صحيفة المثقف

خطاب الذات في السرد الروائي.. قراءة في رواية سارق العمامة

طارق الكنانيللذّات في ما تتلفّظ به وجود وكينونة، ولاسيّما إذا ما كان ملفوظها خطابا إبداعيّا مشكّلا باللّغة. تتفاوت درجات حضورها فيه من خطاب إلى آخر وتتباين، فقد يكون صريحا معلنا، وقد يكون خفيّا مضمرا. والسرد الروائيّ منخرط في هذه المقولة غير منفلت من حدودها وغير مستثنى.*

ففي رواية سارق العمامة للروائي "شهيد شهيد" كانت هذه الذات تتجسد في خطابه بوصفه متكلما حيث كان الراوي المنوط به فعل السرد يطبع خطابه بطابع ذاتي ، فهو في بداية الرواية يطرح عدة تساؤلات من خلال الراوي ليظهر من خلال هذه التساؤلات فلسفة تنويرية تكتظ بها مخيلة الكاتب كأطروحة بديلة عما يحدث في المؤسسة الدينية والتي هي بيئة الكاتب التي يتحرك بها ولو اننا لاحظنا انه أخفى البعد المكاني والزماني في الرواية فهو لم يصرّح حقيقة بهما ولكننا نتلمس وسط هذه التساؤلات التي طرحها ضيق المساحة التي يتحرك بها الكاتب .

بعد ان طرح تلك التساؤلات يأتي ليجيب عليها من خلال خطاب شخصية الراوي حيث تخلى عن كينونته بوصفه فاعل ملفوظ ينبجس عنه الخطاب فيشحن بتلوينات الذات وانطباعاتها ويمكن استجلاء ذلك من خلال الخطاب الروائي الذي مارسه الكاتب ، فهو في تقريره ان يصبح نبيا بناءً على حلم، وهذا الفعل مشترط بفعل آخر هو ان "يسرق عمامة " غير محددة ، وما لهذه العمامة من رمزية في المتخيل المجتمعي فهو يفصح عما تمثله له هذه العمامة من عائق كبير امام طموحه، حيث ان امر تلّبس الذات بملفوظها ليس بمقصور على خطابات السيرة الذاتية والروائية (ان كل ملفوظ يكون لامحالة يحمل بصمة من تلفظ به مطبوعا بها)*. فهو يفصح بشكل جليّ عما تمثله هذه العمامة وحاملها وسطوتها ونرجسية حاملها ففي الحوار الذي اجراه مع " ظهر الدين" –ولا يخفي ايضا ما لهذا الاسم من رمزية مقصودة – يظهر الكاتب سطوة رجل الدين وحقيقة شخصيته من خلال اظهار غطرسته بالتعامل مع الآخر .

لم تتوقف الرواية عند حد معين في نقد الظواهر المجتمعية وما تقوم به المؤسسة الدينية من فعل يحد من الممارسات المدنية ويطبع المجتمع وتفكيره الجمعي بطابع ديني ضيق حتى راح يحاكي بعض النصوص القرآنية التاريخية والاحاديث النبوية ، فعملية اختيار الجامع كمكان -تم اختياره بشكل عشوائي – في حقيقة الأمر لم يكن كذلك ، فهو فعلُ مقصود للانطلاق بمقارنة قصدية اراد من خلالها الكاتب ان ينقل ما يحدث هناك فهو يتساءل لماذا سميَّ ببيت الله وما لهذه التسمية من مردودات سلبية. ففي البداية كانت الكلاب تمارس الجنس امام الجامع فممارسة الجنس بصورة علنية كفعل محرم دينيا ، واما هو فاعتبره فعل جمالي مقدس ، وفي اليوم التالي تم القاء الطفل ليلتقطه هو ويرشحه ان يكون هو "النبي اللقيط " وهذا مقصد آخر اراد من خلاله الكاتب ان يقول ان من يسكن القاع يمكنه ان يصبح نبيا فالنبوة ليست مقصورة على النخبة والنبوة ليست معاجز بقدر ماهي طرح ما يمكن طرحه من الافكار والجماليات التي يمكن ان تجعل المجتمع بصورة افضل ورؤية افضل من خلال نشر المحبة ، واليوم الثالث حيث تعاطف مع اللص الذي يسرق الجامع ليطعم عياله وهذا مأخذ يأخذه الكاتب على المؤسسة الدينية فإهمالها للإنسان واهتمامها بالمساجد لا يجعل الحياة افضل فالصلاة تصبح هناك عادة وخوف وليست فكرة للاتصال بالخالق، فالعبودية تعني الخوف والكراهية ، هنا يطرح الكاتب معنى جديد لجمالية العلاقة بين الخالق والمخلوق فهذا الخطاب لا يتعدى خطابا ذاتيا اراد من خلال شخصية الراوي التمهيد له وازالة الحرج من مقاربة الذات فأمكن للدرس السرديّ المشتغل بالرواية أن تغتني بمداخل جديدة تقارب من خلالها الذات مدارها على إشكاليّات متعدّدة تبحث جميعها في قضايا الذات في علاقتها بما تنتجه من خطابات تنظيرا أو تطبيقا وتحليلا. وفي اليوم الرابع حين دخل المسجد فلم يجد هناك من يصلي وحين اراد المكوث طرده الشيخ من الجامع فنجد الحوار الذي دار بينهما ، اليس هذا بيت الله ما علاقتك انت به، ولكن حين هدده الشيخ بالشرطة ورجال الأمن نراه انفتل هاربا لا يلوي عن شيء ، فالسلطة هي من حببت رجل الدين بالعمامة.

الكاتب اراد ان يصل من خلال شخصية النبي المبتكرة الى امور عديدة بأن النبوة هي ان نعتني بالإنسان كإنسان بعيدا عن المعجزات وخوارق العادات فهو لم يطلب ان تتنزل مائدة او يفلق البحر او يحيى الموتى او يجعل النار بردا وسلاما او تحدث معجزة الاسراء والمعراج فهو لا يحتاج الى هذه المعاجز بقدر ما يكون نبي ينشر المحبة بطرق أخرى غير التي جاءت بها الرسالات السابقة أو كما يعتقد الكاتب بأن الديانات قد اختُطفت من قبل رجال الدين وتم توظيفها بشكل يلبي مصالح الطبقة التي تكونت بفعل الاذعان المجتمعي لرجل الدين من خلال ما يبثه من تعاليم وضعية تم الاتفاق عليها في المعابد ليبقى المجتمع تحت تصرفهم ، فهو قد عبر عن ذاته في السرد الروائي بشكل يجعل القارئ يتابع بشغف ما سينتج عنه المشهد الآخر ....لكنه في الجزء الأخير من الرواية أوغل في ما هو ليس من الخطاب وحاول أن يسقطه عليها خارج مقولات أدبيّة الخطاب الأدبيّ ومقتضياته وسننه. ففي مشاهد يصور فيها جبرئيل وقد فقأت عينه بناءً على احدى الروايات ويصور فيها سليمان وقد اتكأ على منسأته والحشرة تأكل هذه العصا حتى يسقط سليمان ، احسست بأن هذه المشاهد كانت محشورة حشرا فالحدث الروائي كان يتصاعد في اليوم السابع وأنّ المقاربات السرديّة أمكن لها أن تتطوّر بفضل ما ارتفدت به ممّا حقّقته بعيدا عن الاغراق الذي اضافه الكاتب في المشهد الأخير .

ان انفتاح المقاربات السرديّة على مدارات عرفانيّة مستجدّة منه ما هو موصول بالخطاب الفلسفيّ ومنه ما هو موصول بعلوم اللسان كلسانيّات التلفّظ والتداوليّة ونظريّات تحليل الخطاب…. بما توليه للذات من أهميّة في طروحاتها وفي مقارباتها إيّاها في مختلف أجناس الخطاب يجعلنا نتساءل: هل هناك صلة أو علاقة بين الذات في السرد الروائيّ لرواية سارق العمامة وبين المرجع والمتخيّل؟.

ومن خلال الرواية موضوع البحث نقول :نعم ان ما تم طرحه من افكار عبر الكاتب فيها عن الذات بشكل متقن .

الرمزية في الرواية:

يطرح الكاتب في روايته "سارق العمامة "الكثير من الرموز التي تعتبر محورية في بنيوية الرواية وهو يوغل في القصدية من وراء هذه الرموز ومقارباتها.

- ففي المهلة التي اعطيت " للنبي المجنون " سبعة ايام رمزية عالية فتاريخ وادي الرافدين يزخر بها ولعله قصد بذلك كيف خلق الله السموات والارض وفي اليوم السابع استوى على العرش* ، ولعل ملحمة جلجامش خير من يوضح تلك الرمزية فلقاء شمخه وانكيدو دام سبعة ايام ، وفي الذاكرة الجمعية للمجتمع العراقي نحتفظ بالرقم سبعة في الفرح والوفاة ففي اليوم السابع هناك حفل خاص .

- الجامع وهو البيت الذي يطلق عليه بيت الله فهو من خلاله يطرح عدة تساؤلات لماذا يغلق هذا البيت ، لماذا لا يوجد مصلين ، لماذا هذا الترف الباذخ في الجوامع او بيوت الله ، لماذا ترتكب المعاصي هناك حيث يحتقر الانسان ، وحتى الشحاذ لا يحصل على نقود بقدر ما يحصل عليها الذي يقف بباب البار.. لماذا يطرد الفقراء من بيت الله ..اراد الكاتب ان يقول شيء كبير من خلال هذه المقارنة.

- عمامة ظهر الدين ، لماذا ظهر الدين ، حيث عدد اسماء منها بطن الدين وغيرها استخفافاً بهذه التسميات التي لا علاقة لها بالمسمى، ولماذا لم يطلق اسم قلب الدين فهناك قصدية في هذه التسمية تؤطر علاقة رجل الدين بالدين فهي مجرد قشرة خارجية ليست بالعمق الذي من خلاله يمّكن رجل الدين من نشر العدالة واسعاد المجتمع فهو غير معني بها .

- الفندق الذي كان عالما مصغرا بساكنيه الذين يمثلون قاع المجتمع فقارئة الحظ التي انتحرت والشيطان الذي يشبه كل واحد في الفندق بما فيهم النبي المجنون فهو يرمز الى الشر الذي في داخلنا فلا وجود للشيطان بقدر ما موجود نزعات انسانية شريرة باتجاه فعل الشر ، وصاحب الفندق الذي كان متسامحا مع الكل .

- الطفل اللقيط والحوار الذي كان يدور بينهما واطلاق اسم النبي اللقيط عليه.

- ابو نؤاس ومأساته التي رويت بطريقتين وكل طريقة تعبر عن حدث معين وفترة معينة ، وهذا الحدث وقع هنا وعلى هذه الارض وكلاهما سيء فلا وجود لأفضلية احدهما على الآخر ويرمز لحقبتين مررنا بهما ومازلنا نعيش الحقبة الثانية .

- عدم معرفته باسمه ومجهولية الهوية التي ضاعت في خضم هذه الاحداث ففقدان الهوية هي سمة ظاهرة للفترة الحالية تم تسويقها عبر شخصية المجنون.

- عندما يكون ملك الموت اعور فأنه سيرى نصف الحقيقة وبالتالي فهو يخطئ هكذا انتهت الرواية بنداء الراوي (حتى الملائكة يخطئون).

تبقى رواية سارق العمامة حدث فني وسردي متميز يستحق الدراسة والتوقف عنده فهو تجاوز كل الخطوط الحمراء والصفراء فقد طرح اشكاليات عديدة لم نستطع الالمام بها في هذه العجالة .

 

طارق الكناني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم