صحيفة المثقف

مركز صحي

صحيفة المثقفاندفعت عبر باب بيتها الخارجي الى الشارع فلفح وجهها البائس المبلل بالدموع برد كانون الثاني.. نعم كانت تبكي .. تبكي قهراً وألماً حركت وجهها يمينا ثم التفتت الى اليسار حائرة في أيّ اتجاه تسير ولمن تذهب والى أي مكان تتجه، غير إن خطاها البطيئة المترددة الحائرة قادتها الى الشارع العام القريب من دارها، لم يكن أهلها في هذه المحافظة بل في محافظة قريبة غير إنها لم تشأ أن تحمل زكائب مشاكلها المتواترة لتلقيها على أكتاف أُخوتها فما لديهم منها كاف ويزيد . قادتها خطاها كما هي العادة الى المركز الصحي القريب حيث تأخذ أولادها بين حين وآخر للعلاج كلما ألح بهم المرض . لم تجد بدا من ولوجه فلا مكان لها لتذهب اليه . كان الدمع لا يزال ينسجم من عينيها وتمسحه تارة بأطراف أصابعها وتارة أُخرى بذيل العباءة السوداء التي كللتها من أدناها الى أقصاها . ولجت الباب مع ثلة من الموظفين المتريثين قرب الباب ليبصموا قبل دخول المبنى . لم يكن عجبا أن يحضر بعض المراجعين مبكرا لذا لم يلتفت اليها أحد بسؤال أو استفسار، دلفت واتجهت الى حيث ينتظر بعض مراجعي المركز الصحي وهنا بدأت موجة أُخرى تجتاحها من الأسى على نفسها فانهمر بكاؤها غزيرا خارت اثره الى الارض متلفعة بالعباءة السوداء التي تغلفها مثل خيمة . لاحظت احدى منتسبات المركز الصحي اهتزازها الصامت .. لم تبال أول الأمر فهي في عجلة من أمرها كي تبدأ العمل المناط بها  بعد ما يقرب من ساعة رفعت الموظفة رأسها لتجد المرأة المتكورة لما تزل في موضعها وقد عرتها موجة طاغية من البكاء الحار . استنجدت المنتسبة بزميلاتها وانتدبتهن لرؤية ما يحدث للمرأة، خرجت منهن اثنتان لنجدتها واستقراء الأمر وبين البكاء المتقطع والموشح باللهاث فهمتا انها لم تكن مريضة بحاجة الى نجدة طبية آنية بل كانت مبتئسة منقبضة الصدر لا تعرف اين تلتجأ مع حزنها الطاغي وقلبها المتقطع، ربتت احدى الموظفتين على كتفها وهونت عليها الأمر وطلبت منها الكف عن البكاء والتماسك . سقتها كاس ماء وحينما تناولت بعض الطعام ذكرتها ب " لفيفة " صغيرة من افطارها الذي تتناوله واقفة فهي كما المرأة لم تذق طعاما منذ الصباح . لم تكن المرأة تريد العودة الى حيث أولادها المشاكسين الذين يرفضون الاستماع لما تقول والذين يبددون طاقاتهم بالخصومة والنزاع حتى لا يتبقى منها ما يقومون به بأعمال تنفعهم وعلى رأسها الدراسة والنجاح . حتى إنهم يرفضون مغادرة سررهم للذهاب الى مدارسهم .  كان المركز الصحي وبين حين وآخر يقوم تطوعياً بأعمال الرعاية الاجتماعية فطالما أتت اليه النسوة خاصة بحاجاتهن ومشاكلهن فهن يألفن موظفاته بحكم مراجعتهن المركز الصحي لمعالجتهن أو لعلاج أولادهن كلما شعروا بوعكة مهما كانت صغيرة . تذكرت الموظفات تلك المرأة المراجعة التي قصدتهن قبل أشهر لينقذنها من الحاجة المادية المؤذية والآخذة بتلابيبها فجمعن لها ثمن تنور تستطيع من ريعه أن تنفق على اسرتها وتسد حاجتها . حاولت المنتسبات اقناع المرأة المتهالكة بؤساً بالذهاب الى دارها غير إنها أبت أولاً .. ثم بعد ذلك لم تجرؤ مر وقت وحل الضحى وحين رفعت الموظفة رأسها من بين السجلات رأت رجلاً طيباً ينحني على المرأة يحاول تهدئتها ويعدها بتأديب صغاره .. ويتوسل اليها لتذهب معه الى الدار فهي دارها وهم أولادها أولا وأخيرا .

***

سمية العبيدي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم