صحيفة المثقف

يا دارة دوري فينا

ابراهيم يوسفعندما نَشْتُم العجلة يا صديقي*؟ فينبغي أن نَلعن معها الشيطان، توخيا لمزيد من الحسنات، وإمعانا في طلب التوبة والرحمة والرجاء. ولئن أطعتني ولعنت الشيطان معي، ونالتك المغفرة وعفو رب السماء؟ فكفكف دموعك وهوِّن عليك وتعال معي فاسمع للمرة الثانية، حكاية عائشة بنتُ سعدٍ بن أبي وقاص، وقد أرسلتْ مولاها "فنداً" يأتيها بنار. كان في الطريق ليلبي حاجة سيدة الدار، حينما أبصرَ قافلة تتأهبُ في رحلةٍ من المدينةِ إلى الشام.

وهكذا سار مع القافلة وعاد معها بعد عام من الغياب، ليتذكّرَ مولاته من جديد وحاجتها إلى النار! فراحَ يجري مندفعا ملهوفاً يحملُ لمولاتِه ما طلبته من الجمر منذ عام. لكنه من فرطِ سرعته تعثرَ فهوى وتبدَّدَ الجمرُ على الأرض. فنهضَ من زَلتة ممتعضاً وهو ينفضُ الرماد عن ثيابه ويلعنُ العجلة ويقول: تَبَّا لسرعتي.. لولا العجلة لما ضاعتِ النار! وهكذا يا صديقي لولا عجلة الدنيا لما توقفت المجلة؟ ولا تأخَّرَتْ حسرتُك على غياب "الآداب".

هذه حضارة مربِكة وفترة مفصلية صعبة، لمن عاشوا وعانوا وتألموا مثلنا، فالعالم يتسابق بفائض من العجلة والقوة المفرطة.. والفنتازيا أيضا. والنزاع على المكاسب والأمتيازات قائم منذ الأزل، لينال كلٌ ما يفيض عن حصته للبقاء. لكن الماضي لم يخلُ من الحب والفرح والأمل، والحاضر مقلق ومعقد، والمستقبل إلى سؤال.

وما يجري بفعل النسبيَّة والتئام الطاقة والكتلة وسرعة النور؟ فلا يدركُ من كان في مثل بساطتي ما تمخضت عنه عبقرية أينشتاين، وكيف تكون معادلة الطاقة ومواكبة الكتلة وسرعة الضوء؟ أو هي "كارثة" نيوتن "المتعصب" ممن أمعنوا في "خراب" الكون.. في حساب الفعل وردة الفعل، وقدرة الكتلة في التسارع والعزم.

حمدا لله يا مهند أن أهلي وأهلك ماتوا قبل العولمة، فلم يدركوا المحمول والنانو وخصائص سرعة الحاسوب، فأبي على لسان محمود درويش؟ كانَ من أسرةِ المحراثْ لا من سادةٍ نُجُبِ – وجدّي كان فلاحاً بلا حَسَبٍ ولا نَسَبِ"، مات مغمورا فلم يذكروا شيئا في "كتاب البلدية" عن آدميته، ولا حتى عن مآثر محراثِه ونشاطِ ثوريه.

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء وداوني بالتي كانت هي الداء؟ هكذا تحولت المعرفة إلى داء، على حساب الحسن بن هانىء طيب الله مثواه، للتحري عما خفيَ من العلل والأمراض. وهكذا تحولنا بقسوة وتصميم إلى تقنين المياه وتعليب الطعام، واكتشاف ڤيروس نقص المناعة وترقق العظام والسرطان. ثم اختزال الزمن بطائراتٍ أعدت للسفر وليست للحرب، فبلغت سرعتها أعلى من الصوت بأضعاف. "وأليكسا" الآلة العمياء تأمرها فتستجيب بسرعة الخاطر لتفعل لك ما تشاء، بدلا من السير على الأقدام والدراجة الهوائية، ومن الحبر والورق والكتابة بريش الطّير والغزَّار، والحنين إلى ساعي البريد يطرق أبوابنا، يحمل إلينا حنين المسافرين بين يديه.

هذا زمن التوتر والقسوة ومتاهة المحمول والحاسوب. وفائض من الوقت يبدده كل واحد على هواه، في حكاية "الأمير الصغير رائعة دو سانت إكزوبيري"، وعطش الأمير رائد الفضاء الآتي من كوكب آخر؟ وكيف بدا لنا يتقصّى أحوال أهل الأرض هادئا مطمئن البال مرتاح الأعصاب، وهو يمشي الهوينى في الطريق إلى الغدير، ليشرب ويعود هادئا هانئا كما جاء! فتبا يا صديقي للانجازات والمعرفة العلمية في فكر الإنكليز وعبقرية الألمان.

كتبت نصا بهذا المعنى بعد غياب  جريدة "السفير" عنوانه: عندما يقتلك الحنين..؟ نشرتِ النص مواقع عديدة، ستجده "بفضل النت" والسرعة وعجلة العصر ونيوتن وأنشتاين، وعباس بن فرناس عالم الرياضيات والفلسفة والفلك والكيمياء، ممن اشتغلوا أيضاً بالموسيقى والضرب على آلة العود، نكاية فحسب بأوروبا والأميركان.

مهما يكن الأمر يا صديقي..؟ فهذا الكائن البشري المنكود، سيصحو عقله يوما ويندم على ما ارتكبت يداه، لينبذ التسلط والأذى، ويحطم بنفسه آلة السرعة وأدوات الحرب والموت. وهكذا تبدأ رحلة بناء الإنسان على أساس أسلم وأمتن. ولئن كانت النتيجة على خلاف ما نرجو أو نتكهن..؟ فتكون إرادة الباري عزَّ وجلّ هي السبب.

بالعودة إلى "الآداب" وصلب المقصود من موضوع المقال؟ فالدكتور سهيل إدريس أحسن الله إليه وطيَّب مثواه، وهو المؤسس الأول لمجلة - ودار الآدآب.. كان قد درس الشريعة وتخرَّج شيخا بعمامة ولحية وقفطان.

لكنه سرعان ما تخلى عن زيِّه الديني، لينصرف إلى الحيّ اللاتيني، ويتابع دراسته العليا بالقرب من "البانتيون وحديقة اللوكسنبورغ وجان فالجان"، وينال الدكتورا في الأدب العربي من السربون إحدى أعرق الجامعات. وفي هذا الحي ومن غرفة فندق تطل على "مقبرة العظماء" ظهرت حكايتي: "على كرسي لويس الرابع عشر".

هكذا استوعب الرجل الفكر الغربي عن طريق القراءة والترجمة والتفاعل مع المحيط، ليرفد جيلا كاملا بفيض من الثقافة والمعرفة المشهودة. وحسنا فعل عندما لجأ إلى الآداب والترجمة، وتخلى عن المشيخة والتبشير بالموت وعذاب القبر، ونأى بنا عن الرايات الحزينة الخفَّاقة فوق المساجد، لا ترتاح ولو يوما واحدا في العام.

ومجلة الآداب لم تتردد يوما، في نشر نتاج ألمع الكتاب والشعراء على مساحة "الوطن" العربي من المحيط إلى الخليج، ممن يثيرون الضحك بصوت يخدش الآذان وهم ينادون ذات يوم: بترول العرب للعرب..! أولئك المفكرون من الكتاب والشعراء، ممن واجهوا في بلدانهم الاضطهاد، والتعسف والتنكيل بفعل نواياهم وحسب.

لكن هذه الدار الثقافية العريقة توقفت للأسف، بعد مجالدة مستحيلة بفعل الخسائر المالية، الناتجة عن تراجع عدد مشتري الصحف الرافد المالي الوحيد، بالإضافة إلى حظرها من الدخول إلى كثير من بلدان الجوار، دون أن تترك فرصة التدخل لمن أبدوا رغبة بالمساعدة في التمويل، ممن أرادوها ربما فرصة مناسبة لمصالحهم.

"وخطـطنا في نــقى الرَّملِ * فلم تحفظِ الريحُ ولا الرملُ وعَى". هكذا توقفت "الآداب" عن الصدور حالها حال "السفير".. إحدى ضحايا فترة تحوّل العصر نحو متاهة  بلا حدود. وهكذا طوت برمشة عين في رأس السنة عهدا من النضال المجيد، فانتهى أمرها وأقفلت أبوابها ولتخبز بالأفراح في الأردن وسائر الديار العامرة.

فسماح إدريس تولى الإشراف على "مِحْرَدِ" الآداب، وقد رأيته مرة أو مرتين يظهر على إحدى وسائل الأعلام، وطلال سلمان أطفأ النور وأغلق أبواب "السفير"، وراح يناكد الزمن "ويتسكع مشرداً" "على الطريق".

ولو عدت معي إلى بهيَّة وبدايات السينما المصريّة، وكيف ضاع العمر يا ولدي في متاهة العمر الأخير، وشهدتَ ما شهدتُه في مراهقتي على الشاشات؟ وما سمعتُه من القارئة وسوء الطالع في الفنجان..؟

لسمعتني بفعل الحسرة على الماضي، أردد ما علق في ذاكرتي المنهَكة: "غنِّ وقولْ عالنّاي.. عيشة الغريب الزّاي.."!؟ من بقايا فيلم مغرق في القدم. شاهدته على أطراف الماضي البعيد، ولعله كان في عالم اليوم سخيفا لا يستحق الاهتمام؟ لكنه لا زال حيّاً في وعيِ عبر طيات الزمن، بفعل حاسات الجسد ونشاط الخيال والروح. لا سيما وأنت الناقد السينمائي وصاحب الخيال العلمي الخصيب. ولو أنني لا أتذكر تفاصيل الفيلم أو مراميه؟ إلاّ أنه يتحدث عن انتفاضة ورعشة الحب الأخير. ذكريات تدور في فلك الخيبة والمرارة وحزن القلب العميق.

دارة دوري فينا.. ضلي دوري فينا، تينسوا أساميهن.. وننسى أسامينا. لا علامة فارقة للوجع كالنقطة والفاصلة أنهي بها رسالتي إليك.. لكنها نقلة البيَّات البالغة في الرِّقة والشجن، لا تدانيها كل الفواصل والحدود.

ولا أدري والله يا صديقي، من أين تأتيني هذه الدموع المستنفَرة البغيَّة، لتنال مني وتقهرني..؟ غادرتْ كل القوافل، ولا زلتُ أنتظر"رحلة إبن فطومة" في محطة علم الغيب، نحو دار الأمان محطتي ومأواي الأخير.

 

إبراهيم يوسف - لبنان

......................

* في التعقيب على: لماذا اختفت "الآداب" المنشور.. في موقع السنابل

للأخ الصديق مهند النابلسي

"تعا تا نتخبّى من دربِ الأعمارْ

وإذا هنِّي كبروا ونحنا بقينا صغارْ

وسألونا وين كنتوا .. وليش ما كبرتوا أنتو .. منقلن نسينا

واللي نادى الناس .. تيكبروا الناس .. راح و نسي ينادينا"

https://www.youtube.com/watch?v=rTts79RsEBE

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم