صحيفة المثقف

التصوف والتطرف.. من الفجوة العقائدية الى الفحوى السياسية

رائد عبيسقد نجد للتصوف والتطرف مشترك معنى بالبعد العميق، وإن كانا متضادين في المعنى المعياري لقيمة كل مفهوم، ولكن قد نجد لهما تقارب مصداقي، وهذا التقريب دخل حيز التخطيط للتخريب، بمعنى أن المتضاد هو متقابل مع الضد وهذا التجاور ينتج تحاور، على المدى القريب أو البعيد، او مصاهرة اذا لم تكن مقاهرة، بمعنى اتباع سياسة الارغام ونعومة الانتقام. إذ لم يعد مثل هذه الحالات في التعامل مع المتناقضات أن تعلن التصادمات. فالقضية باتت مرضية من قبل كل طرف بلا كلف، لأن الجار اولى بجاره، والدار ينالها الخراب إذا لم يكن للجار بها مهاب. اقتضت الضرورة التاريخية أن نكون مع القضية، إعداء في العلن واحباب في الخفاء كاللبن، هذا ما يجري مع مسألة التصوف الذي نشأ من فكرة الخوف لا الخرف، واتباعه وسيلة لتقريب الله منها ونحن منه، ولكن ما الذي يحدث عندما يجد الصوفي نفسه في غفلة من أمره؟ وان التصوف ليس الطريق المناسب للوصول إلى الله بمعنى أن الرهبانية هي منبوذة ومستنكرة ومرفوضة، لا سيما وأن العقلانية الدينية تدعو إلى التوازن بين ما هو ديني و دنيوي، ولكن متى تكشف هذه العقلانية وقد بلغ التصوف بصاحبه إلى طرق عدم رؤية الحياة كما يراها الدنيوي؟ اذا كان التصوف نهج وطريق ووسيلة فقط لبلوغ الحقيقة التي احب المتصوف بلوغها عن طريقه دون غيرها من الطرق، عندها ندرك أنه ليس بعيدا عن طرق العقلانية والرجوع إليها اذا لم يكن بعيدا عنها اصلا. لأنه نهج معرفي بالدرجة الأساس ومن ثم تحول إلى نهج عبادي أو العكس لا يهم، المهم هو أن هذه الوسيلة يجب أن لا يحكم عليها انها جزء من مفاهيم الغلو والتعصب والتشدد، وان كان كذلك سوف يتحول التصوف الطريق العرفاني بأسرار المعرفة الدينية إلى نهج ايديولوجي حركي سياسي، وبهذا التحول يفقد التصوف قيمته كمنهج معرفي له مقاماته وأحواله. ويكون جزء من نهج سياسي داخلي او خارجي، او داخلي مستعمل من قبل جهات خارجية، عبر الاستشراق ومدارسه أو أنه طريق جديد للمنافسة و الحضور ! بصيغة حزب مرة، او حركة، أو مدرسة علمية، او تيار فكري، او مؤسسات تأخذ صفة وطابع آخر مختلف عن فحواها وسلوكها مرة اخرى، وهذا يعني أن السلوك الصوفي لم يكن كما كان عند الجنيد أو الحلاج أو ابن عربي او غيرهم من الذين يفنون حياتهم الجسدية والمادية من أجل قيم روحية اكتسبت، لا بل أخذ السلوك الصوفي نهج المعارضة والمضاربة والمأربة ودخل بالسياسة ويشارك بالقرار ويمنح الخيار. هذا النمط من التصوف بات نهجا في مدارسنا الصوفية المعاصرة وأخذ يسمى بمسميات مختلفة، مثل: تصوف سني، وتصوف شيعي، وهذان المسمان هما الأبرز من حيث الانقسام الفعلي في عالمنا الاسلامي، وبات الثاني يتهم الاول بالاقتراب من التصوف اليهودي، والاول يتهم الثاني بالاقتراب من التصوف الصفوي او الفارسي الإيراني .هذه الاتهامات تعكس حجم الاختلافات والصراعات بين أطراف التصوف .وسبب هذا الصراع هو استغلال الدوائر الاستخباراتية الدولية لحجم هذا الصراع بين المدارس ودعم أحدهما على الاخرى، وتبيان أثرها السلبي على المجتمع والدين والمصالح، وهذا ما دفع كثير من قادة التصوف السني الى نقد الشيعة بعنف واتهامهم بتضييع الدين وتهديم الأمة الاسلامية، وذلك لأن الشيعة يولون للقبور الصوفية مثلا أهمية كبيرة بزيارتها وارتيادها. والشيعة يتهمون التصوف السني بأنه وفر أرضية الى تخريب الاسلام وكسر شوكته، من خلال تعاونهم واعتمادهم على دعم المخابرات والسياسات الدولية، في تقويتها وموازاتها للحركات الدينية المعتدلة في العالم الاسلامي. فهناك حرب بين المقامات والاحوال الصوفية، من بلغ مقاما صوفيا معينا وشجع به ممارساته ومظاهرها وسلوكياته الشاذة، بقصد تشويه الدين من خلالها لأنها مستثمرة من قبل دول لا تريد خيرا بالإسلام وأهله، فسرعان ما نجد من يستشعر هذا الخطر يعلن الحرب والعداء والتشكيك الاجتماعي لهذه الحركات، ولكن الحرب بالمحصلة ستكون متقابلة ، وعندها تضيع قيمة الفعل الصوفي الصحيح. السؤال الأبرز هنا هل يستشعر الفرد هذا الصراع بين المدارس الصوفية وانتماءاتها؟ هل يدرك الصوفي أن التصوف أصبح سياسة؟ هل يدرك أن التصوف لم يعد منهجا معرفيا بل ايديولوجيا؟ هل يدرك أن كل القيم الروحية التي يمثلها التصوف قد تبددت؟ هل يدرك حجم الخراب الذي يخطط له لا ضاعت قيم الإسلام من خلال مدارس التصوف ومنهجه؟ وهل يعتقد أن القيم الروحية في الاسلام يمثلها التصوف فقط؟ ما شأن التصوف و السياسة ؟! هل بات التصوف مرادف للتطرف؟! ام أنه منتج له؟ هل أصبح التصوف منهجا للتطرف؟! ام ان السياسة جمعت بين الأثنين؟ هل التشكيك بنهج الصوفية بات مبدد للتصوف؟ صحيح أن التصوف له بدايات سايكولوجية في الغالب، الا أن الان أصبحت له رغبات سياسية وأيديولوجية لها أن تفعل بالمجتمع ما تفعل بالسالك، وهذا يعني أن المواقف ستكون مواقف مريد مع شيخه، وهذا يخلق حالة من الطاعة العمياء ومصادرة لجمهور العامة ، الذي عليه أن ينال من التصوف ما يجعل خياراته في تقويم الواقع اقرب الى تجريد مفاهيم، لا يستطيع به معالجة أي خلل أو مواكبة اي تطور. هل يستفيد التصوف من التطور التكنولوجي؟ بالبعد البركماتي للتصوف ممكن أن يكون الجواب بنعم، لان آليات نقل القيم لم تبت روحية صرفة بل تقنية بحتة ! وهذا لم يحقق الأثر الفاعل لمعنى القيم بل يساعد على تقمصها تعنتا وغلوا، لأنها صادرة من شيخ يكون قد سحر أتباعه بزيف خطابه وما يتطلبه من دعم مادي، هذا فيما لو اقتصر على ذلك، فقد بلغ ببعض متصوفة السياسية أو سياسي التصوف أن يزرع القيم الرذيلية بنفوس أتباعه حتى ينتهي بهم إلى حاجة التطهر، والأخذ من شيخ الطريقة ليس بما يليق به بل بما يتلقاه، وهذه دوغمائيات جديدة أضيفت إلى دوغمائيات الفقه واصوله، فالدين لم يعد محميا كما يجب وقيمه باتت مهددة بالهدر! لان أتباعه نهلوا من غير مشاريع واعتقدوا بما استورد منها ضنا منهم أنه جوهره ولكن في الحقيقة انه ما يدمره. التطرف هو أحد صيغ التدين واشدها فهما متزمتا للدين، وقد امتد هذا السلوك من الخوارج ، وبدأ في العصر الحديث والوقت الراهن من اهم مصادر التفكير السياسي في مبدأ صراع الحضارات وتهديمها من الداخل وعلى يد أبناءها، هذا الأمر الخطير في كون التطرف هو سلوك فردي أو جماعي أو سلوك دولة، ام جماعات داخل دولة، أو سلوك مشاريع داخلية أو خارجية أو داخلية خارجية أو العكس، فالأمر لا يختلف كثيرا مع دوائر التفكير السياسي باستثمار التطرف، والذي نجحت به كل الأطراف الراغبة بالاستثمار إقليمياً ودولياً ومحلياً، مثلما فعل بالعراق بتسخير داعش لخرابه أو لتدمير سوريا، أو ليبيا، أو اليمن، أو حتى السعودية، أو موريتانيا، أو النيجر، أو أفغانستان، أو إيران، أو الصومال، أو حتى السودان، أو مصر، أو بلد آخر ينتج ويساعد على إنتاج أو يمهد لذلك، أو يدعم بعده أو يشارك جهارا بهذا المخطط أو ذاك، والتي تتبناه جماعات بمسميات دولة إسلامية أو جماعة إسلامية، والذين يقودوها متطرفون تدربوا عليه في الخارج، مع دعم بالسلاح والأفكار والافراد، الفكر المشترك بهذا التطرف، وفر له بيئة مناسبة اينما يتجه ويكون، وقد نال حتى الدول التي صنعته ودعمته وساندته. فالتطرف هو سلوك عدائي مع الاعتدال ، ونهج مضاد للتضاد ، يريد أن يكون الحياة بلون واحد. هذا هو الأمر الذي يقارب مشروع التوأمة بين التصوف والتطرف سياسيا، سياسة استثمار السلوك وتوحشه ونظرية نزع القيم وانتزاع الهوية، ورغبة العيش، هذه السياسية ساعدت الظروف العربية على استقلالها واستفحالها في ذهنية الفرد العربي، مما جعل حضور فكرة كره الأوطان، وتنامي رغبة الهجرة بين الشبان، أمر مقبول ومشجع عليه، حتى في العواصم الاكثر رفاها وأقصد، بذلك من دول الخليج، المجتمعات العربية باتت تكره ثقافة الحقد والكراهية السائدة في المجتمع والتي انعكست سايكولوجية ومرضيا على كيان الفرد المسلم والعربي، لاسيما بعد زوال فكرة وواقع الحكم باسم القومية، والشموليات المشتركة بين البلدان العربية والإسلامية، والتي اصبحت افكار الفردانية، والشخصية، والاستقلال الانشطاري، لا الاستقلال الوحدوي، وتنامي افكار الانفصال، ونبذ الأقليات المتعايشة، والصراع بينهما، وتحجيم المكونات، والهويات الفرعية الاخرى سياسياً، واجتماعياً، و نشاطياً على حساب مكون حاكم، أو ايديولوجيا حاكمة أو عائلة حاكمة، فنشأت التطرف وعوامل تعزيزه متصاعدة وليس متنازلة، متنامية وليس مضمحلة، قوية وليس ضعيفة، فكيف للمضطهد الاستسلام والاقرار بالقاهر؟! بالتأكيد ينتج عنه تطرف مضاد، وهذا ما شجعته دول في امريكا وأوروبا وبلدان مجاوره ومحيطة ببلداننا العربية والإسلامية أو منظمات، ومؤسسات في داخل بلداننا تنظير لهذه الانقسامات وإلغاء التفكير الوحدوي من ذهنية شعوبنا العربية والإسلامية.

 

الدكتور رائد عبيس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم