صحيفة المثقف

جلال الدين الرومي.. تأملات في المثنوي (٢)

احمد الكنانيجلال الدين الرومي كعارف صوفي لا يعتني بالزمان كثيرا، اذ لا معنى للماضي عنده ولا للمستقبل، فالماضي ماض وغد بظهر الغيب واليوم لي، وهي حالة يعيشها من ركن ذاته جانبا وتسلَق سلَم السمو، وتحرر من الذات وما يحيط بها من فوضى عارمة تفسد الاستمتاع بحلاوة الأشياء، والمثنوي حكاية تجربة رائدة يعيشها الافذاذ حال تجردهم عن ذواتهم، والرومي انسان آني يعيش اللحظة الانية، فعمق الوجود الإنساني يكمن في هذه اللحظة .

التفكير حالة فوضوية

الكفر بالفكر..والايمان بالسكون

السكون ينتج الوعي

ومنه نتاج الحكمة

فهو كالناي مسلكاَ للوحي وللنبؤات

بشنو اين نی چون شکایت می‌کند

الزمن متوقف عند الرومي فلا يوجد ماض ولا مستقبل. وفي تقسيمات الزمان يكمن سر الفوضى التي يعيشها الانسان.

تدبَر وانت جالس في هذه اللحظة الحاضرة لكنك تفكر بما ستفعله بعد حين...اذن الموجود هو المستقبل وان كانت اللحظة آنية.

من هنا يدعو الرومي الى العيش في اللحظة الانية وقطع التفكير بالمستقبل، كما يدعو الى تناسي الماضي وعدم العيش في متاهاته.

ومن هنا تُعرف حقيقة النفس، ومن خلالها تعرف حقيقة الاله، فالآلهه تصاغ من نسج المخيلات.

اله الأديان يدعو الى تفضيل بني دينه وبغض غيرهم

واله العارفين يدعو الى العشق، ولا شيء سواه

اما النظر الى الماضي ومراجعة الأخطاء والاعتراف بالخطيئة والتوبة منها فهي عند الرومي خطيئة أخرى، وحقيقة التوبة من الخطايا هي نسيانها وعدم التفكير بالرجوع اليها :

هست هشیاری ز یاد ما مضی

ماضی ومستقبلت پردهٔ خدا

آتش اندر زن بهر دو تا بکی

پر گره باشی ازین هر دو چو نی

ای خبرهات از خبرده بی‌خبر

توبهٔ تو از گناه تو بتر

ای تو از حال گذشته توبه‌جو

کی کنی توبه ازین توبه بگو

ان كان ذكر ما مضى من قبيل الانتباه

فالماضي والمستقبل كلاهما حجاب الله

فلتضرم النار في  كليهما معا ... فانت ملئ بالعقد كأنك الناي

يا من اخبارك تدل على جهلك بالمخبر

ان توبتك اقبح من الذنب

ويا باحثا عن التوبة عن حالك الماضي ...

قل لي : متى تتوب عن هذه التوبة ؟

*

تا زمین وآسمان خندان شود

عقل وروح ودیده صد چندان شود

لا تکلفنی فانی فی الفنا

کلَت افهامی فلا احصی ثنا

کل شیء قاله غیرالمفیق

ان تکلف او تصلف لا یلیق

*

من چه گویم یک رگم هشیار نیست

شرح آن یاری که او را یار نیست

شرح این هجران واین خون جگر

این زمان بگذار تا وقت دگر

قال اطعمنی فانی جائع

واعتجل فالوقت سیف قاطع

*

صوفی ابن الوقت باشد ای رفیق

نیست فردا گفتن از شرط طریق

تو مگر خود مرد صوفی نیستی

هست را از نسیه خیزد نیستی

حتى تصبح السماء والأرض ضاحكتان

حتى يكون العقل والروح والنظر مائة ضعف

لا تکلفني فانی فی الفنا ... کلَت افهامی فلا احصی ثنا

کل شیء قاله غیر المفیق ...ان تکلف او تصلف لا یلیق

ماذا أقول ؟ وليس فيَ عرق منتبه

لحبيب ليس له شبيه

شرح ذلك الهجر المدمي للقلب

دعه هذا الوقت لوقت اخر

قال اطعمنی فانی جائع ...  واعتجل فالوقت سیف قاطع

والصوفي ابن الوقت هو كذلك يا صديق

غير صادق من يقل غدا شرط الطريق

الست انت نفسك رجلا صوفيا ؟

فاعلم اذن انت لست قادما من النسيئة

حالة السكون والركون الى الآن حالة روحانية عاشها الصوفيون ويعيشها الروحانيون اليوم، واشعار الصوفية في اغلبها تعكس تلكم الحالة، رباعيات الخيام لا تخلو من الدعوة الى اللحظة الانية ونسيان الماضي وتجاهل المستقبل . لكن الخيام رغم فلسفته التشائمية الا انه من الداعين الى اغتنام اللحظة الحالية والتمتع بها لأنها المملوكة بالفعل، فالماضي ماض وغد بظهر الغيب، وكما انشدت أم كلثوم بعذوبة  ذاك البيت الذي رسمه بأتقان احمد رامي من الرباعيات :

غد بظـــهر الغـــيب والــــيوم لــى    وكم يخيب الظـن فى المقــــبل

ولســــــت بالغافـــل حـــــتى أرى     جمال دنـــــــياى ولا أجتـــــلى

فأمتلاك يومك واغتنام لحظاته هو الحل الامثل لهذه الدنيا المليئة بالبؤس والشقاء ولو ادرك القادمون اليها ما عانيناه لما أتوا :

فلاک که جز غم نفزایند دگر

ننهند بجا تا نربایند دگر

ناآمدگان اگر بدانند که ما

از دهر چه میکشیم نایند دگر

وقد اجاد الصافي النجفي في صياغة بعض ابيات الرباعيات وبذات المضمون المتقدم :

إن لم يكن حظ الفتى في دهره ..

إلا الردى ومرارة العيش الردي ..

سعد الذي لم يحيَ فيه لحظة ..

حقا وأسعد منه من لم يولد ..

من هنا يدعو الخيًام الى اغتنام فرصة اللحظة الانية والتمتع بها، فالماضي زائل وفان والمستقبل مستتر وراء ظهر الغيب لا يربح فيه رهان، والباقي هو الحال ولا شئ سواه، الوجود لا وجود له والحياة في الرباعيات لا بداية لها ولانهاية وانها تكرار واجترار .

وُجُودُ ذَا الْكَوْنِ مِنْ بَحْرِ الْخَفَاءِ بَدَا

وَسِرُّهُ لَمْ يَبِنْ يَوْماً لَدَى الأُمَمِ

كُلُّ امْرِئٍ قَالَ وَهْماً عَنْ حَقِيقَتِهِ

وَالْحَقُّ مَا فَاهَ فِيهِ وَاحِدٌ بِفَمِ

تَسَاقَطْنَا كَطَيْرٍ فِي شِبَاكٍ

تُعَانِي مِنْ أَذَى الدَّهْرِ اهْتِضَامَا

وَنَخْبِطُ فِي فَضَاءٍ لَيْسَ يَبْدُوْ لَهُ

حَدٌّ وَلَمْ نَبْلُغْ مَرَامَا

هذه شذرات لطيفة اقتطفتها من درر ما ورثناه من كنوز مولانا جلال الدين الرومي وعمر الخيام ودعوتهم لنا للعيش بسكون وهدوء دون صخب ما مضى وفوضى ما يأت، لتكون براعة استهلال للولوج رويدا رويدا في ساحل بحر المثنوي

 

احمد الكناني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم