صحيفة المثقف

فتنة الأسرار.. مَأسَسة الانحدار وفقدان القرار

رائد عبيسكثيرا ما نسمع منذ زمن طويل عن ساسة العراق ورؤساء احزابه، لغة تهديد بكشف المستور، كاختراق الدستور، والتلاعب بمقدرات البلد وهدر خيراته، والاستيلاء عليها، وتأسيس الدولة العميقة، دولة الفساد وتقاسم الكعكعة، والاتفاق على النفاق، وتغيير بوصلة السلطة من سلطة الشعب إلى التسلط عليه، ومن مشروع تأسيس الديمقراطية وتحقق المدنية الى تأسيس المليشيات وعسكرة المجتمع، عبر فيالق من الاتباع والمليشيات بوصاية دينية مرة وعشائرية مرة أخرى وسياسية ثالثة، لا حزب مستقل عن هذه الأمور؛ لان التنافس السلطوي، وصل إلى شطر العائلة، والعشيرة،والمجتمع على نفسه إلى جزيئات مختلفة ومتنوعة ومتلونة، وهذا ظهر في تجربة الانتخابات الأخيرة، ولعبة الاحتواء بلا حياء من قِبلَهم تجاه قضيتهم الانتخابية والتي خُتمت بمحرقة الصناديق وتبديد فكرة التصديق التي كسبها المجتمع وهو ينخدع بهم من جديد، تحت مسميات جديدة ومظهر جديد.

وإذا سألنا، هل المواطن يبحث عن فحوى التغيير والبحث عن المصير عبر هذه القشور التي لُمعت قبل التصويت لهم؟

الفطرية السياسية (السذاجة) مع النفعية، مع الأمل بها، ولد عند المواطن العراقي رغبة بالتحولات الانتمائية من تحقيق ما يصبو إليه بكل لا مبدئية واضحة. وحتى لا نبتعد عن موضوع القضية، نرجع الى مسألة " فتنة الاسرار" التي يدعي كل سياسي مدعي أن لديه اسرار على طرف ما، وان أظهرها سوف تكون فتنة كبيرة وربما ينقسم الشارع العراقي بسببها،لأن مريدي كل سياسي سيتحركون ايضا لكشف مفاسد واسرار الطرف المدعي، وهكذا سوف يكون التوتر له طابع إعلامي وسياسي ينعكس على مزاج المجتمع .

نعم المجتمع وأن أنقسم في تأييد بعضكم على بعض، وبدأت الاصطفافات التأييدية أكبر من حجم البلد بكم،بات من المؤكد أن " فتنة الاسرار" تلعب دور كبير في تغير الأقدار؛ لان المجتمع بات مدجج بالسلاح فضلا عن الطاعة العمياء والحب والولاء والارتزاق الذي زاد الأمر نفاق،وجعل الأمر يدعوا الى الكتمان والمجتمع بقي بالحرمان ؛ لان الكل ساكت عن الكل، والكل يعلم بأسرار الكل، دون جراءة على كشف المستور؛ لأنه يؤدي إلى القبور!.

ومنذ عهد المالكي كان يلوح بكشف ملفات تطيح حتى برجال دين وعوائل دينية متورطة في القضية، ومع ذلك تستر الرجل عن ذلك، بدون معرفة الأسباب هل هو ابتزاز؟ ام أنه تهديد؟ ام أنه تلويح ؟ام أنه تخويف؟!

لا نعلم ذلك، وكل هذا على حساب الوطن، والدستور، والقانون، والأمانة، والمسؤولية، هل هو فعلا خوف من الفتنة ام خوف على المنصب ؟! بعد سقوط الموصل اتضح أنه خوفاً على المنصب وطموحة في الحصول على الولاية الثالثة بل وحتى الحفاظ على الولاية الثانية ؛ لأنه كان في القوت نفسه يلوح بملفات فساد واسرار صفقات ضد شخصيات سنية وكردية، ولكن سكت ايضا للسبب ذاته ! وليس المالكي وحده، بل كل من اقترب من الدائرة السياسية وصولا إلى مركزها أو بلغ منتصفها، امتلك أدلة على كل عناصر الطبقة السياسية، بملفات فساد واسرار الصفقات، والسكوت عن هدر خيرات البلد، والعمولات وغيرها، وما كشفه مشعان الجبوري في تصريحاته ما هي إلا اعتياد أمر قبله الجميع وسكت عنه، بل واتفقوا على مبدأ يحميهم جميعا هو " تجنب فتنة الاسرار" فما نطق به الجبوري مشعان إدانة لكل منهم ولكن سرعان ما أحتويت القضية؛ لأنها في الأصل ليس قضية بل نوع من الابتزاز، (ان لم تعطني من غنائمك سأفضحك)،دعوات للمشاركة في الخيرات!، ومع كل الوثائق المتاحة والموجودة، وبالدلائل الدامغة، لم يتحرك ساكن حول أي قضية، بل لم يدينون الرجل وهو المدين لنفسه !

فما بالك بالساكت تحت ذريعة الخوف، والخجل، والقتل، والخطف، فما بالك بالساكت بحجة أن الله يحب الساترين! فما بالك بالساكت بحجة الحفاظ على وحدة المجتمع ! فما بالك بالساكت بحجة عدم الطعن برموز العراق سواء من كان منهم بخلفية دينية، أو جهادية، أو سبق بالتجربة السياسية، كل هذه المعايير تكفي للحفاظ على عدم وقوع   " فتنة الاسرار " بين الكبار، بالأمس القريب مثلا : كان العبادي يلوح أيضا بنفس ما لوح به المالكي وأنه سوف يكشف بالأيام القادمة ما مسكوت عنه، من حقوق مهدورة للمواطن العراق، وكيف يُلعَب بمقدرات بلده وكيف تضيع، وأنه أعلن أنه سيكون مسؤول امام الله والشعب والوطن، بكشف ما يضر بمصلحته ومصلحة شعبه!

ولكنه سكت ايضا وودع المنصب بسكوته، والمالكي والعبادي كانا كلاهما بموضع قوة ولم يتحدثوا بذلك !!!

اذا كيف يتحدث وهو في موضع ضعف !! وقد كان قد لوح بذلك ايضا البارزاني بكشف حقيقة ما اسماه قيادات بغداد وفسادها وتواطؤها مع من سرق البلد، وايضا لم يفعل ! وهناك من النواب ايضا هددوا بكشف ما عرفوه من سرقات، وصفقات فساد، وخيانة للمسؤولية، وعمولات وغيرها وايضا كثيرا منهم لم يفعلوا ! وان فعل البعض واخلى ذمته، قد سوفوها غيره واضاعوا بذلك كل فرص الامساك بقضية المال العام ومنفعته.

وقالوا أيضا رؤساء هيئة النزاهة جميعهم ومن تولاها ولوحوا بذلك ايضا ولكنهم انصدموا كما هو واضح بصد منيع من حصون الفساد كحصون قاصات سرقاتهم، ولم يفعلوا شيء وبقيت الجهود حبرا على ورق!!

الفساد دولة لها رجالها، نظامها جمهوري وحكمها دكتاتوري صارم، الكل ملتزمة به ومطيع له،لان هناك فضيلة للمطيع ومصلحة متحققة من تلك الطاعة! نعم إن قوة هذه الدولة بكونها دولة ظل لدولة ديمقراطية، باتت تهدد ضعف تجربة دولة الديمقراطية،بل مسختها واضاعتها كفرصة بناء دولة وطن ومواطن،وهذا ما تعمق اعتقاده عند الشعب العراقي، وفقدوا به أمل العودة إلى الأسس الحقيقية لبناء البلد بغطاء واحد، فالدولة العراقية فقدت هويتها وغطاءها الواضح، فلا يمكن أن نسميها مدنية والعمق العشائري يلعب دور بالقرار السياسي، ولا يمكن أن نسميها ديمقراطية والدكتاتورية الفاسدة متحكمة،ولا يمكن أن نسميها اسلامية وهم يحكمون اي الإسلاميون أنفسهم بمنطق المنفعة والغاية تبرر الوسيلة، ولا يمكن أن نسميها دولة علمانية وهي رهينة لقوى دينية،ولا يمكن أن نسميها دولة اشتراكية وهي تؤمن بمنطق التجارة الحرة والاقتصاد الرأسمالي، ولا يمكن أن نسميها دولة بحكم عرفي وفيها قانون مدني مكتوب بلغة التحضر،لا تنسجم الوان كل هذا الواقع مع البحث عن اللون الحقيقي للدولة، بلد بلا طعم ولا لون ولا رائحة،هكذا هي الأحاسيس، من يتذوقك يا بلدي غير سارقيك ؟! من يكتشف بك حلاوة العيش الا ناهبيك؟! من يكتشف الامان بك غير قاتليك؟! من يكشف لك الحقيقة واسرار سارقيك فتنة تقتلك و ابناءك ؟ لكل هذه الأسباب والعلل تبقى الاسرار فتنة والكتمان يعني الحرمان في هذا الزمان، بل بقت سياسة عدم الشفافية حاضرة منذ دعواتها على يد قاتلها ابراهيم الجعفري، لا شفافية بعدم المكاشفة ولا راحة بلا صراحة ولا استقرار بلا قرار، اذ أن قرار غياب العدالة، وضياع الحقوق، والتستر على الفساد وأهله، والسكوت عن السارق وحزبه، وتقسيم موارد العراق على أطراف حكمه، جعل من سياسة التسقيط سياسة يتبعها من يريد أن يكشف حقيقة الأمر، بالأمس تعالت الاتهامات بين احمد ملة طلال وتيار الحكمة وتهديد بعضهم بكشف ما لديهم من وثائق ضد البعض،فضلا عن ألاعيب الابتزاز والتناغم المنفعي بيهم.

الى متى يبقى العراق بلا رفاق حق، مازال البلد يعيش غربته بين أهله، ومازال أهله يعيش غربته، هذا بفعل من أراد وخطط، ونفذ أساليب مسخ الروح الوطنية من أجساد العراقيين، والإبقاء عليهم صرعى في ساحة الصراع والتنافس بين الأحزاب، فمنهم شهيد استجاب لزيف تجنيدهم له، ومنهم من قتل لأنه منتمي لهم،ومنهم قتل لأنه ينتقدهم، ومنهم من افتقر بسبب عدم أنصافه ومغالبته على حقوقه وخيراته .

إذ ان انعدام مكاشفة الشعب، وممارسة الكذب السياسي، والخداع المستمر بالحقانية ومدعياتها، ومحاولة السيطرة على العراق من خلال امساك كل حزب بمحافظة، اذا ما تم تقاسم خيراتها بين أحزابها، هي التي ساعدت على تنامي طفيليات الفساد، هكذا تنامت أحزاب وشخصيات على حساب المرضى، والفقراء، والمساكين، والمجتمع التي تنامت مشاكله بسبب فسادهم وضياعهم للبلد.

الصمت والسكوت أصبح سياسة واقع حال،اذ لا احوال بدون القبول بذلك،وهذا ما تم التسليم به مجتمعياً والانخراط به، فالناقد للمجتمع يجد في كثير من الأحيان الشعب هو من يسهم في تعميق ذلك في كيان الدولة والمجتمع على السواء،وعند التفحص بذلا الأمر نجد أن هذا الشعب هو جمهور الأحزاب المتفقة على الخراب! ما الحل إذا ونحن نعاني المحن ؟ بفعل سلوك من لا سلوك وطني له .

لماذا كل من يملك سرا يتجه هاربا إلى دولة أخرى، ويبقى يلوح بها عبر وسائل الإعلام ؟ ومنهم من يتكلم به بصراحة، ومنهم يلوح بذلك . الى متى اكتشاف اسرار السرقات يعتبر جريمة ؟ شرعت الدولة قوانين تحاول أن تضبط الحالة، فمرة شرعت المساءلة والعدالة، ومرة أخرى هيئة النزاهة، ومرة أخرى قانون الكسب أو محاولة تشريع قانون من اين لك هذا ؟ أو مؤخرا محاولة عادل عبد المهدي بتأسيس المجلس الأعلى لمكافحة الفساد،كل هذه المحاولات، هي تجارب لاختراق اسرار المنظومة الفاسدة، ولكن لا جدوى من ذلك ! ولا حلول يمكن أن ننتهي إليها بهذه الطريقة من السكوت، والتكتم على أسرار الفاسدين، وان كانت مخاوف الفتنة هي الحاضرة على الدوام من تمزق المجتمع، فهذا هو المجتمع يتمزق بسبب السكوت أيضا، أي حل يا قادة بلا قيادة! واي حل يرتجى من الساكت على الفساد والشاهد على عصره و أسراره؟! واي امل من كل هذا السكوت؟! انه خذلان للوطن وأهله

يامن لا وطن لهم سوى موطن فسادهم!!

 

دكتور رائد عبيس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم