون . وقد شاهدت فرق مصرية ومغربية  شعبية فلكلورية تقدم غنائها ورقصاتها في وسط مدريد  في ساحة plaza mayor   وسط جمهور غفير من الناس خاصة السواح الذين  انسجموا وصفقوا لهذا اللون من الفنون الشعبية .

 

د. كاظم شمهود

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم