صحيفة المثقف

نوتنغهام في علبة سردين

قصي الشيخ عسكرواستهلكته، في بضعة أشهر أو سنوات، جهود مضاعفة في الوقت نفسه نشوة بعيدة الغور، كان ينكبّ ساعات الصبح على البحث، يناقش الأستاذ المشرف ويدون ملاحظاته، ثم يذهب إلى المختبر يتعامل مع السوائل والمركبات فيحاصر جرثومة اللشمانيا.بطن البعوضة الناري وانتشار الشعر على جسدها حمرة قاتمة في الأسفل.. عالم صغير خفيّ مخيف لا توقفه حدود، يدخل تفصيلات ثم حين يتحرر تطل عليه الحرب الكبيرة تلك التي تطايرت وانتشرت أسرع من جرثومة بين يديه يراقبها عن قرب، من قبلُ ، يوم اشتعلت على عجلٍ، بدت ذات نهاية قريبة:بعد أسبوع وربما، إن تشاءمنا وأفرطنا، تستهلك شهرا حينذاك اعتاد أن يتصل بالهاتف فيطمئن غير أن الحرب مثل اللشمانيا أبت أن تحاصره.. كلمّا حاصرتها من جهة امتدت لمكان آخر وانتشرت فيئس من نهايتها، وكان الطالب الرفيق مسؤول المنظمة يجتمع بهم كلّ شهر ويسأل السؤال التقليدي الذي اعتاد عليه كلما قرب العام الدراسي على النهاية وأقبل الصيف:

أي من الذين يسافرون خلال العطلة إلى أهلهم يرغب في الذهاب إلى الجبهة.

لايخاف.. حقا لا يخاف.. سوى أنه لا يرغب في السفر سواء وقعت الحرب أم لم تقع.

لا بدّ أن يقضي السنوات الثلاث مع اللشمانيا!

هناك من اندفع، هو الحماس أو الحياء، رحل وقضى الصيف الساخن على الجبهة ولم يُعْرَف أنّ أحدا، من طلاب البعثة، قُتِلَ في الحرب، المتطوعون عادوا وأغلبهم من خريجي الثانويات وبعض طلبة الدكتوراه.. عبد العال كان هناك في صيفين، تقاسمهما بين العيش مع أهله والجبهة.. تسمعه ينتقد الحرب ولا يتردد في اقتحامها.. لغزآخر تفهمه ولا تفهمه عنه.غامض واضح.قد تشكّ فيه ثمّ لاتصدق بهاتك.. ليس بمقدور مسؤول المنظمة أن يجبر أحدا سوى أنه بعض ردّ للجميل، يارفاق.مادامت الدولة منحتنا امتيازا، بفضلها نعود أطباء وموظفين محترمين، مهندسين أساتذة جامعات، فلم لا نترك مقاعد الراحة مدة شهر فنقاتل العدو، أسلوب خطابي يمكن أن يتكرر في كل لقاء..

على يقين أنه لايخاف..

لايتردد فذهنه مشغول بحدث آخر .

ولعله كان يود السفر مرة واحدة خلال مدة الدراسة، عطلة واحدة لا أكثر أمّا الآن حين تغيّر الوضع فيمكن أن يلحق ببقايا الحرب حين ينض يديه من أطروحته.

متأكد أنه لن يتردد، وربما يجدها أشلاء..

هكذا أقنع نفسه، واقتنع أنه يمارس حربا أخرى على قوى الخفاء التي جلبها معه، فكلّ شيء الآن يسير على مايرام ولكلّ حادث حديث.

أما النشوة المضاعفة فالتي يقضيها بعض الليالي حين تتفرغ له جوستينا.. كانت ترتاح عادة من الشغل يوم الإثنين، فتزوره في شقة الطلبة، وقد ألِفَها وعرف عنها الشيء الكثير بل رآى جسدها يتجدد كل يوم كما لوكانت تستحم بماء يعيد لها رونقها كل دقيقة.قد تكون عثرت على منهل الحياة السحريّ.لا يدري أية ساعة دفعتها للتفكير في أن تمارس مهنة البغاء لا تعليل عندها سوى أنها كما تدَّعي أكملت المرحلة الثانوية، وجدت وظيفة في محطة بترول:أربعمائة جنيه كلّ شهر وفي أشبه ما يكون خاطرا يندّ عن حلم جديد أدركت أن هناك بيتا يملكه شرطي متقاعد.بيت دعارة، شيء جديد نوت أن تجرِّبه ولعلّها لا تنوي البقاء طويلا فيه.لِمِ لا نجرب الأشياء فنحياها كي نعرفها عن كثب.

كانت تربح الفا وخمسمائة جنيه في الشهر .لحظة لا يمكن أن تتجاهلها..

ولا وقت لأن تتردد..

يا ترى هل تردد ساعة وقع بصره على إعلان في الجريدة ، فعمل في توصيل البيتزا، صكّ بين يديه من السفارة كلّ شهر يغطي نفقاته، تبقى التجربة الجديدة التي تجذبه.. ماذا عن سنوات طويلة استهلكته على مقاعد الدراسة وأمامه حين يعود إلى البلد مجال واسع.. أستاذ في الجامعة، صاحب مخبر طبي، ليفعل أي شيء فهنا تضيع كثير من الأسرار وليكن مايكون.. هذه بريطانيا أم الرأسمالية، لابدّ من تجربة النقود، يقتنع تماما أن جستينا فعلت ما تعتقده الصحيح مثلما فعل فاندفع مع إعلان في جريدة مركونة على الطاولة، هل هي الغيرة بدأت تراوده؟في بريطانيا النساء يمارسن الجنس بوضوح.. منهن من يرغبن بالنقود وأخريات مجرد البحث عن لذة، لا يهم، لو التقط جستينا من "بوب"أو الجامعة عبر علاقة حميمة لقرأ دون أن يعي آثار الرجال على جسدها من أنكليز وعرب وسياح.الدنيا واضحة.. منفتحة.. لاحدودلها مثل بعوضة تنتقل على أجساد البشر ببطنها الحمراء.هي الغيرة تراوده إذن! هل هو الحبّ.ما النتيجة؟ ليشطح به الخيال بعيدا فيرى أنها ذات وضع مختلف.. في بيت آخر غير البيت " 116" ، وليتماد في تصوره فيجد أنها عذراء.قد يتجاوز فيقلب الحال:لم يأت على نفقته.. طالب بعثة والزواج من أجنبية خيانة.لا جستينا ولا سواها..

مازالت السنوات تمتد أمامه وتراوغه مثل فطر ينشطر فلِمَ تعجل الأمور.

راح يطلّ في عينيها ويمرر أصبعه على جبهتها حيت عضت إبهاهه عضة خفيفة فقبلته وقالت:

- الإثنين القادم عطلة، بانك هولداي، واليوم ذاته عيد ميلاد أمي مارأيك أن نذهب معا إلى ليستر؟

فأجاب من دون اعتراض:

- حسنا ليكن!

- ونمر في طريقنا على معلم أثري أظنه سيعجبك!

- سيعجبني مادام يعجبك فأنالم أزر إلا قلعة روبن هود:

كان مع عبد الخالق، يطالعان الدروع، ، بعض مخلفات الماضي الجميل، وقبواً لجأ إليه المتشبثون بالحياة خلال الحرب هؤلاء الذين يظنّ بعضهم أن روبن هود حقيقة والسيد تشرشل خرافة ثم يجلسان في حانة التقطا أنفاسهما على أحد مقاعدها، وكانت صاحبتها البائعة تشير بإصبعها إلى صورة فتاة صغيرة .طفلة جميلة.بريئة ذات ملامح ذكية، وتقول بابتسامة زاهية: هذه صورتي كنت في السادسة من عمري يوم اختبأت مع أمي وأبي في ملجأ القلعة هاربين من طيران الألمان واستفاق من نشوة غامرة وهو يسألها قبل أن ينصرف من الدكة حاملا كأسيهما حيث المنضدة عند المدخل:

- سيدتي مارأيك في الإثنين أيهما حقيقة؟

- كلاهما حقيقة وكلاهما خرافة!

وقال تستفزّه من شتاته:

- سنرى جميع المعالم في لندن وريف نوتنغهام.أمامنا الصيف والعطل وعطل البنك هولداي وصمتت برهة لتقول:

- أرجو ألا تنزعج من إخوتي واخواتي ثم نعود في القطار بعد التاسعة!

- ولِمَ يضايقونني؟

فقالت مبتسمة:

- أنا من ليستر بيت أمي هناك، لي ثلاث إخوة غير أشقّاء من زوج أمي الأول، شقيقان وشقيقة، وأخ وأخت من زوج أمي الثاني، وأخت شقيقة من أبي زوج أمي الثالث!

معادلة تحتاج إلى كأس ليفهمها:

- كلهم أجدهم هناك؟

فتهزكتفيها وتمط شفتيها عن راحة واقتناع:

- إنَّها فرصة لنتجمع كلّنا في عيلاد ميلاد والدتي، نحن لا نلتقي مجتمعين في أعياد رأس السنة لكنَّ شملنا يلتمُّ في هذا اليوم، أمي وأزواجها الثلاثة وأنا وأختي التي تصغرني بسنتين أمي بقيت على علاقة مع ازواجها، نجتمع كلّنا عندهاّ!

وجاء عصر الأحد، فغادر المطعم الساعة العاشرة، وحين دخل البيت وجد في الصالة عاهرتين في الثلاثين من العمر تلعبان الورق خيّل إليه أنّه يوم قدم بالبيتزا رآى إحداهما تجتاز إلى دورة المياه، ولم تغفل أحدهما أن ترفع بصرها إلى التلفاز الذي لا يعنيه، لحظتها، أي شيء كان يبث.طلبت منه أن ينتظر في الصالة بضع دقائق حتى تفرغ من ارتداء ملابسها.

جلس مرتبكا على أريكة تقابل منضدة انتشر عليها الورق، ثم جذبه المشهد الناعم الهادئ.لقد ألف المكان، أصبح واحدا من أهل هذه الدار.زيارة واحدة سابقة جعلته يشعر بالألفة مع ذلك وجد من المحال أن يلتقي مع جوستينا على سريرها.لا يظن نفسه أي عابر.انتبه إلى لاعبتي الورق، أحداهما بيضاء ذات وجه مورد وعينين ذكيتين تبحثان عن خبث أصيل.. وتهومان على بعض أسرار من المحال الكشف عنها كانت ترفع نظراتها عن الورق بحجة النظر إلى التلفاز لتستوعب ملامحه. .. هكذا تخيّل الأمر، أما الأخرى الطويلة الناعسة ذات الشعر الأشقر المنفوش التي يظنه أبصرها من قبل فلا يقدر أن يدرك عنها أي انطباع، وثمة حركة ما في غرفة مغلقة. لا يدري عددهن، ولا يهمه ذلك. التفتت إليه اللاعبة ذات العينين الذكيتين الخبيثتين:

- أتحب أن تشرب شيئا؟

Thank you I am ok

فاجأته التفاتتها وسؤالها فشك في أن تخمينه ليس على صواب.. كان يجلس مثل طفل اقتادوه إلى الصف في أول يوم دراسي، يضع احتمالات ساذجة ثم سرعان ما يغيرها.. واستعاد راحته وهو يتابع اللعب الهادئ، لابدّ من أن يراقب دون أن يعير اهتماما لما يدور حوله، بالضبط يرى نفسه قطا هادئا ينعم بالجلوس جنب مدفأة نشطة في عز الشتاء وهو يتطلع بسيدته وسيده اللذين انهمكا في القراءة.. سنوات يرصد اللشمانيا، الطفيلي والبعوضة فأية مشاعر تلك تنتابه هذه اللحظة.وفُتِحَ أحد الأبواب المغلقة فخرج رجل في الخمسين من عمره ذو ملامح شرقية، تجاهل اللاعبتين والضيف، وهبط مسرعا نحو الباب الخارجي، أعقبته العاهرة التي التقاها أول يوم قدم فيه يوصل البتزا.ابتسمت إلى اللاعبتين، وقصدت الحمام:رمقت اللاعبة ذات الوجه الطفولي رفيقتها، ومطت شفتيها وقالت:

- ناتالي هل صاحبك مازال صامتا!

Yes but this is not my problem

وهتفت وهي تلقي ورقتها على المنضدة وتخاطب صاحبتها:

Yes to be silent but game is over

وأطلت جوستينا بهيئة جديدة.كانت ترتدي سروالا قطيفة أزرق وسترة جلدية أنيقة بلون رمانيّ، بدت بزيّ ارستقراطيّ فخم.بسطت يدها نحو الجالستين، وقالت:

I forgot to introduce my boy fried Nadir said

فابتسمت الاثنتان ورحبتا بالضيف وقالت الأخرى التي خسرت شوط الورق وهي تغمز بحاجبها:

- لا تنسي أن تقدميه لنا في المرة القادمة!

قال نادر وقد شعر ببعض الإحراج:

- هل أتكلم في الهاتف فأدعوَ سيارة أجرة:

- مركز المدينة قريب .. المشي أفضل.

ألقت آخر نظرة على مرآة مستطلية جنب الباب الخارجي، ، واستندت إلى ذراعه، راحا ينحدران نحو شارع " ماونت هوتن " الذي رآى الترام يشطره، بعد أكثر من ثلاثة عقود، بسكته الملتوية وأسلاكه المعلقة في الهواء.لن يضلّ الطريق إن رجع ماشيا متتبعا طريق السكة، فقبل سنين مضت بأسرع من وهم أو خيال عابر.استندت إليه، يدها تقبض على ذراعه.كان يفكر بشيء مقرف.كم رجل مرّ على جسدها قبل أن يأتي إليها؟إنكليز.. عرب.أفارقه.من كان أكثرهم كرما معها.يدفعه الفضول:

- ماقصة ناتالي والرجل الخارج من عندها.

ضحكت باستخفاف:

- هذا لا يتكلم، يتصل عبر الهاتف يسأل عن ناتالي ولا تعجبه غيرها ثم يأتي يدخل عندها صامتا ويخرج منها مثلما جاء!

- كم عددكن؟

- ستة وأردفت : maybe sometimes five

راح رأسها يلمس كتفه، وقبضتها تزدادعلى عضده، وحين وصلا إلى حديقة البرتون، وقفت.نظرت في عينيه، وقالت:

- قبلني؟

رفع شفتيه عنها:

- قد يتعبك المشي، نعود نستقل سيارة أجرة؟

- كلا أبدا

على الرغم من ندى الليل، وضباب خفيف يشيع لزوجة على وجهه إلا أنه لم يشعر بالتعب، ظن بضع قطرات سقطت على رأسه فأدرك وهو يرفع عينيه إلى السماء أنه ليس المطر بل هو ندى يخرّ بصمت من أوراق الكاستانيا المصفرة. كان باب " البرتون" مغلقا ولا يفصلهما عن أقفاص الطيور عند مجرى الماء سوى السياج وبضعة أمتار، لا غناء أو زقزقة، فكل ما في الحديقة ساكن وهادئ ولم يعكر صفو الشارع سوى مرور سيارة أو همهمة من مكان بعيد، وقبل أن يعبرا الحديقة باتجاه رصيف جامعة ترنت جذبته ووقفت.قالت وهي تشدّه من شعره:

- قبلني قبلة طويلة!

كانت تدلق لسانها في فمه فلا يقشعر.لكن كم زبونا جاء اليوم.العواهر لا يعبأن بالقبلات، والمداعبة.لا يقبلن، جوستينا تؤدي واجبا مثلما يفعل مزارع في أرضه أو ومهندس وموظف في دائرة ما، سألها وهو يلتقط أنفاسه:

- هل تودّين أن نجلس في بار.

- هزت رأسها ويدها تختلس رطوبة على شفتيها:

- بل لنكن وحدنا ففي غد نسافر في رحلةطويلة!

5

قد يبدو المطبخ بطعم آخر صباح اليوم التالي، جلست جوستينا نشطة الساعة التاسعة دخلت المطبخ تعمل القهوة، فالتقت" Robyn "وتبادلا تحية الصباح، إذن سيعرف فريدريك من صديقته أن نادر لم يعد وحده، أما تيموثي الذي يقضي هو وإحدى المراهقات العطلة في مكان ما فإنه سرعان مايعرف بعد حين فيدفعه فضول مألوف فيه إلى أن يسأل عن بعض التفصيلات.

لايهمّ.لا يختلفعنأيّ طالب بعثة.

يريد أن يعرف الآخرون أن لديه صديقة.

بين لستر ونونتغهام أقل من ساعة بالقطار، وجوستينا تتعجل وتنوي مغادرة منزل الطلبة مبكرين كي تلحق الحافلة.حماس غريب لم تفصح عنه.وخلال دقائق كانا في فكتوريا سنتر حيث غادرا إلى مكان ما.. استهلكت بصره بنايات متناثرة امتدت باتجاه الافق في نهاية مدينة نوتنغهام.خضرة لامتناهية، منحدرات وسهول تعانقها هضاب، مشهد لا ينتهي.هي المدينة التي استوعبت العالم فرآها من قبل وبعد ثلاثين عاما.تتغير ولا تتغير.عند مواقف ينزل أو يصعد منها العابرون.غابات كأنها تهرب بخفّة من الرؤيا نحو الهضاب الوادعة، مزارع تسيجها أسلاك وتنتشر على رقعها الخضراء خراف، وبقر بعضه جالس يقضم وأخريات يتأملن الأفق، وثمة اسطبلات لخيول تجلد ظهورها وجوانبها بذيولها الطويلة.إلى أين تاخذه هذه المجنونة؟تداعب ذهنه حوادث قرأها وأبصر بعضها في التلفاز.رجل يقتل عشيقته في غابة. نهاية طريق زراعي تذبح سيدة في الخمسين من عمرها زوجها.كانت جالسة جنب النافذة تحدِّق بالمناظر البعيدة، ورأسها يحتك بكتفه.المسافة بين نوتنغهام وليستر لا تتطلب أن نستدعي كل تلك المشاهد.:

- إلى أين تأخذيننا؟

- مجنونة أليس كذلك ؟

وصمت.. ظل رأسها يحتك بكتفه، والحافلة تقذف مافي أحشاءها وتلتهم من جديد، والمشاهد لا تنتهي، وبدأت تنتشر بقع من الغيوم فاختفت الشمس حتى توقفت الحافلة في" جستر فيلد":

- هنا ننزل لكنها ليست النهاية!

- ماذا؟حافلة أخرى؟

تواريا نصف ساعة في مظلة لموقف آخر، كان يشعر إنه أصبح أكثر حرية.تحرر هذا اليوم من الذبابة، وفطر اللشمانيا.عيناه تجوسان في السماء فتبحران مع قطع الغيوم المتناثرة في السماء، وحمام تكدس يلتقط بقايا طعام تناثر بين الرصيف وضفة ساقية تصب في نهرجانبي، وكان هناك مقابل الموقف ابن عرس يهبط من شجرة بلوط ويرتقي أخرى.أيقن أنه نسي كل شيء، لم تعد اللشمانيا تسجنه على الأقل هذا اليوم بل هذه اللحظة.ما أشقانا حين نعرف ذات يوم أن حشرة قذرة تقتادنا مسافات طويلة فنصبح ذوي كيان مرموق، وربما ما أسعدنا ونحن نراقبها في عالم الخفاء.. لوكانت جوستينا طالبة معه، يا ترى أي موضوع كانت تختار، هذه المرة تسللت يده إلى شعرها، أحس برغبة في تقبيلها.

- هذا آخر موقف؟

قالت عبارتها وضحكت، فتساءل:

- هنا تسكن والدتك؟

- هذه قرية كراب ويل لكننا نسير ميلين نحو بيت على التل!

حقا إنها لمجنونة، إلى اين تقصد، بيت وتلّ ، نمشي ميلين، هذا آخر موقف للحافلات، إما أن تذهب بسيارتك الخاصة أو تمشي ميلين، جوستيانا تقول إنها تشتري سيارة وبيتا بعد بضع سنوات، غير أنها الآن تمارس جنون المشي، خطواتها تسير به وسط طريق عريض يشق غابة كريف وود، وأرض مفتوحة على خلاء أخضر، مسحور مفتون ليقل عن نفسه مايشاء قبل أن يعود إلى سجن اللشمانيا.إلى أين نحن نسير؟

هل ترى ذلك البيت."أشارت نحو بيت يرتقي على تلة شمال غابة تآكلت خاصرتها من ناحية التلال فشخصت مكان أشجارها المتهاوية بعض بيوت ذات طراز الحديث، فاترقيا. التلة.بدآ يلهثان، وسرعان ما استقبلهما ممر عريض معبد بآجر رمادي باهت يحيطه بساطان أخضران وثمة مدخل ذو ثمانية أعمدة لشرفة تمتد قبل الباب ببضعة أمتار.. .

كان ذلك هو مدخل البيت الفكتوري الفخم!

عالم آخر.

دنيا قديمة تطل عليه، تنوء بموج جديد من الزوار.. مسكت ذراعه والتقطت أنفاسها.لم تعد تثير في نفسه الغثيان قط.نسي أنها تبيع جسدها لتملك سيارة وبيتا فخما.كل يطمح للأفضل بطريقته الخاصة.. دول تدخل حروبا.. وبشر تعيش نزاعات.. وهونفسه نادر.. نادر بن موظف الضرائب تبع حشرة وجرثومة ليحتل درجة أرقى.. أول مرة علمته الحب.التقاها بشكل وإذا به يكتشفها بشكل آخر.سيذكر حقيقة وهو يتابع اللشمانيا أن الحامل والمحمول ثابت يمكن أن يتابعه فيضع حدا له، أما جوستينا فبدت له وهويقف معها على أبواب البيت القديم بوجه آخر، ليكن موضوعيا على الأقل هذه اللحظة التي يلج فيها بيتا لايعرفه من قبل، أليس الانبياء مقدسين، لكنهم مثلنا يأكلون، ويشربون.يتبولون ويتغوطون.ولابدّ أن يكون لما يخرج منهم رائحة كريهة وسموم.. أما نحن فيمكن أن ننسى ونتذكر الجميل وحده.. لا مشكلة إذن، فقد تأتي الانفعالات متأخرة بعض الأحيان كالخريف الذي لما يعد يلتهم بصفرته الحشائش وأوراق الأشجار، مسكت يده وجالت به على مشاهد غريبة عنه.من قبل رآى تلك الحشرة الحاملة الوسيط من وراء زجاجة، والفطر أيضا أبصره ينمو ويموت بنوع من المضادات، المشاهد أمام عينيه لا تحتاج إلى مكرسكوب عالم قديم ملون يحثنا كي نتابع الخفاء.. أثاث فخم ضخم ساكن.. ألوان زاهية تعجز عن أن تنفخ الحياة في مقاعد وكراس أو خزانات عرض وملابس.. لوحات، وجوه عاشت قبل خمسة قرون تطل عليه وتتجاهله.عيناه وعيون الحاضرين تبعث فيها الحياء من خلال نظرات طويلة ممتزجة بدهشة وانبهار.. صور قد لاتشعر بوجوده.تقول له جوستينا هامسة :اللوحات ندرك جمالها حين لانقترب منها كثيرا لئلا نرى ضربات الفرشاة وآثار شعراتٍ تُشَوِّهها.يهزرأسه و يتراجع خطوة يتمعن في لوحة أخرى. يجدها محقة فيما تقول.تبهره لوحة لامرأة ذات وجه طويل وعينين ثاقبتي النظرات.أنف دقيق وعريض من جانبه الأيسر، كانت ترتدي قلادة بثلاث سلاسل وطوقا يحيط رقبتها من عشرين أسطوانة.في عيني السيدة نظرة جادة لا تخلو من صرامة وذكاء."كونتيسة شروف بري".لا يعير اهتماما للاسم وتنتقل عيناه إلى صورة فوق الكونتيسة.كراس ومظلة تشبه العرش .حديقة ذات أشجاركثيفة أيّ شجر يمكن أن يلتبس بذهنه تلك اللحظة.. مرت ساعة على انتصاف النهار وهما يتمعنان في اللوحات والأثاث.قلة هم رواد المكان، لكنه يبدو ينبض بالحياة في كل فصول السنة، والسؤال الذي يعنيه أين منزل السيدة الأم ومظاهر عيد ميلادها من كلّ مايراه؟مع ذلك آلى الاّ يتعجّل في سؤاله.قالت لنعد الآن.وهبطا من الطريق ذاته.مسكت يده:

- اعتدت أن أزور هذا البيت كل عام مرة خلال عيد ميلاد أمي!

هي نفسها قريبة منه بنَفَسها العذب، والصراحة والبراءة، وبعيدة في مواضع أخرى يكره ان يتخيلها:

- مكان جميل بلا شك هادئ!

قال ذلك وقد أخذه الهدوء إلى درجة السكوت.مازال بعض الغموض يخامر رؤاه.تأتي كلّ عام مرّة لترى حياة لاحراك فيها، وبالأمس وضع عينه على الجهاز فوجد ما لايُرى يتحرك، وبالأمس قبله أو الشهر الماضي وربما أبعد دخل قلعة نوتنغهام فرآى السيوف تتحرّك، عاش مع روبن هود في الغابة، ودخل الملجأ من ضمن من أرعبتهم الغارات الألمانية، وهنا يحسه سكونا أقرب إلى الموت.مفارقة عجيبة بين سكون وآخر:

- هذا البيت هاردوك هول مبني بين عامي 1591 و1597 مالكته تدعى بيزهاردوك.

صارمة الملامح بوجه رجولي ليست بجميلة:

- ماذا؟ السيدة ذات الوجه الطويل والنظرات الثاقبة؟

كونتيسة شروف بيري، سيدة القصر هي مثلي الاعلى، حين توفي والدها بدد أخوها ميراث العائلة، تزوجت وهي صغيرة السن.مات أزواجها الثلاثة. فتزوجت الرابع الذي مات فورثت عنه ثروة هائلة انتقلت إليها ففاقت رجال الأعمال حتى أصبحت تحتل المرتبة الثانية في الغنى على النساء والرجال في إنكلترا.

يا ألطاف الله.لو زار مصر لكان يرآى الأهرام عن بعد، يُقسِم أنّهلا يجرؤ أن يدلف إلى عالم محنط، لعنة الفراعنة هي نفسها لعنة مدام بيز هارد وك.. قد تختلف المشاهد في بلد عن بلد بيد أنها تبقى متكاملةً متآلفةً من حيث الجوهر.قطعت عليه سَرَحَانَه:

- هل اقتنعت أنها مَثَلي الأعلى!

- ربما لكنك " تردد قليلا"لست شؤما مثلها!

- أوه دعك ياعزيزي من هذه الخرافة!

كان عليهما أن يعودا إلى موقف الحافلة لكن قطع الغيوم التي تركاها خفيفة في جستر فيلد لاحقتهما في طريق العودة.في البدء لاحت شفافة ناعمة ملساء لا تثير الريبة ثم نثت وانهمرت بغزارة، أحس بلفحة برد ورطوبة تدغدغان صدره، لكن يدها التي تقبض على معصمه جعلت بعض الدفء يسري في جسده وبدا شعرها المبلل مثل قطع كريستال ناعمة تتلاعب بالضوء، وقدغسل المطر والبرودة أفكارا سوداء راودته قبل قليل.ليضحك ويلعب كطفل.لن يموت لترثه زوجته فتتزوج من بعده.

إنه يشعر بالأمان معها:

- أووه أهكذا أزور أمك في عيد ميلادها فارغ اليدين.

- لا عليك سأشتري قنينة نبيذ وباقة ورد من مخزن محطة القطار وبإمكانك أن تفعل مثلي!

بعد عودة متلفعة بالمطر، ومسحورة بمناظر نفضت عنها نشاط الصيف.المشي أكثر من ميلين والخافلة مرة أخرى، كانت شقة الأم تنتظرهما.وجدا لحاضرين يتأهبون للاحتفال، أعلنت وهي ترفع يده لأبيها وتخاطب إخوتها وزوجي أمها:

Nadir Said my boyfriend

يرتبك قليلا، ويعودإلى توازنه.

يحتضن الام وآخر أزواجها.. يصافح رجلا يحمل أسفل رقبته ورما يعرف فيما بعد أنه السيد نورتن الزوج الثاني، ثم يصافح البنات والأبناء.هل يا ترى يعرف هذا الحشد أن جوستينا تمارس البغاء.لا.. كظم ارتباكه ثم استعان بالضجة.. تلاشى خجله، كان يوغل في عالم جديد مشحون بالخيال والنبيذ لم يعتده من قبل.

6

هي المرة الثانية التي تقدمه فيها صديقا.ستنطبع تلك الصورة بذهن جاريه في السكن الجامعي، وفي ذهن كلّ من يراهما معا.. كان محاطا كل عام بذلك اليوم الذي يجتمع فيه مع الجميع، الوحيدون هم الذين يعرفون حقيقة جوستينا.. حفظ اسماءهم، ودخل معهم في حوارات مفتوحة.نادر سعيد من العراق.شقيق جوستينا الأكبر رالف في الأربعين من عمره.يأتي مع والده في بسيارته من ليفربول.مهندس مكائن يعمل على متن حاملات الطائرات، من حسن الحظ أنه لم يتخلف عن حضور عيد ميلاد والدته، أول لقاء تحدث عن الحرب قال عن نفسه إنه يعمل على متن حاملة طائرات لكنه مدني.عمل من قبل في هندسة السيارات ثم انتدبته حاملة الطائرات أجور العمل في البحر أعلى لذلك لا يعرف أي سبب دفع البلدين، العراق وإيرران للحرب.. البلدان ليسا بحاجةلنفط.. ظل يبحث عن سبب كل عيد ميلاد يلتقيه غير أن جوسيتينا كانت تقطع عليه حديثثه كل مرة، اندفعت تهدم نظريته في الحرب حين ذكرت الفوكلاند والسبب الذي جعل بريطانيا تحارب هناك على أرض غير أرضها.. يختلف الآخرون ويتفقون ثم في نهاية الأمسية يبدون راضين.. كان الزوج الثالث مستر أليان يشكو من ضياع الغابة يقول كلما جاء إلى نوتنغهام وجد غابة شير وود تنحسر.فتقوم مكان أشجار الكستناء البرية بيوت جديدة.تسأله الأم :أين هم مجموعة الخضر المدافعون عن البيئة؟ فترد عليها لويزا الأخت الشقيقة:هناك شاعر من نوتنغهام كتب قصيدة يرثي بها الغابة قبل موتها، فردت الأم:أنت مغرمة بالشعر دائما، كان الجميع يتحدثون أحاديث شتى من الشعر إلى الحرب والغابة والبحر ماعدا "تيني" التي اكتفت بقنينة ماء، وهمست جوستينا في أذن نادر وهي تقوده إلى الطابق العلوي حيث الحمام:تيني فقدت كلية لها بسبب السرطان وربما تعاني من مشاكل في المعدة، فاعترض:لكن "إلف" يبدو خشنا.كان يعني شقيقها من زوج أمها الثاني الذي لفت نظره بغلظته لحظة دخلا المنزل.. عانق جوستينا جميع الأخوه ماعداه اكتفى بالمصافحة وقد لزم الصمت طول الوقت تهمس بأذنه: لا عليك منه هكذا هو طبعه، أما "لويزا" الأخت الصغرى الشقيقة الشاعرة فبدت مثل النحلة.تحركت أكثر من غيرها بين المطبخ والصالة ولعلها جاءت إلى المنزل قبل الجميع كانت الأكثر رشاقة وجمالا، وإن بدت ملامحها أقرب إلى رالف المهندس، غير أنه لم يحفظ خلال عيد ميلاد الأم لأول الاسماء كلها.انطبعت فقط في ذاكرته وجوههم الخالية من اللشمانيا.عالم الخفاء وجده لا يليق بوجوه الآخرين.. راح يبتسم ويحدث نفسه حذرا من أن يسمع هواجسه أحد:هل يُعقل أنه يرغب في أن يرى فطرا، يحاصره بزجاجة وبعض المركبات والسوائل، يأخذ مكانه على الوجوه.قد تبدو بعض الملامح أفضل، والأخرى بشعة مع اللشمانيا.فالجميع سعداء، وفي لحظات توقفت الثرثرة.. انحسرت سنوات، وبانت كلها في يوم واحد هو ولادة الأم جوزي.لحظة صمت، وقف الزوج الأول باتريوس وأخرج ورقة صغيرة من جيبه:

- عزيزيتي جوزي أنت زوجة رائعة وأم عظيمة.أنت تعرفينني لا أحب الكلام الطويل.بسيط في حياتي وسهل وإذا كان هناك شيء أحب أن اذكره فهو تلك الايام التي قضيناها معا.عيد ميلاد سعيد.

صفق الجميع ونهض الزوج الثاني، وتحدث ارتجالا:

- أنا سعيد جدا بهذا اليوم، لأنه يجمعنا جميعا.آباء وأبناء، مملكة حلوة لملكةرائعة اسمها "جوزي"، ونهض الثالث والد " ليزا" و"جوستينا" وقال:

- حسنا، هل من شيء جديد، كلّ عام نعيد الكلمات نفسها، وأنا شخصيا آمل لجوزي حياة مديدة لكني اعتدت ان أقول كل عام طرفة عابرة أختلقها أوأسمعها.. هذا العام تسمعون مني نكتة تخصني أنا وجوزي للمرة الأولى"توقف ارتشف جرعة من كأسة وواصل" : ثاني يوم ولادة ابنتنا الكبرى "جوستينا"وصلت وصلت إلى المشفى من مانشستر ثم اكتشقت أنه لم يبق معي نقود تكفي لشراء باقة ورد، نظرت حولي فأبصرت حديقة المشفى الخلفية عامرة بزهور مختلفة، تلفت مرارا وبدأت أقطف ورد الحديقة، ولم أع أن "جوزي" كانت تجلس في غرفتها أمام الشباك وتتطلع إليَّ بدهشة فدخلت وعانقتها، وقدمت لها الورد، صمتت ولم تخبرني إلا بعد أيام!

استغرق الجميع في ضحك صاخب وتبادلوا الأنخاب، كان نادر يرفع كأسه نحو جوستينا فقالت الأم " جوزي":

- لقد قلت لك كانت أجمل باقة أتلقاها!

فردت جوستينانا بصيحة:

- ولن تتلقي مثلها قط!

ثم نهضت"لويزا"وراحت تتحدث بلغة الشعر:

لاشيء في هذا العالم أجمل من الأم

أمي جوزي ليس هناك ماهو أعظم منك

لانك جوزي

لأنك أمي فأنت الأجمل دائما

عندئذ تطلع إلف إلى " جوستينا" بنظرة ذات دلالة، قصد مكانها وانحنى يهمس في أذنها فغادرت مكاننها ولحقته إلى غرفة تطل على المدخل، ران صمت على الجميع وبان قلق بوجه الأم، فمسحت لويزا على يد أمها برفق.ابتسمن وعقّبت:

- لا تقلقي سيعودان!

بعد لحظات كأنّ الجميع حبسوا خلالها أنفاسهم ، انفرج الباب، وأطلت جوستينا بملامح تدل على الغضب أعقبها إلف الذي لزم مكانه واجما كأنه يراود نفسه بين الصمت والكلام عندئذ نهضوا واخذوا يغنون :

happy birthday to mum happy birthday to Jozy

راحت السكين تهوي على الكعكة ثم تبادلوا الأنخاب، وفجأة كما لو أن عاصفة فارغة تمر من دون أية ملامح تسبقها أو أي أثر يدل على قدومها ترك "إلف" الفظ كأسه وقطعة الكعك واندفع إلى حيث تجلس أمه، انحنى يعانقها.. قَبّل وجنتيها وانفجر في بكاء هستيري.. لحظات مرت ثم خرج من دون أن ينبس ببنت شفة فشيعته الأم بابتسامة باهتة وران صمت على الجميع فتحدثوا بهمس.كانوا ينسون إلف تماما. .أبوه وأخته احتضنا الأم.. لكن حالما أعلنت الساعة التاسعة كان كل منهم يغادر إلى مكانه البعيد!

7

بدا هناك تغير واضح المعالم في شقة الطلاب، فقد تركت جوسيتا في خزانة الملابس عند نادر منشفة وملابس نوم وفرشة أسنان.أحيانا يصحو قبلها فيقصد المطبخ يعد الفطور، ويشعر بالزهو إذ تجلس قبله فيظن أنها التقت أحد الساكنين أو واحدة من صديقاتهما.كان قد أخبرها بعقدة تيموثي والقاصرات، فارتسمت على ملامحها دهشةما.. كان يرى أن الأوروبيين بخاصة الإنكليز أهل البلد يمكنهم أن يتجاوزوا من دون عقدة ما وسواء اختلف أو اتفق مع جوستينا حول تيموثي وأمور أخرى فإنها تظل الأنقى.. إنَّه لا الآن كونها معه لا يختلف عن شريكي السكن.له صديقة مثلهما، ولشدما خشي أن تبوح بالسرّ، فتردد في باديء الأمر أن يصارحها.راودته الفكرة حالما عادا من ليستر، هي المرة الثانية التي تقدمه فيه صديقاboy friend .تردد في عرضه، وهاهو السؤال يحاصره، لا يريده يتشظى.. يتبعثر فيتطاير مع دخان القهوة الخفيف المتصاعد من فنجانيهما.

بلا شكّ لا يروم أن يصبح مسخرة:

- جوستينا آمل ألا يعرف فريدريك وتيموثي عنك.. .

قالها بابتسامة مرة ومالت عيناه نحو الفنجان كأنه يهرب إلى مستقبل مجهول:

- وما الداعي لأن أتحدث عن الموضوع.

تجرّأ اكثر:

- لأنك تهمينني أكون صريحا معك حد السذاجة.لا أريد أن أعرف متأخرا.هناك قدمتني صديقا وفي منزل والدتك أيضا هل تعرف أمك أنك.. .

فضحكت وقضمت قطعة الخبز المدهونة بالبزبدة والمربى:

- يمكن أن أخفي ذلك عن تيموثي عشيق القاصرات وفريدريك، ويمكن أن أذهب إلى الجامعة معك ولا أخبر أحدا لكن ليس هناك من سبب واحد يجعلني لا أخبر أمي بما أفعل أو إخوتي!

بقي صامتا يبحث عن أيةكلمة مناسبة.. اعتذار، اعتراه خجل، وهربت من ذاكرته الكلمات.إنها صريحة صراحة الأطفال وبريئة مثلهم.

آسف فقد أكون..

- لاداعي للأسف تخيّل أخي إلف الوحيد الذي يعترض!!

لم يشغل نفسه ليلتها بما حدث بينها وأخيها، فكلهم أخوة وأزواج أم وهو الغريب الوحيد بينهم وما أثار دهشته فيما بعد أن لا أحد منهم اصطحب صديقة أو صديقا، مهما يكن فقد ظهر إلف مليئا بالغثيان عنيفا مع نفسه أكثر من أن يكون عنيفا مع جوستينا:

- تقصدين ساعة انفرد بك؟

- سألني مادام عندي صديق فهذا يعني أني تركت البغاء!

- لهذا كان ينظر لي ولك نظرات مريبة!.

ردت بجدية كمالو أنها تدافع عن موقف تلتزمه ولاتفرط به:

- إلف من جذور كاثوليكية والده إيرلندي يرى النقاء الحقيقي في ثقافته الروحية يظن أن البغاء يعني أن تمارس المرأة الجنس مع عدة أشخاص مقابل أجر لكنْ هناك جانب آخريغفله ألف وأمثاله كثيرون هو التحرك لعقد صفقات مع رأسماليين كبار، البغاء يدخل في تجارة الموز، والنفط، ووسائل الإنتاج تلك أمور لا دخل فيها للمشاعر والأسف.

توقفت عن الكلام، والتفتت تسأله:

- الذي يهمني هو أنت!

هز رأسه، وقال:

- أنا لا أتدخل في شؤونك مادمت تؤمنين بما تفعلين!

- هذا هو السبب الذي جعل أخي الف ينفجر هو الوحيد الذي يعدّ هذا العمل في منهى القذارة!

- وماذا عن أمك والآخرين.

- لا يهمني إخوتي وأخواتي ولا أبي، باديء الأمر انزعجتْ ثم تجاهلت، قلت لها أعمل في بيت يملكةرجل بوليس متقاعد يعرف القوانين، قد يأتي زبون إلى المنزل فأعجبه أكثر من غيري سوى أن شغلي الأساس مع تجار كبار في الاستيراد والتصدير هذا برأيي أفضل من عمل في محطة بنزين يدر عليّ 400 باوند كل شهر!

مع ذلك يكاد الشك يساوره.هل تكون معهم مثلما هي معه.لعلها لا تراهم ذئابا يلعقون جسدها البض.عجوز في الخامسة والسبعين ملياردير .. تاجر مليونير في الستين.. هناك شباب.. على الأغلب يحوم خياله حول كبار السن الباحثين عن صفقات عبر قنوات الجنس، أهي الغيرة حين يتخيلها ، في أغلب الظن ، كما يشتهي مرّة واحدة كل أسبوع بين أحضان مليونير عجوز.حلوة عذبة في الثانية والعشرين تحوز مالا لا يحلم به أحد وبعد أربع سنوات أو خمس تشتري بيتا وتقتني سيارة، وليس أمامه إلا أن يتأكد حين يزور لندن. في البيكادلي يمكن له أن يختبر مشاعرها عن بعد أو على أقل تقدير شعوره هو، يجد هل تختلف عن الأخريات؟وقد جاءت الفرصة.الرفيق الحزبي في الاجتماع النصف شهري طلع عليهم بخبر جديد.ليستهلك التقرير السياسي الذي لحقهم إلى نوتنغهام نفسه، ولتذهب المحاضرة إلى مسار آخر.الوطن يلاحقنا في كلّ مكان ويمكن أن يدلف مع اللشمانيا.. يارفاق إيران من مصلحتها إطالة الحرب.العرب متضامنون معنا، ومعظم دول العالم.سمعتنا طيبة وخصمنا يثير الريبة في أغلب البلدان، سنخرج نحن طلبة البعثة يوم الإثنين إلى السفارة الإيرانية في مظاهرة احتجاج، لايهم الرفيقَ المسؤولَ أن يغيب طالب عن محاضرة أو تجربة مختبر يوما واحدا.هكذا هو الأمر.أنت الأول على قسم البيولجي، بعثة إلى بريطانيا.. لست معارضا ولا تنتمي لأي حزب آخر.والدك من ذوي الدخل المحدود.موظف في دائرة المالية، وأقصى ما يحلم به أن يصبح مديرا للمال في التنومة وربما أبي الخصيب ولعله الزبير، والحمد لله أنه اشترى لكم بيتا من مال حلال، تقول جوستينا لك، هذا شغل.. صفقة تجارية.. استيراد وتصدير.البغايا لا يأخذن مساعدات من مكتب العمل كما يفعل العاطلون واللاجؤون.. يدفعن ظرائب.. مثلما تتعرف فتاة على شاب في مرقص فتذهب معه إلى منزله ثم تتركه وفي السبت التالي تذهب مع آخر، وهكذا، أما إلف فليذهب هو ومذهبه الكاثوليكي إلى الجحيم، العالم مليء بالخير أما القيامة فلا تظن جوستينا أنها سيئة .. لم تكن مرغمة أمّا الذي كان يمكن أن يحدث لو قابلهم بالرفض.. انضم للحزب مرغما ليفوز بالبعثة وإلا لكان سيعمل بلا شك مدرسا في إحدى الثانويات، فيحتل مكانه طالب من رتبة أدنى، وقد لا يتركونه سيوقع ويصبح شاء أم أبى رفيقا ذات يوم.

تبعيث التعليم

التقرير السياسي يمتد من الثانوية إلى الجامعة حتى نوتنغهام!

يلاحقك، وسوفتصحب معك صفقة في صندوق صغير.

مهنة .. عمل.. صفقة دكتوراه قريبة الشبه بما تفعله جوسيتنا التي تتحلى بجرأة غير معهودة، فلا تخاف القيامة بصورة يراها عليها شقيقها إلف.مسوغات لا بدّ منها.. كلاهما يعقد صفقة.لم يظنّ وهوجالس في حفلة عيد ميلاد الأم أنهم يعلمون مهنتها سوى أن خجلا ما انبثق من أعماقه بعد حين لكنه لا يريد أن يفقدها.من حقنا أن نحوِّل بعض ساعات العبث واللهو إلى عمل.. مهنة.. تجرب كلّ شيء.. من حقك.. توقيع يجعلك طالب بعثة.. صفقة والسيد سعيد مبارك موظف المالية يضمنك.. سيبيع بيت العائلة إن لم تعد يسدد كفالتك، فهل تحقدبعد على الف.

قضى ذلك المساء في المطعم، حضّر السلطة وأعد سيخ الشاورما، ثم انصرف، تابع التلفون وحمل البيتزا إلى بعض البيوت القريبة في البوليفارد، وبيتِ عجوزٍ في راد فورد.فكَّر أن يبقى في المطعم إلى الساعة الثانية عشرة فيقصد محطة القطار.لا مختبر في غد ولادوام.يوم تتحررّ فيه اللشمانيا من مراقبته.. يوم واحد يارفاق لا يضرّ.نحن أصحاب سلام ولابدّ من أن تصل كلمتنا إلى العدو، وأخرجه من تأملاته مؤشر ساعة الحائط الذي عانق العاشرة، فغادر من الغرفة الخلفية، وسأل أنجم:

- هل أستطيع أن أذهب الآن فعلي النهوض مبكرا غدا لأستقل الحافلة إلى لندن!

- لك ماتريد لكن هل من أمر؟

- ياسيدي أنا طالب بعثة والسفارة العراقية دعتنا إلى الخروج في مظاهرة تدعو إيران إلى وقف الحرب!

فكرر أنجم عبارته المعهودة، وهز رأسه بين السخرية والأسف:

- نحن المسلمين من دون عقول إيران لا تحتاج نفطا والعراق لديه نفط ستقف الحرب حين تنهي آخر قطرة!

فأجابه شبه مقتنع، وهو يستعيد كلمة رالف البحّار:

- يبدو أنك على حق!

وغادر المطعم هابطا باتجاه المحطة.. وفي رأسه فكرة جديدة أطلت عليه من شارع سمع به ولم يره حتى هذه اللحظة. مال نحو الطريق العام، وخطا بتؤدة.أكثر ما يزعجه النهوض قبل الساعة الخامسة، عبء لابدّ منه لتجنب مضاعفات مزعجة، كان الجو يميل إلى البرودة والشوارع التي يألفها صامتة تكاد تشفّ عن وقع قدميه وحدهما.إن لم يمش بطيئا فسيصل إلى دار الطلبة بربع ساعة.يذهب إلى لندن بحافلات أعدتها البعثة وبإمكانه أن يعود بالحافلة نفسها فيتجنب الخسارة، وأيّتما فكرة تدفعه أن يتحمل طاقة العودة.لو كان أبوه غنيا لطلب منه مبلغا يدفعه في شراء أجهزة لمختبر تحليلات يحلم به في البصرة لكن ماذا عليه أن يرى في موظف بوزارة المال يضع في حسبانه الحلال والحرام.

كان يخشى أن يسرقه النوم فيضطر للاعتذار!

وفي الصباح نهض مبكرا قبل الخامسة.الظلام لما يزل يخيم على المدينة، ستنطلق الحافلة الساعة السادسة، وبعد ثلاث ساعات يصبحون في الهايد باارك.خلال الاجتماع الأخير تساءل الحاضرون وهم يتلقون نبأ التظاهرة، فأخبرهم الرفيق المسؤول أن السلطات البريطانية ترفض التجمع أمام السفارة العراقية أو الإيرانية.يلتقون في الهايد بارك ويوغلون في شوارع لندن.لايهمّ.في أيّ مكان يسمع الناس صوتهم. نحن لا نحب الحرب.العراق مرغم عليها.بهذه الصورة نظهرأنفسنا للإنكليز.. كان الظلام يخيم على محطة برود مارش وعندما دخل في صالة الاستقبال استسلم ثانية للدفء.رآى وجوها ألفها وأخرى لم يرها من قبل، ووجد الرفيق المسؤول نفسه يقف بباب الحافلة جنب السائق ويتطلع بالوجوه.اتخذ مكانه جنب النافذة.تضايق حين لم ير عبد العال، وخشي أن يجلس جنبه طالب لا يعرفه فيجامله بثرثرة فارغة عن البلد والحرب وانتصارات الجيش الاخيرة، وقد يذكر له جاره أن له أخا استشهد في الهجوم الأخير.حاول أن يعود للنوم ثانية، مرت دقائق فهبط جنبه عبد العال رآه يلهث فسأل بفضول:

- تأخرت ؟الحافلة على وشك أن تغادر!

- كاد النوم يخدعني!

- خشيت ألا تأتي فيحتل مكانك جنبي طالب لا أعرفه!

ضرب عبدالعال صدره بقبضتيه وهويقول:

- صدق من قال النوم سلطان!أنا أحسدك يا حميدة الآن إذ عدت للنوم بعد أن أزعجتك دقائق!

فابتسم نادر ومال إليه كأنه يهمس:

- ولِمَ لمَ ْتأتِ معك؟

- يا عزيزي حميدة موقفها مطابق لحكومتها المتعاطفة مع إيران.. ترى أن الثوار الإيرانيين تأثروا بالثورة الجزائرية!

فقاطع نادر بابتسامة:

- أظنّ ذلك كلاما فارغا!

- والأدهى أنها غاضبة إذ تحمِّل العراق قتل وزير خارجيتهم!

- وأنت ما ذا تقول!

- كلّ شيء جائز!

- عبدالعال عجيب أمرك "يقول عبارته من دون تردد" لولا أني أعرف طيبتك وأثق فيك.. لكن لا أفهم هذا التناقض ترى أن العراق ماكان عليه ان يبدأ الحرب أو ينجر إليها ثم تذهب متطوعا فيها خلال عطلات الصيف!

فرد بهزة من كتفيه:

- أبدا ليس هناك من تناقض.. أولا أروم بتطوعي ان أن أثبت أني لا أتنصل من الحرب وإن كان البلد هو الباديء بها فأنا بعض منه "التفت إلى نادر مؤكدا"سلوكي لا يختلف عنك أنت ترى إيران بدأت الحرب لكنك ستكون جنديا حين تناقش أطروحتك وتعود فتواجه الحرب إن لم تكن انتهت.

- أنا مازلت عند موقفي أن إيران بدأت وساورتني الشكوك يوم أذاعت بغداد برقية جواب قائد الثورة إلى البكر وقضية السلام على من اتبع الهدى!

فتأمل عبد العال لحظة وقال:

- ايران لم يكن عندها جيش كي تبدأ الحرب.جيشها انحل وليست بقادرة على شن حرب كان المفروض أن نترك الثورة تأكل نفسها، ولنفرض أن برقية الخميني خارجة عن اللياقة الدبلوماسية والأخلاقيات.. .

قطع عليه حديثه تثاؤب طاريء عندئذ وجدها نادر فرصة ليهرب إلى النوم فقال:

- دعنا نكمل نومنا ولعلنا لا نصحو إلا عند الهايد بارك!

- هذا أفضل أنا أيضا أشعر بالنعاس!

ومال برأسه على النافذة فداعبت خده برودة الزجاج فأغمض كلاهما عينيه ليبحثا عن الصباح في الهايد بارك !

***

قصي عسكر

.........................

حلقة من رواية نوتنغهام في علبة سردين

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم