صحيفة المثقف

في ظل الصمت

خلود البدريتمر الساعات والأيام، وتعيش حالة من الصمت، كل شيء يبدو ساكناً لا حركة ولا حياة، ينعدم داخلها بشكل تام. تغدو الأشياء جامدة، وتتشوش الرؤية لديها. كأنما نثيث الثلج يتراكم على روحها، فيزداد، ويتحول إلى كتل ثلجية، تشعر بها تكبر، تتضخم حتى تكاد تُغمر تحتها. تظل ساكنة، كإنسان اختار أن يُجمد حياته الآنية، مفكراً انه سينعم بحياة أخرى وفي زمن آخر.

السنوات تمر بطيئة، مملة، ولا شيء يتغير، تدّعي أنه حان الموعد لذوبان الثلوج الغامرة روحها، ومتّسمة أن لم يعد لها ثمة أثر. تنهمك برتابة الحياة، وتتناسى صدمة الأمس المُضحكة، تبتعد عن الكلام، كل من يحاول التواصل معها، ليكلمها تُشير عليه، وتتخذ من لغة الأشارة طريقة تتفاهم بها مع الناس، جارت منها جاراتها، حتى زوجها، وأولادها ظنوا أنها تُبيّت أمراً ما، وأن لا بد في الأمر خدعة، ومن وجود عدة أسباب، تجعل المرء لا يُطيق الكلام. وإلا لماذا كل هذا الصمت؟! أيّ أمر هذا الذي يجعلها تتخذ من الصمت لغة، ومن الأشارة حياة؟ لهذا ظل يجوس في رؤوسهم الشك، وعليهم متابعة كل ما تفعله، منذ استيقاظها في الصباح الباكر حتى رقادها في ساعات الليل المتأخرة. فكانوا كظل لها، تمر الأيام، ولا شيء يُكتشف.

تبرّم الزوج من رتابة الحياة التي تحياها زوجته. وقرف من رائحة صابون الغسيل، ومعطرات الملابس، تاقت روحه لعطر نسائي لا للديتول الذي تستعمله زوجته منذ أول يوم تزوجها، تدعك أرضية البيت والسّلّم، وتملأ البيت بهذه الرائحة، ظن أنه يعيش في مشفى للمجانين. شبع من أبخرة زيوت الطبخ، طفق يتشمم ملابسه فيجدها محملة بالدخان، تختلط فيها روائح، البصل، الثوم، البهارات المختلفة، أدخنة الشواء، حينئذ سلم المهمة لأبنه الأكبر. فاستحم وطرد عنه كل هذا القرف_ كما كان يقول _  فرّ، ليعطر نفسه مع الخلان في المقهى وينتعش برائحة النرجيلة بعطر التفاح. يلتذ بسماع الاحاديث المختلفة بين الأصدقاء، والتي لا تنتهي أبداً، يسحبَ دخان سيجارته بنفس عميق ويزفر فقاعات القرف. أما هي فدائماً كانت تخامرها صورة ذلك الرأس، أيُعقل أن تخبرهم، فيضجوا ضاحكين، أم تتعقل وتكتم ما يجوس في خيالها؟! أن بقي الأمر هكذا لن يعتقها أحد.

تسلم الابن الحراسة بدأ يجالس أمه، لكن أصابعه ما فتأت تُداعب أزرار موبايل يحمله دائماً معه، ينهمك بلعبة " البوبجي ". بين فترة وأخرى يقطع الصمت بصرخة مدوية، ها، قُتلت، تفز الأم مذعورة خوفاً ورهبة مما تسمع، يرى خوفاً بعينيها، فيطمئنها: لا شيء يا أمي هي لعبة لا غير فلا تقلقي، لم أمت !

تطرق بوجل وتهم عائدة لذاك الصمت. وبما أن الابن لديه الحياة بطولها وعرضها _كما يقال_ والأصدقاء عند الباب، وبانتظاره، ولعبة مفضلة، فلماذا يقضي يومه بتعب القلب؟! هكذا كان يُفكر. تضجّر مما أنيط به  وبدأ ينسحب من مكان تواجد الأم، فتقهقر كقائد منهزم من المعركة، واستلّ نفسه إلى عالمه الخاص. لكنها أخيراً آنست في نفسها الجرأة لتخبرهم، وتُذيب جليد الصمت، بدّد فكرتها غيظها القديم، وكيف قُوبلت بعاصفة من الضحك، كأنها مهرج في سرك يؤدي فقرة مضحكة. وبصوت خافت، أشار الأخ على طفلتهم الصغيرة، فهو يعرف تماماً أنها أفضل شخص لهذه المهمة، فطالما نقلت كل تحركات وتصرفات الجميع للجميع، واطلعت على أسرارهم. يقولون لديها حاسة شم مميزة، وكذلك فهي تصلح أن تكون محامية او امرأة قانون عندما تكبر، تلك الصغيرة تبحث في أدق التفاصيل. لهذا تأملوا خيراً، وتوقعوا أنها ستجد مفتاح خزنة أسرار الأم المغلقة، وحتماً ستفتح بأساليبها ذلك القفل الصدىء الذي سمم حياتهم. وتمدّهم بأي سبب يجعل من أمهم أمرأة صامتة فتكاد تُشلّ حياتهم.

الصغيرة فرحت بالمهمة خاصة بعد كلمات الإطراء والتشجيع التي حصلت عليها من عائلتها، همت بتقليب الأوراق في علبة معدنية، تضع فيها الأم أوراقها، وتحتفظ بكل ما يخصها، قرأت كل ما خُط على الورق والذي تحول بفعل الزمن إلى اللون الأصفر، لم تستطع أن تفسر لماذا استعملت أمها أقلاماً بألوان مختلفة، وما الذي يرمز له خط اللون الأحمر في هذه الوثيقة؟ والأخضر لِمَ هو قليل بهذا الشكل، ويكاد ينعدم بين السطور؟ وهذا اللون الأسود الغامق وقد خططت به على بعض الكلمات بخطوط عرضية كثيرة، لِمَ؟ تلك الدوائر بالقلم الأزرق تبدو قليلة جداً، تساءلت: تُرى ما السبب؟!

تفرست في وجه أمها، بدا واضحاً وجلياً لها الحزن المتخفي بين الغضون، التي بدأت تخط على جبينها وعلى بشرة وجهها. تنظر للاوردة النافرة على يديها هالها ما رأت، تلك الرجفة الخفيفة على جسد والدتها جعلتها تخاف، همست لنفسها: هل تموت أمي بصمت، بعيداً عنا؟!

فزت لتك الخواطر، وما توصلت له، فرت مذعورة، وأخبرت كل أفراد العائلة أن يراقبوا مخيلة تلك المراة وأن يدخلوا أحلامها علهم يجدون ما تخبئه وما يبحثون عنه. تسللوا واحداً بعد الآخر ينقبون في تلافيف أفكارها، بحثوا كيف يعمل فصا دماغها، اكتشفوا أن ليس للفص الأيسر القدرة على تحليل ما تسمع، لتتحدث، بما تنوء به، لامسوا طبقة شفافة تُغطيه من اللون الأسود، فحاولوا ازالتها بمشرط الأيام الصغير، لم يفلحوا. تبين لهم ان اللون الأسود متداخل، ومتمازج مع لون دماغها الابيض. بمهل وببطء أغلقوا ستارة النسيان على ما تحمله في جمجمتها وانسحبوا بمهل وحذر. الأيام تمر والأم ظلت تحتفظ بالصمت ولم يتوصل أيّ فرد من أفراد العائلة إلى السبب الحقيقي. بينما هي لم تتوقع أن يكون لهذه الحكاية كل هذه الجلبة، وأن لا أحد تمكن من فك شفراتها، تلك الأسئلة طالما راودت الأذهان، وكلمة لماذا؟ وهي تطرق الفكر تردّدت كثيراً لكن دون فائدة. وأخيراً أخبرتهم بالسر، قالت: فَرِحتُ كثيراً، وكعروس تزينت وتعطرت وقد هُييء لي مسكن مع أهل زوجي، خُصص لنا الطابق الثاني من البيت، حسبت الصباحات ستكون مشرقة، والفرح يظل يُلازمني، واحتفظ بابتسامة دائمة ترتسم على شفتي. في اليوم الأول لزواجنا، وبينما كنت أهمُ بالنزول على السلالم، اصطدمت عيني برأس ثور كبير وضع على السلمة الأولى، داست قدمي على قطرات الدم التي كانت تنز من ذلك الرأس، ولّيت هاربة، خائفة وأنا أرى اللون الأحمر يبقع الأرض، ويلطخ أذيال بدلتي البيضاء. فزعت وندت عني صرخة، خرج جميع أفراد العائلة من غرفهم يتساءلون ما الذي حدث؟! لكنهم قهقهوا وضحكوا كثيراً لسذاجة هذه الفتاة الصغيرة التي تخاف وتولول لمشاهدة رأس ثور جُلِب ليُطبخ على الغداء، صاحوا بها ألم تأكُلي في حياتك، أو ألَم يطبخ أهلك رأس حيوان من قبل؟!

ومنذ ذلك اليوم لذت بصمتي، وظل منظر الرأس المنكفىء، وقطرات الدم على أرضية البيت بخيالي يستصرخاني لأزالة الأثر !

***

خلود البدري

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم