صحيفة المثقف

الحب سمفونية الكون

سألني: ما هو الحب؟

فأجبتُ: ستعرفه عندما تضيع فيه، فالأفلاك التي تدور في سماواتها انما تحركها أمواج الحب، ولولا الحب لكانت كالجليد تتجمد، وتمضي الأفلاك في مداراتها لأن عرش الله يغمرها بانعكاسات الحب. (وكل في فلك يسبحون) (الصوفي جلال الدين الرومي).

وفي موضع آخر يتحدث الرومي عن الحب قائلا: سوف أخبرك كيف خلق الله الإنسان من طين؟

ذلك أنه جل جلاله نفخ في الطين أنفاس الحب!

(د. صهباء محمد بندق.الحب كيف نفهمه وكيف نمارسه. القاهرة: دار السلام ، الطبعة الأولى، 2006، ص15).

هذا تعريف المتصوفة للحب.

بهذا المعنى الربوي الفيّاض للحب، الذي غمر الكون كله بما فيه؛ سماءه وما حوت، وأرضه وما أقلّت أستفتح حديثي عن الحب. الحب تجلى في السماء أولاً، ثم في الأرض ثانياً.

الحب موسيقى عزفت في أرجاء الكون، فالشمس بضوئِها احتضنت السماء والأرض. الأرض تعكس أمواج الحب بألوانِها المختلفة، خرير الماء، هدير الشلالات، حفيف الشجر، نسمات الهواء، صوت الرعد ، مشاهد البرق، نزول المطر، وهطول الثلوج، أنس الحيوانات مع بعضها البعض وأصواتها، كلها تعزف موسيقى حبِها، وحبِّ وتعظيمِ خالقها (كل قد علم صلاته وتسبيحه...) (وإن من شيء الاّ يسبح بحمده ولكن لاتفقهون تسبيحَهم).

الحب كلمة كبيرة مثقلة بمعانٍ متعددة بتعدد جزئيات الكون، ولا يمكن حصره في معنى واحد أو نوع واحد، وعلى حد تعبير أدمون روستان(الشمس يتجزّأ نورها وتبقى كُلّاً ... مثل المحبة). نعم هذا أبلغ تعبير عن أنواع وأصناف الحب التي لا حدود لها، فالحب متكثّر بتكثّر ما تكرّمت به يد الخالق البارئ في الكون وما ضمّ واكتنز.

ويعّرفه ابن القيم بقوله: (معاني الحب لا تعلم حقيقتها الاّ بذوقها ووجودها..وفرق بين الذوق والوجود.. وبين التصور والعلم، والحدود والرسوم التي قيلت في المحبة صحيحة غير وافية بحقيقتها... بل هي إشارات وعلامات وتنبيهات)(د. صهباء، ص25).

يعّرفه عالم النفس الألماني إريك فروم بأنه (قوة تنبعث بين اثنين، فإذا حدث لإثنين مغتربين شأننا جميعا أن سمحا فجأة للحائط بينهما أن يسقط، وشعرا بأنهما أصبحا شخصاً واحداً، فإن هذه اللحظة الخاصة، والحميمة من الشعور بالتوحد هي من أشد التجارب في الحياة بعثا للبهجة، والتوهج بالسعادة، فليس الحب حالة سلبية بل هو حالة ايجابية)(د. صهباء.ص28).

لا أريد التفصيل أكثر بمعنى الحب، أكتفي بتعريف جلال الدين الرومي للحب في أول الحديث، وأتبنّاهُ؛ لا لكون قائله رجلاً صوفياً إنما للمعنى الوافي الذي فسّر فيه الحب، فضلاً عن ميلي الشديد لأفكار المتصوفة نظريا لا عمليا.

على ماذا يرتكز الحب؟

للحب على الأرض ألوان عديدة لا حصر لها منها: حب الله ، الحب الإلهي(الصوفي) ، حب أنبياء الله، وأولياء الله، حب الأخيار والصالحين، حب الوالدين، حب الأخوة، حب الأبناء، حب الأصدقاء، حب الغرائز، حب الطبيعة وسحرها، حب الصور الجميلة، حب المعاني الجميلة، وحب الرجل والمرأة، وهو ما يخص موضوعنا اليوم.

وقبل الدخول في عالم النفس وفضاءاتها، وما يقوله علماء النفس في الحب، وسبل وطرائق الوصول اليه، والتعاطي معه، والأخذ، أو عدم الأخذ به؛ فهو حديث يطول. لكن أردت طرح ما يجول بخاطري وفق معرفتي المتواضعة، واطلاعي بخصوص هذا الموضوع المهم.

هناك شروط خاصة لكي يولد الحب ويتجذر في النفس. القلب المحب هو قلب كريم، مضحٍ، والقلب الكريم يعطي بلا حدود، وكرم القلب مشروط بطهارته، لأن الكرم صفة مقدسة من صفات الله جل وعلا، وطهارة القلب تعد أساسا لانبثاق النور فيه، فخصال التضحية والكرم والطهارة والنور هي أحجار كريمة نفيسة منها تنبثق مشكاة الحب. الحب الأصيل هو ذا الذي ينبني على هذه الخصال. القلب الذي يخترع العناصر المتقدمة وفوقها هو قلب كريم، وهو يعرف كيف يحب؛ فالحب الصحيح ليس كل القلوب قادرة على توليده. الحب الأصيل يولد في القلب الطاهر، فهو كالصلاة التي لاتصح بدون طهارة ووضوء.

(ما لمس الحب شيئاً الاّ وجعله مقدساً) (الحب لا يُكتب على الورق لأن الورق قد يمحوه الزمان، ولا يُحفر على الحجر لأن الحجر قد ينكسر، الحب يوصم في القلب وهكذا يبقى الى الأبد)(جلال الدين الرومي).

كلما سمت القلوب صارت أكثر صفاءً، وسموها آتٍ من خلو الفضاء حواليها من الإغراءات والمظاهر المادية. حينما تصفو القلوب تغدق الحب بلا حدود. وحينما نستطلع حياة الماضين وكيف كانت سيرورة إيقاعها؛ لا نستغرب من سماع قصص حب مشبوبة بأجلى وأجمل وأرق المعاني.

الثقة، والصدق، والوضوح، والإحترام، والاهتمام، والتقدير، والإيثار، والتضحية، كلها ركائز أساسية للحب الصحيح بين الجنسين، وهي التي تقود الى علاقة ناجحة. وهي ساهمت بشكل كبير في حفظ العلاقات العاطفية والزوجية من الإنهيار والتدهور والإنزلاق، يكسوها كذلك صفو الحياة وخلوها من أي منغّصات قد تؤدي الى حدوث خلل في العلاقة بين الطرفين. هذه المعاني إذا فُعّلت في العلاقة فستؤدي الى نجاحها بالنهاية. كل ما يدور من جدال وسجال في إطار العلاقة بين الجنسين هو حول هذه المعاني المتقدمة، وعليها إما تدوم العلاقة أو تنتكس فيما إذا اختل معنى منها.

كل منا يستطيع أن يرسم نقشاً خاصاً لحبه على صفحة كتاب الحياة، وكل نقش هو سمة أو بصمة خاصة به لا تشبه بصمة أحد. الحب مزيج (كوكتيل) وأعني الألوان المتعددة للشيء، من مجموعة معانٍ من العاطفة المتوهجة، والبهجة، والقوة، والألم، والتحدي، والصبر.

يمكن بعضٌ منا لا يحب التكثير والمبالغة في أساليب الحب مع الطرف الآخر كأن يكون حبيب أو غيره. لكن بعضٌ آخر يحب التكثير، والمبالغة، والتلوين الذي يأخذ مديات كثيرة (إن الكيميائي الذي يستطيع أن يستخلص من عناصر قلبه الرحمة، والاحترام، واللهفة، والصبر، والندم، والدهشة، والعفو، ويدمج هذه العناصر في عنصر واحد يمكن أن يخترع هذه الذرة التي تسمى الحب) (جبران خليل جبران).

نظرة سريعة مقارنة في إيقاع الحياة بين الماضي والحاضر

إذا توغلنا قليلا في الماضي واستطلعنا بشكل مختصر حياة أجدادنا، وأهلنا، وربما جيلنا عاش جزءاً منها، لوجدنا ايقاع الحياة آنذاك مختلفا تماما عن الآن. كان ايقاع الحياة بطيئا فيه تأمل، وصمت، وإنصات، وأمزجة الناس كانت متوائمة ومتسقة تماما مع سيرورة الحياة. نأخذ أقرب مثال فيها أصوات الناس آنذاك غيرها الآن، فأصواتهم صافية، موسيقية، جميلة؛ لذلك الغناء والموسيقى في ذلك الزمان جميلان، والسبب صفاء الهواء، والماء، والغذاء من كل الملوثات التي نشهدها الآن، وهي على تنوعها، الكيمياوية، والإشعاعات الكهرومغناطيسية، وإشعاعات أجهزة الإتصال، والكثير لا حصر له في الغذاء، والماء، والهواء، وكل ذلك له أبلغ الأثر في صحة الناس الجسدية ،والنفسية، والمزاجية، وتأثيراته في جمال الأصوات. الموسيقى والغناء في الزمن القديم كانا بطيئين يسيران وفق إيقاع الحياة، فآذان الناس سمّاعة للأنغام والموسيقى الطويلة المتأنية،  وتأنس بها. خلاف الحياة الآن، فإيقاعها سريع، وكل ما فيها يمضي بسرعة. فالتكنولوجيا المتطورة المواكبة للحياة البشرية غطّت كل مجالاتها، وفي كل مجال لها باع طويل، وتتغير الحياة وفقها. نمط الحياة تغير، وكل شيء غدا سريعا، ونحن في سباق مع الزمن السريع، الذي يدعونا الى المزيد من الاستهلاك، ليذهب عنا لذة الإستمتاع بلحظات الجمال والتأمل. الملوثات الخطيرة في الهواء، والماء، والغذاء، التي ذكرتها كلها لها أبلغ الأثر على الصحة العامة. أصوات الناس لم تعد صافية موسيقية جميلة كالسابق، فضلا عن سرعة الحياة فلا توجد متعة في الموسيقى والغناء كما السابق. الحياة صارت لحظية، لذلك نرى الغناء الآن كله عبارة عن لقطات خاطفة براقة أو ما تسمى (فيديو كليب)، وهي تجسّد صورة من صور الحياة التي تمضي بسرعة البرق الخاطف.

كون الحياة آنذاك بطيئة تأملية نرى حتى أسماء الناس طويلة وتلفظها يحتاج الى نفس طويل، فأسماء البنات كان ينتهي بالياء المشددة والهاء المربوطة مثلا: هاشمية، كاظمية، جاسمية، جمهورية، لطفية...الخ) وبعضها ينتهي بتاء مربوطة مخففة: مثل مليحة، مديحة، صبيحة...نعيمة.الخ، وبعضها ينتهي بتاة مربوطة لكن أجمل مثل: خالدة، ساجدة، ماجدة..الخ). حتى بين الطبقة المتحضرة الأسماء لو كانت جميلة لكنها تلفظها صعب.. مثل : انتصار، انتظار..) والسبب كما عبرتُ هو ايقاع حياة الناس كان بطيئا تأمليا، ونفسهم طويلا؛ فكل شيء يسير ببطء وتأمل. أما الأسماء في الزمن الحاضر فهي قصيرة سهلة اللفظ تتناغم وايقاع الحياة السريع غير المتأني، وتتواءم مع نَفَس الناس السريع الذي لا يقبل البطء. فأسماء البنات القديمة اختفت وحلت الأسماء الجديدة وأكثرها لا تينية لسهولتها مثل:(لينا، ألينا، إلينا، لورا، لارا، سارا، سما، حلما، شيدا، شدا، رنا، رولا....الخ). إذ لا وجود لجرس موسيقي في الأسماء، فهي سهلة اللفظ وهي موائمة للزمن الحاضر وسرعته.

الأزياء كذلك تغيرت. كانت الأزياء في زمان مضى فيها من التعقيد والخياطة الجميلة بموضات مختلفة، والأقمشة كذلك كانت تُلزمنا على تصفيفها الدائم بآلة المكواة، في حين الأزياء الآن تخلو تماما من التعقيد، فالأقمشة عملية من النوع السريع اللبس ولا يحتاج المكواة، ولا تحتاج للإهتمام الزائد في النظر اليها لكونها مصنوعة من مادة مطاطية (البولستر او الستريج). والأزياء تقريبا الآن أصبحت موحدة عالميا. نرى أحيانا في بعض أزياء الجيل الجديد ثقوب وتشوّهات في موضات خياطة الألبسة، وهي مقصودة، حتى يتلافى الجيل الجديد النظر لزيّه والمضي السريع فتيار الحياة جارف خاطف، ولسان حاله يخاطب الجيل: ارتدوا زيّكم وامضوا سريعا. نحن جيل السبعينات الآن نبحث في الأسواق حتى نعجز، ونتعب، ولا نعثر على أزيائنا، بسبب اختلاف الأزياء الذي لا يتفق مع أذواقنا نحن القدامى ذوي الإناقة المتميزة التي يفتقدها جيل اليوم.

الطعام كذلك، في الزمن الماضي ذو نكهة لذيذة خاصة فالأمهات يجهدن أنفسهن بإعداده، لساعات طويلة في المطابخ، بينما الآن نرى على شاشة التلفاز يعدون وجبة طعام خلاف نصف ساعة، وبعضها بعشر دقائق، وطغت عليه الدهون المشبعة والكريمات والأجبان المذابة، وسمي (Fast food) (فاست فوود) يعني الغذاء السريع، الذي منه البيتزا، وغيرها من الأغذية التي يدخل في اعدادها الأجبان المذابة التي تشكل خطرا كبيرا على صحة الإنسان. (فاست فوود) يعني كُلْ سريعا وأنت واقف فالحياة لحظات سريعة لا ينبغي لك التأمل والحديث حول مائدة الطعام كما السابق، فالحياة تسبقك وهي لحظات انزلاقية، نعم هذا لسان حال (الفاست فوود) يقول لنا، وهو إحدى صور العولمة. العولمة اقتضت أن نعيش كلنا على سطح الكوكب الأرضي الشاسع لكن في قرية صغيرة، فوسائل الإتصال الإجتماعي هي إحدى صور العولمة(الفيس بوك، الواتساب ، الفايبر، تانكو، تلكرام...الخ). توحيد الزي العالمي أيضا إحدى صور العولمة.

المعلومات التي ينقلها لنا الطب الحديث مخيفة، فإحداها إن الرجولة كلما تتقدم الأجيال تضعف بسبب ضعف هرمونات الذكورة عند الرجال، والسبب كما أسلفت إيقاع الحياة الحاضرة والتغيرات الجذرية التي طرأت عليها، فنوع الغذاء وتلوث الهواء ليس بعوادم السيارات، والمصانع، وغيرها فحسب، بل حتى الإشعاعات والأمواج التي تبثها شبكات الإتصال، وكل اجهزة الإتصالات، والعواصف الشمسية، والتغيرات المناخية التي طرأت على سطح الكوكب الأرضي، فضلا عن نوع الأنسجة التي تصنع منها الألبسة، والأفرشة، وأنواع الموكيت، و السجاد كلها تضعف هرمون الذكورة، وفوق ذلك الاختلاط الفوضوي والعشوائي بين الذكور والإناث.

علاقة الرجل والمرأة

العلاقة بين الرجل والمرأة كانت مختلفة عن الآن تماما. فبسبب كون المجتمع آنذاك محافظا فإن وجود المرأة في الشارع والحياة بعامة نادر. وإذا وجدت فهي متحفّظة، وحافظة مقامها، ومجدها، وأنوثتها بزيّها المحتشم، وحيائها، وتمنّعها. فالمرأة في ذلك الزمن مختلفة عن المرأة الآن تماما. المرأة المتزوجة في منزلها منهمكة بأعباء الزوجية والمنزل والأبناء، وإذا خرجت تخرج لزيارة صديقاتها فقط حتى هي ممنوعة من دخول الأسواق، لأن المجتمع محافظ لا يسمح بدخول النساء اليه. كون المرأة في منزلها وتكفّلها مسؤولياتها بنفسها ساهم كثيرا في بسط الحياة، وصفائها، وراحتها، وسكينتها، وطمأنينتها. وكما أوضحت فإن إيقاع الحياة آنذاك بطيء فإعداد الوجبات الغذائية يستغرق الكثير من وقت المرأة لذلك يقل تواجدها خارج المنزل فضلا عن العادات والتقاليد الاجتماعية، التي لا تسمح لها بالتواجد الدائم. على ضوء هذا فإن الرجل لا يمكنه أن يتعدى حدوده خارج علاقته بزوجته، بسبب عدم وجود المرأة الدائم والمشاع والفوضوي كما الآن. والكلام كله حول حياتنا الشرقية. أما الحياة الغربية فهي مختلفة عنا تماما. المرأة موجودة مع الرجل منذ نعومة أظافرهم في صف واحد وكرسي واحد فلا توجد في حياتهم عقد علاقات عاطفية وجسدية، لذلك حين يتزوج  الغربيون يختارون شريكة الحياة التي يرغبون بها بجد، ويقضي كل حياته معها حتى الشيخوخة، ما خلا اذا حصلت حالات خيانة فهي حالات طبيعية حين تتعدد الخيارات يسبقها عدم رغبة الرجل بالزوجة الأولى وتغيير الحياة تماما. في مجتمعنا الآن العلاقات مفتوحة، ومباحة، ومشاعة، وفوضوية بين الذكور والإناث، فلا الزواج غدا كافيا لسد حاجة الذكور والإناث الغريزية على حد سواء. لذلك ترتفع نسبة الخيانات الزوجية بين الرجال والنساء. في مجتمعنا الشرقي ذات القيم والتقاليد، يخون الرجل والمرأة معا لا فرق، والشواهد كثيرة جدا نسمعها ونراها بآلاف الحالات، وحالات الطلاق، والانفصال السريع بعد فترة وجيزة من الزواج بسبب وجود بدائل كثيرة؛ فالخيانات الزوجية على قدم وساق بين الرجال والنساء وأسهل وسيلة هي الموبايل وغيره. وكل هذه الصور التي ذكرتها لا تجسّد المعنى الحقيقي للحب الذي تحدّث عنه اخصائيو علم الإجتماع، وعلم النفس، وعلم العلاقات العاطفية.

من كان هدفه من العلاقات الحصول على أكبر عدد من الأجساد؛ فهو لا يعيش حالة الحب الحقيقي، وعليه أن لا يقع في فخ الزواج، فالزواج فيه عقد شرعي أمام الله وأناس شهود، من ينقض العقد بالخفاء فهو محاسب أمام الله، لأن العقد جرى بين طرفين لا يحق لأي منهما نقضه تحت أي عنوان. ومن عدّد الأجساد، لا يعرف ماهية الحب. الحب ليس الجسد، والحب معناه عميق، والكثيرون يجهلون معناه.

على ضوء ما ذكرت فإن الرجال والنساء ما لم يحدّوا ويغيّروا من نمط اهتماماتهم؛ فحياتهم العاطفية والزوجية مهددة بالخطر والانهيار. كذلك سيكون مستقبل الأسرة في خطر. لا أكون متشائمة والتشاؤم ليس من خصالي، لكن الوضع الذي وصل اليه مجتمعنا خطير جدا، وسيبتلع مستقبل الأجيال القادمة وأقصد بهم جيل الأحفاد، التي ربما لا يكون للزواج الدائم من موقع في حياتهم الاّ العلاقات المؤقتة العابرة، كأني أرى ذلك جليّا، الاّ ما ندر فيهم.

الجيل الجديد من الشباب إذا استطاع من ترويض نفسه، واستيعاب المتغيرات الهائلة والمرعبة في حياتنا، واستطاع التأقلم؛ ربما سينجح في إدارة دفة العلاقات المشتركة إذا تمتع برصيد عال من الذكاء الإجتماعي.

صورٌ من الحب  في التراث العربي

جسّد لنا التراث العربي صوراً للحب مشبوبةً بالوجد والهيام بالمحبوب. في التراث الحب وجد قلوباً كريمة منفقة له بكل زهد وإفراط. تتشابه القلوب والنفوس؛ فتنفق الحب دون حساب(اقترب ممن يفتحون في روحك نوافذ من نور، ويقولون لك أنه في وسعك أن  تضيء العالم) (شمس الدين التبريزي).

هذه نماذج لامعة للحب الجميل في الزمن الجميل، نذكرها على سبيل المثال:

قيس بن الملوح مجنون ليلى

الذي قيل انه تابع كلب ليلى؛ ليدله على مكانها فمر على جماعة يصلون وعندما عاد ماراً بهم؛ قالوا له : أتمر علينا، ونحن نصلي، ولا تصلي معنا؟

قال: أكنتم تصلون؟ قالوا: نعم، قال: والله ما رأيتكم، ووالله لو كنتم تحبون الله كما أحب ليلى ما رأيتموني قط.

قيس يخاطب ليلى معاتباً حين رأى كفّيها مخضبتين بالحناء، قائلا:

ولما تلاقينا على سفحِ رامةٍ                وجدت بنانَ العامريةِ أحمرا

فقلتُ خضبتِ الكفَّ بعد فراقنا؟           قالت معاذ الله ذلك ماجرى

ولكنني لما وجدتُك راحلاً                 بكيتُ دماً حتى بللتُ به الثرى

مسحتُ بأطرافِ البنانِ مدامعي           فصارَ خضاباً في اليدين كما ترى

وجميل بثينة الذي هام ببثينة، وأنشد فيها أرقَّ الأشعار، وأجملهاَ، ومنها:

وما ذكرتك النفس يابثين مرة      من الدهر الا كادت النفس تتلف

والاّ علتني عبرةٌ واستكانةٌ          وفاض لها جارٌ من الدمع يذرف

وابن زيدون الذي هام بولادة ابنة المستكفي بالله في العصر الاندلسي، وأنشد فيها فيضاً من أعذبِ الأشعار وأرقِّها ومنها قصيدته النونية المشهورة:

أما هواك فلم نعدل بمنهله شرباً     وان كان يروينا فيضمينا

لم نعتقد غير الوفاء لكم رأياً          ولم نتقلد غيره دينا

اما ديستوفيسكي فقد قال لزوجته وهي على فراش الموت: لم أخنك حتى في الذاكرة، وفي مورد آخر قال لها:

(احبك انتِ، لا أعرف كيف يولد الحب، ولا كيف يوضع شخصين على شمس واحدة، أو كيف يوزع الليل نجمة نجمة بينهما، ولا أعرف لماذا ترك قلبي جاراتك ، والنادلة ، والبائعة، واختارك أنت).

(يمكن لأي شخص أن يختارك في توهّجك، لكني أنا سأختارك حتى حين تنطفىء، تأكد بأني وإن رأيتُ النور في غيرك سأختار عتمتك)(شمس الدين التبريزي).

هذه صور جلية للحب الحقيقي، الذي نفتقده في زماننا هذا، ليس لأن الزمان تبدّل، والخيارات للاثنين مفتوحة فحسب، فهي أيضا موجودة في كل زمان بصورها المختلفة؛ لكن لأن الأغلبية ذكورا وإناثا لم يصلوا للحالة التي وصل اليها ديستوفسكي، وأمثاله النوادر، الذين يَرَوْن صورةَ المحبوب مرآةً لأراوحهم، وشقوا في ذواتهم حفرا تحتضن أجلى وأرق صور للحب غير الذي نراه الآن في زماننا؛ فهو ليس حبا أصيلا، إنما لهاث وجري خلف ألوان قوس قزح المبتذلة في كل مكان، وهو وقوع في الحالة الحيوانية، التي من الأجدر بالبشر الترفع عنها ليتميزوا عن نوع الحيوان، والتي تسببت بكوارث وصدمات لايمكن الوقوف بوجهها اذا ما استمروا على هذه الحال، وقانا االله وإياكم شرورها.

يستورد شبابنا إنموذجا غربيا للحب (فالنتاين)، حتى في المعاني التي ترسم السعادة والبهجة على محيا حياتنا، يستوردونها من العالم الغربي؛ فيما أهملوا نماذج َلامعة سطعت في سماء الشرق هنا خلفها لنا التراث العربي، وجسدت أجلى صور للحب.

القسيس (فالنتاين) كان قد نذر نفسه للجمع بين الشباب والشابات العشاق في زواج مشروع في عقد مشروع. ولما علمت به الكنيسة عاقبته واعدمته؛ لأن يُعتبر هذا التصرف خرقاً لأسرارِ الكنيسة فصار شهيدَ الحب، ومنذ القرون الوسطى والشباب يحتفلون بيوم الحب تخليداً لذكرى شهيد الحب. وسرى الاحتفاء من العالم الغربي الى عالمنا الشرقي، وهو مُحتفىً به بين جيل اليوم، والذي ما كان له وجود في أيامنا الخوالي، ماخلا في العالم الغربي، وهو غير عالمنا.

كما نعلم أن الإحتفاء به في عالمنا آتٍ من فراغ حقيقي يدور فيه أبناؤنا يفتشون عن معنى ما يبعث فيهم نوعاً من الأمل؛ لمواصلة الحياة التي غدت لهم بلا معنى.

يقول جلال الدين الرومي في العشق واصفا الناس فيه: (الناس في هذا العالم مثل ثلاث فراشات أمام شمعة متوهجة، الأولى اقتربت من الشعلة بعض الشيء وقالت: بهذا عرفت العشق.

والثانية اقتربت أكثر حتى لامست الوهج بطرف جناحها وقالت: بهذا عرفت كيف تحرق نيران العشق.

أما الثالثة فاندفعت بكليتها الى الشعلة حتى احترقت تماما، هي وحدها من عرفت ماهو العشق).

الحب من منظور علم النفس

نجوب في فضاءات علم النفس، وما يقوله عن الحب، وما هي دوافعه، والمؤثرات التي تحوطه، والسبل الكفيلة بإبقائه، عبر تساؤلات أجابها فحوى المكالمة الهاتفية التي تلقيتها من إبنتي الدكتورة تقى عبد الجبار الرفاعي المتخصصة بطب الأنسجة (باثولوجي)، وهي قارئة جيدة ليست في مجال اختصاصها فحسب؛ بل في مختلف مجالات الطب، ومنها الطب النفسي، كذلك سماعها لمحاضرات مهمة لأطباء وأخصائيي علم النفس، والعلاقات العاطفية والأسرية.

تحدثت لي من منظور علم الطب النفسي شارحة حالة الحب وماهيته، بالإعتماد على المحاضرات الشفاهية، عن أبرز متخصصي علم النفس والعلاقات العاطفية والأسرية.

حاولتُ الإبقاء على أفكار المهاتفة كاملة، لكن كتبتها بتصرف مني:

نشأة الحب بتأثير نوعين من الهرمونات هما "هرمون النشوة" (دوبامين) و"هرمون الحب" (أوكسيتوسين)

يقع الحب بصورة عامة تحت تأثير هورمون خاص به أسمه (Dopamine) (دوبامين)، وهو هرمون النشوة والإدمان، يرتفع هذا الهرمون في الجسم في اللقاء الخالي من العلاقة الجسدية بين الجنسين، وتكون نسبته في صعود في الفترة الأولى من اللقاء، ويستمر بالصعود كحد أقصى من 6- 9 أشهر. ويؤكد أخصائيو العلاقات العاطفية والأسرية أن في غضون هذه الأشهر الستة أو التسعة أشهر الأولى من العلاقة أن لا يكون فيها أي علاقة جسدية؛ والسبب حتى يتأكد الشريكان أنهما في العلاقة الصحيحة أم لا، وهل هما متعلقان ومتفقان منطقيا وعقليا بعد التسعة أشهر؟ بعد التسعة أشهر يبدأ الهرمون بالهبوط، وذلك حين تهبط حالة الشغف والهيام بينهما. قامت طبيبة أمريكية بتصوير أدمغة مجموعة من العشاق بأشعة الرنين المغناطيسي(MRI) فلاحظت أن الأدمغة لديهم تتحفز عند اللقاء، نفس تحفّز أدمغة مدمني الكوكائين حين يتعاطوْنه، وهي مادة تسبب النشوة والارتياح لمدمنيها.

دكتور هولاكويي اخصائي علم الاجتماع والعلاقات الأسرية والعاطفية. يؤكد على: ضرورة وجود الطرفين خلال المدة من 6-9 أشهر مع بعض في لقاءات طويلة، كأن تكون مثلا مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع، وفي كل مرة يكون اللقاء من 6-10ساعات، يتعاشران سوية، ويخرجان معا في فضاءات مختلفة، حتى في مجالات عملهما، لكن بدون علاقة جسدية؛ عندئذ يعرف أحدهما الآخر وبالتأكيد سوف يكتشف أحدهما الآخر. في كل منهما صفات جيدة أو سيئة ظاهرة وباطنة. ويؤكد على أن هذه الصفات لابد من ظهورها شاءا أم أبا، فهي تظهر بشكل عفوي. إذا كانت الصفات السيئة التي تظهر يمكن تحمّلها من الطرفين عند ذاك يمكن البقاء في العلاقة، واذا لايمكن؛ فيجب قطع العلاقة على الفور حتى ولو كانا في عنفوان هيامهما.

بإمكاننا الإعتراض على كلام الدكتور هولاكويي وذلك بقولنا: من المحتمل أن يكون أحد الطرفين كتوما ويخفي بعضاً من صفاته السيئة عن الشريك، ويكون مثاليا أمامه، حتى يتجاوزا الفترة الإنتقالية الأولى التي تقودهما الى مرحلة الحياة الزوجية. لكن الدكتور قطع علينا الطريق ولم يفسح مجالا للنقاش بقوله: الصفات لابد من ظهورها شاءا أم أبا، فكان حديثه وافيا لا يقبل النقاش فيه، وجّلنا مرّ بالمرحلة الإنتقالية ولاحظ ذلك جليّا.

ماثيو باغز أخصائي علاقات عاطفية وزوجية يقول: أن الحب والجنس لدى الرجل منفصلان، يصور الحب في مدينة (ميامي)، والجنس في مدينة (سياتل)، والفاصلة بينهما كبيرة، إذا دخل الرجل في خانة الحب (ميامي) والكلام لماتيو؛ يخاطب المرأة: عليك إعطاؤه وقتا، هل هو أهلا له؟ وهل هو في مكانه الصحيح، وتقبل مسؤولية الحياة المشتركة؟

هو في (ميامي) إذا أخذ كفايته من الحب، وكان أهلا لتقبل الحياة المشتركة والحياة الزوجية، عند ذلك خذيه الى ولايته (سياتل) الى حيث العلاقة الجسدية التي تُبنى على أساسها العلاقة الزوجية. يُقال: إن الرجل إذا أراد إمرأة لتكون شريكة حياة حقيقية يتسلّق لها الجبال.

وهرمون آخر أسمه هرمون الحب (Oxytocin)(أوكسيتوسين)، وهو هرمون العناق والالتصاق، وهو عند المرأة عشرون ضعف ما عند الرجل، وهو مهم بالنسبة للرجل والمرأة في العلاقة الجسدية، ولا يقتصر عليها، وله علاقة وثيقة بفسلجة الجسم بل يتعداه الى مدى أبعد؛ فيفرزه جسم المرأة حين الولادة والرضاعة، فتلتصق بوليدها وتحتضنه وترعاه. لهذا الهرمون تأثيرات مهمة في الجسم، حينما يرتفع يؤثر على المشاعر؛ فيشعر صاحبه بالراحة النفسية، والانفتاح، والبهجة، والثقة بالنفس، والدفء، والإيثار، ويمتد على تعابير الوجه والبشرة، وحتى تمتد المشاعر لتغرق آخرين بالحب، والحب المعني هنا هو الحب الإنساني الأخوي حينما يكون هذا الهرمون مرتفعا لدى صاحبه، ويتجسد عند المرأة الحاضنة للزوج، والأهل، والأخ، والإبن. الله جل وعلا أوجده في جسم المرأة أضعاف ما هو عند الرجل لغاية عظيمة هي احتواء الجنس البشري، والحفاظ عليه من الانقراض بالعاطفة، وتحت تأثير هذا الهرمون المهم جدا لديمومة الحياة وحفظها.

يلخص علم النفس الحب بنزول وصعود هذا الهرمون بالدم؛ هرمون (الأوكسيتوسين) عند الرجل والمرأة. يرتفع هذا الهرمون عند المرأة أثناء علاقة الحب وبعد العلاقة الجسدية بين الجنسين. عند الرجل يرتفع هذا الهرمون لديه عند العلاقة الجسدية مع المرأة التي يحبها، لكن لا يرتفع مع المرأة التي لا يحبها، ويوضح علم النفس على هذا الأساس أن الرجل لا يحب الاّ أمرأة واحدة، فالعلاقة الجسدية عند الرجل ليس لها علاقة بالحب. أحيانا الرجل يمارس العلاقة مع إمرأة لا يحبها مثلما يحدث في العلاقات المؤقتة. هرمون (الأوكسيتوسين) مرتفع عند المرأة على الدوام ويرتفع عند الرجل حين يقترب من المرأة فيما ينخفظ لديه هرمون الذكورة(التستسترون). حينما ينخفظ لديه هرمون الذكورة يحتاج الرجل أن يبتعد عن المرأة؛ ليرفع هرمون الذكورة، ويعيده الى مستواه الطبيعي الذي يعيده الى رجولته، وبعد أن يشبع ذكورته يعود لعائلته، زوجته، وأبنائه، أو صديقته. هرمون (الأوكسيتوسين) هرمون الالتصاق، يكون مرتفعا لدى الرجل كلما كان قريبا من المرأة؛ لأن ينخفض لديه هرمون الذكورة؛ وكلما ازدادت الذكورة قربا من الأنوثة تضعف وتتأنث، عكس تصور مجتمعنا أن من يمارس العلاقات المتعددة مع النساء هو ناتج عن قوة في الذكورة والرجولة، وان من لم يمارسها فهو ليس رجلا. علم النفس يثبت خلاف ذلك تماما.

نعود الى هرمون (أوكسيتوسين) الذي يكون مرتفعا عند المرأة في حالة الحب، وفي العلاقة الجسدية أو غيرها. المرأة بعد العلاقة الجسدية لا تتأثر بل تزداد حبا للرجل لأن هرمون(أوكسيتوسين) لديها مرتفع.

وتقول دكتورة في علم النفس: أن دماغ الرجل مقسم الى خانات منفصلة واحدة عن الأخرى؛ فالاتصال بين جانبي الدماغ عند الرجل أقل من المرأة بكثير. حينما يدخل الرجل في خانة ينفصل عن باقي الخانات، يعني الرجل حينما يؤدي عملا واحدا؛ لايمكنه في آن واحد أن يؤدي عملين، عكس المرأة التي بإمكانها أن تؤدي أعمالاً عدة في آن واحد؛ لأن الإتصال بين جانبي الدماغ لديها كبير. فلو لو تكن المرأة غير قادرة على أداء عدة أعمال في آن واحد لربما يموت الكثير من الأطفال. يمكنها مداراة الطفل والقيام بأعمال عدة بموازاته. الرجل لو أدى أعمالاً عدة في آن واحد؛ لما كان بإمكانه حماية عائلته، والعمل لأجلها. فالتركيز عنده فقط على عمل واحد لا غير.

الرجل حين يدخل "كهفه"

الرجل من أجل أن يسترجع نسبة هرمون الذكورة في الدم الى نسبته الطبيعية يحتاج لأن ينفصل تماما عن عالم المرأة؛ فيدخل في مخدعه؛ فيمارس أعماله التي تسترجع فيه الرجولة، والأمثلة كثيرة في هذا: مثلا يمارس عمله اليومي النهاري، متابعة التلفاز، التفكير بحل مشكلة ما، عمل تجاري، عمل فكري كأن يمارس الكتابة والقراءة ،أو يلتزم الصمت، وغيرها الكثير من انشغالاته.

يؤكّد علم النفس على المرأة أن تترك الرجل حين يدخل مخدعه هكذا يسميه أو “كهفه"، كما يعبر عنه د. جون كري مؤلف كتاب"الرجال من المريخ والنساء من الزهرة"، وأنصح النساء والرجال والشباب بقراءة هذا الكتاب المهم الذي يكشف ويحل بعض المشاكل بين الرجل والمرأة. يجب على المرأة في هذه الحالة ترك الرجل نهائيا وعدم التواصل معه سواء بالحديث، أم بالإتصال الهاتفي، أم بأي شيء آخر. دورالمرأة هنا أيضا التوجه والتركيز على أعمالها المتعددة. الرجل يحتاج لأن يستجمع حاله، ويعود لرجولته، ويرفع هرمون الذكورة لديه، ثم يعود سعيدا منتشيا، يعاود ممارسة الحب مع زوجته وأبنائه، أو صديقته. (أن نتوقع من الرجل الذي في كهفه أن يصبح فورا منفتحا، وأكثر استجابة، وودودا أمر غير واقعي مثلما نتوقع من المرأة المنزعجة أن تهدأ فورا وتصبح منطقية جدا. إن من الخطأ أن نتوقع أن يكون الرجل دوما على صلة بمشاعره العاطفية مثلما هو خطأ أن نتوقع أن تكون مشاعر المرأة دوما عقلانية ومنطقية. عندما يدخل أهل المريخ الى كهوفهم يميلون الى نسيان أن أصدقاءهم يمكن أن تكون لديهم مشكلات أيضا، وتسيطر عليهم الغريزة التي تقول قبل أن  تهتم بأي شخص آخر، يجب أولا أن تهتم بنفسك، وعندما تشاهد المرأة رد فعل الرجل بهذه الطريقة، فإنها تقاومها وتستاء من الرجل).(الرجال من المريخ  والنساء من الزهرة. د. جون كري. ترجمة: عبد الكريم العقيل. الرياض: مكتبة جرير، الطبعة الثانية، 2007، ص63).

ويؤكد د. جون كري، على المرأة أن لا تجعل من الرجل المحور الذي تدور عليه حياتها بأكملها، فهذا خطأ فادح، يقول للمرأة مشبّهاً الرجل بوجبة الطعام، يجب أن لا يكون الرجل وجبتك الأساسية، لتكن وجبتك الأهم نفسك وعالمك بما فيه اهتماماتك الرئيسية، ثم بعدها الرجل الذي يمثل لك طبق الحلوى بعد الطعام.

وتؤكد دكتورة أخرى متخصصة في علم النفس بقولها: ان الرجل لا يحب المبالغة في الحب من المرأة؛ فالحب الزائد يخنقه. وتؤكد يجب أن لا تكون المبادرة من المرأة، فالأجدر المبادرة يجب أن تبدأ من الرجل أولاً، بعد أن تعطيه المرأة كامل حريته في فضائه، ولا تبدي إزاءَه أيَّ مشاعر، لكنه حينما يقترب منها يجب أن تبدو أنثى بكل معنى الكلمة. 

كيف تحافظ المرأة على علاقة الحب؟

تقول أخصائية العلاقات الزوجية و العاطفية هيلينا هارت:

يجب أن تحافظ المرأة على أمرين في علاقتها مع الرجل، هما:

1- الفضاءSpace "، يعني ترك الرجل في فضائه حراً، دون الاقتراب منه والكلام معه، فحينما يكون في فضائه لا تكون لديه أيّة طاقة اتصال مع المرأة، وعليك أيتها المرأة أن تنشغلي أيضا بفضائك الخاص بك، وأن لا تصل طاقتك للرجل بكلام، أو أمر بعمل ما، أو أي صورة من صور التماس معه. وتستطرد: ركّزي أيتها المرأة على فضائِك ودَعي فضاء الرجل له، أخرجي الرجل من دماغك. هرمون الرجولة(التستسترون) يحب الحرية، الطبيعة البيولوجية له تقول هذا، وهي التي أعطته هذا الحق في معاشرة الكثير من النساء. لذلك هو لا يحتفظ بالنسل البشري، بسبب حريته؛ فالحرية التي يطلقها له الهرمون الذكوري يحثه على نثر خلاياه الذكورية في فضاء واسع، وتستدل على هذا أن بإمكان جسم الرجل في اليوم الواحد أن يفرز ملايين الخلايا الذكورية، فيما يفرز جسم المرأة خلية واحدة كل شهر التي هي البويضة، والفرق شاسع جدا بين الجنسين؛ فالمرأة تحفظ النسل البشري، فيما الرجل لا يحفظه؛ بسبب تعدد علاقاته الجسدية، إذ لا يدري أين تكون خلاياه الذكرية في أي مكان ما ضيّعها.

وهذا الأمر سارٍ في بلدان الغرب، ويسري في بلدان الشرق الآن، لغير الملتزمين بدين وأخلاق وقيم واعتبارات.

2- النعومة: Softness  تعني بها الأنوثة، وتؤكد إن على المرأة أن  تتمتع بأنوثتها كاملة أمام الرجل زوج أو حبيب، يجب عليها ذلك حينما يكون قريبا منها. عليها أن تظهر كامل أنوثتها دون تصنّع، فالأنوثة شيء فطري عند المرأة يظهر مع الحبيب بشكل لا إرادي، حتى تتحقق السعادة الكاملة لها وله بالحب، والمعاشرة الزوجية.

محراب الرجل

كاتبة أمريكية أخرى تصف قلب الرجل بالمنزل ذي الغرف المتعددة التي هي تمثل العلاقات العابرة بنساء أخريات غير المرأة التي يحبها، وفيه محراب مقدس واحد،  وفي المحراب توجد المرأة التي يقدسها الرجل ويحبها. النساء الأخريات دورهن عابر. محرابه المرأة التي تترك أثرا عميقا في حياته، كأن تمنح حياته معنى، مثلا يحقق بظلها مقاما معنويا، مقاما علميا، مكسبا ماليا مهما، أي التي تمنح حياته قيمة Value ، تمنحه طاقة ايجابية، تضيء حياته بإشعاع الأمان ؛ فهي ملاذه من آلام الحياة ومتاعبها والتي يكمل مشواره الحياتي معها بعيدا عن كل الاعتبارات الأخرى خارج ما ذكرت. وأما الباقيات فوجودهن عابر. لذلك تؤكد على أن المرأة يجب أن تتحلى في هذه الحال بالذكاء لتدير دفة العلاقة مع زوجها، أو صديقها.

نعترض هنا على الكاتبة الأمريكية التي تصف قلب الرجل مقسما الى خانات في كل خانة هناك أمرأة؛ لكن المرأة التي تمنح حياته قيمة وأهمية هي محرابه المقدس. إطلاق العنان للرجل لممارسة ما شاء الله له من علاقات هي دعوة الى المشاعية في العلاقات، والعلاقات الفوضوية تؤدي الى انهيار الأسر، ونشوء مشاكل في الأسرة، التي ربما تكون مشاكل صحية، أو سلوكية، أو نفسية، أو اجتماعية، للزوجة، وللأبناء ما لاحد لها ربما ستعود على الرجل بالذات بمردود سلبي كبير، والشواهد أمامنا كثيرة لا حصر لها. والعلاقة مع الأخريات غالبا ما تتم بالسرّ والخفاء، ومن كان متزوجا لا يحق له التنقل بالعلاقة بما شاء له تحت غطاء ديني أو إجتماعي، والدين كما شرّع تعدد الزوجات بعقد مؤقت أو دائم، كذلك حرّم السرقة، والزواج دون علم الزوجة هو سرقة الثقة، والسرقة لا تقتصر على المادة؛ بل أيضا تتعداها الى المعنى. وإذا كانت له زوجة مقدسة يحبها فمعنى هذا ان العلاقة مع المقدسة أجمل وأرقى وأمتع، فلماذا يتزوج؟ وما فائدة الزواج هنا؟

تجيب الدكتورة فوزية الدريع المتخصصة بعلم النفس والجنس عن أسباب "خيانة" الرجل وهي تسمية آتية من الغرب، في الشرق تسمى "علاقة عابرة"، أو "زواجاً ثانياً"، وفي الغرب تُسمى "خيانة"، وهي كذلك تصنف أي علاقة خارج إطار الزواج ب(الخيانة) لعدم علم أحد طرفي العلاقة:

الحقيقة أن السبب الأول هو عدم وجود إشباع في نظام الزواج كله ..بالطبع البعض وهو يدرك بشاعة الفعل ربما يبرره بأنه حب...قضاء وقدر، وحصل الذي حصل وهذا يبقى مجرد تبرير لإعطاء الخطأ شرعية معينة. عند الغرب تعتبر الخيانة خيانة إذا كان الطرف الآخر لا يعلم، وهم يرون الزواج عقد اتفاق لذلك فلو تم الإتفاق مع أحد الزوجين فيمكن أن تتم الخيانة دون خوف، ويبقى ذلك أحد صور انكسار روحانية وقيمة العلاقة الثنائية. (كتاب مليون سؤال في الجنس، ج2. د فوزية الدريع. منشورات الجمل، 2006،ص74).

د.وليام كلاسر طبيب نفساني أمريكي يقول: على الطرفين أن يحدّا من استخدام السيطرة (الكونترول) الخارجي من الطرفين؛  ظنا منهما أنهما سينجحان في مهمتهما وهو خطأ كبير تقع فيه النساء والرجال، البحث والتنقيب والمتابعة في شؤون، وهواتف، وكتب، وأوراق، ووثائق عمل، وغيرها من الشؤون الشخصية لكل منهما غير صحيحة، وتقودهما الى الفشل الذريع في العلاقة. ويؤكد أن الرجل كائن بصري. يستمتع النظر للنساء، وليس بالضرورة أن تكون كل النساء التي ينظر اليها يحبها؛ لكن حب النظر طبيعته، ولا توجد امرأة تنافس امرأة. يخاطب المرأة قائلا:  كوني أنت كما أنت، وارفعي من ثقتك بنفسك. أما إذا غيّرتِ من طريقة التعاطي والتعامل مع الرجل الصحيح الذي هو رجل الحياة فستنجحا، وتنتصرعلاقتكما وتحافظا عليها. في حالات خاصة إذا اختار الرجل نفسه حياة جديدة قاصدا الخلاص من حياته السابقة، وترك زوجته أو شريكته؛ فذلك بحث آخر. البحث هنا فقط في حدود العلاقة الزوجية، أو العاطفية الناجحة التي تسير سيراً طبيعيا.

علاقة الرجل والمرأة في الزمان الماضي

د. تقى عبد الجبار الرفاعي المتخصصة بطب الأنسجة (باثولوجي) تشرح حالات نجاح الزيجات في الزمان الماضي، بسبب كون المرأة مؤدية كامل مسؤوليتها الأنثوية وانشغالها بعالمها الخاص، فإدارة المنزل وشؤون الأبناء، والإهتمام الكامل بالزوج وشؤونه. والزوج أيضا يؤدي كامل مسؤولياته الزوجية التي هي العمل لكسب العيش، وحماية الزوجة والأبناء ورعايتهم، وكل هذا كان قبل الحرب العالمية الثانية. المرأة لم تكن باحثة عن شؤون الزوج الشخصية في السابق، وكانت محدودة الصلاحيات، فكان الرجل سيدها (سي السيد)، وليس لديها صلاحية السيطرة (الكونترول) عليه، فمسؤوليات كل منهما محدّدة ومعروفة.

أما بعد الحرب العالمية الثانية، ودخول الماكنة الى الحياة، ودخول المرأة عالم الحياة الجديد، ومنافستها الرجل في عالمه أدى الى قلب القيم وكل الإعتبارات على عقب، فالمرأة أخذت مجالات الرجل، وغادرت عالمها الأنثوي الخاص، وهو منزلها مخدع أنوثتها، فصارت تكسب المال كما الرجل، ولم يعد للرجل عليها من سلطة مالية وولاية ذكورية، فصارت هي المرأة، وهي الرجل على حد سواء. وصارت لديها السيطرة (الكونترول) البحث عن شؤون الرجل؛ لأنها بدأت تقوى بالمال، وفي عصرنا الراهن أجهزة الاتصالات صارت هي الكونترول الأساس للمرأة حتى الجالسة في منزلها التي لا تعمل، ووسائل الاتصال الاجتماعي التي أدت الى إنفلات اجتماعي مرعب وهائل. كل ذلك أدى الى ذكورية المرأة بخاصة التي تعمل في مجالات الرجال فصارت شبيهة الرجل، حتى جسدها وشكل وجهها اختلف عن السابق.

دعوة جادة للعودة الى الوراء

في محاضرة له يؤكد الدكتور جون كري محتجا على وضع المرأة الراهن:

يجب على المرأة أن تعود لأنوثتِها، الأنوثة يعني النعومة والحاجة لحماية الذكر. وقعنا ضحايا التطور والحضارة والمعاصرة، وكل ذلك أدى الى انحسار دور المرأة، وتضائل أنوثتها، وأطلب من المرأة احترام الرجل وذكورته والعودة الى مركز ثقلها، عند ذلك تسعد الحياة، ونسعد، وكل يأخذ دوره في الحياة.

يستند الدكتور جون كري في نصيحته هذه على أن العلاقة بين الرجل والمرأة قائمة على اعتبارات فطرية غريزية عند كليهما، وهو ان الرجل يحب السيطرة واحترام شخصه وتقديره، وهو يحب سماع كلمات التقدير، والاحترام، والثناء الدائم عليه، وكل ذلك يعود الى عودة المرأة لمكانتها الحقيقية، وأنوثتها، ورقتها، ويجب على المرأة أن تسمعه كلمات تعبر عن ذلك دائما؛ لأن سماعها يرفع لديه هرمون الذكورة(التستسترون)، وهو أهم شعور لدى الرجل يجب أن لا تهمله المرأة مطلقا.

ويضيف لا ننكر وجود صور للحب نادرة، و شاذة يتجسد فيها الأخلاص بكل معانيه التي لا يحيد الرجل والمرأة عنها.

يقول اختصاص العلاقات الاسرية ماثيو هاسي:

إن الحب الحقيقي الخالص من الشوائب سينتصر في النهاية .

(فأما الزبدُ فيذهبُ جُفاءً وأما ما ينفعُ الناسُ فيمكثُ في الأرض).

لأبنائي وبناتي الأعزاء المحترمين:

أبدلوا (الفالنتاين) ب(إبن زيدون) كأهم أنموذج لعيد الحب.

كونوا "كالنحلة التي تعيد تكوين الرحيق عسلا، ولاتكونوا كالببغاء ترددون ما تسمعون".

كونوا الغواصين لالتقاط اللؤلؤ من أعماق البحار، وليسوا الواقفين على الساحل بانتظار من يغوص بدلا منكم لتحوزوا عليه.

 

انتزال الجبوري

سكرتيرة تحرير مجلة "قضايا إسلامية معاصرة"

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم