صحيفة المثقف

موجبات الانكسار وتشظي المعنى في شعر هيثم الزبيدي

رحيم زاير الغانمان ادهى الانكسارات التي يتلقاها الشاعر لا تحدث في لحظات الابداع الشعري، وانما هي نتيجة لتراكم المآسي والآهات، وليدة تجارب عاشها كفرد ضمن منظومته المجتمعية، تراكمت فصارت أفكاراً، تستهدف المحيط المجتمعي ولكونه عنصرا فاعلا، ترجم ما يدور حوله بنص شعري، ليس الغاية منه التدوين بقدر   الرفض وطرح الاسئلة التي تستدعي العصف ذهنيا بجموع متلقيي نص الحياة الحي/ الواقع من دون اجتراره بل تلقيه واعادة الحياة للنص الشعري، كونه نص أنتجه الفعل الحياتي، (أن الكتابة لا تكون من لا شيء. كما ان الرفض لا يكون الا رفض شيء)1

هذه الديناميكية للفعل ورد الفعل وكيف للمتلقي قراءته؟، في عملية تتوجب انتاج قارئ مدرك للمعنين، قارئ يتخلى عن ذاتيته، وينطلق الى أفق أوسع كي يتجلى له المعنى الحقيقي، وبذا يكون مُكتسبا الخبرة فيما يُنتج من معنى وما يتشظى عنه، ففي قبالة فعل الحياة/ نص، وقبالة رد الفعل/ متلقٍ، ونتيجة هذه المواجهة معنى، يتشظى هو الاخر، وبذا تكتمل  الصورة بأدق تفاصيلها.

وهذا لا يتحقق بكاتب يستحضر نفسه وهمومه الذاتية بل انَّه يتحقق بكاتب يراعي العالم وهمومه وتمترساته الكبرى في نأيٍ عن الانا، مهما شعر به من اغتراب داخلي، كي يحقق انتمائه الانساني، وهذا بالضبط ما ذهب اليه سارتر (ان المرء لا يمكن ان يكون انسانا أو يجعل من نفسه كاتبا الا اذا رسم على الافق خطا يتجاوز به نفسه)2، وليس ما قاله لوتر يا مون  ببعيد عن هذا المعنى عندما خاطب الشعراء (كتابتكم للشعر ليست سببا معقولا لتنفصلوا عن سائر البشر)3، اذن الكاتب ليس له ان ينفصل عن مجتمعه كونه مرآة عاكسة لواقعهم المعاش، وعلى كافة الصعد.

لذا هو في محك دائم مع متلقيه من أجل اثبات انسلاخه عن ذاتيته واندماجه الفعلي مع البشر، المنتج الحقيقي للحدث الشعري، هذا ما سيتم تناوله من خلال رصد ثيمتي الرفض والاغتراب في ضوء قراءة نقدية معمقة، متخذين من مجموعة (ما قال لي أحد هُزمت)4 للشاعر هيثم الزبيدي أنموذجاً لذلك.

(قف ها هنا أيها الوطن الغريبُ

وأنظر الى السعف الجريح

يشوب مفرقه المشيب

اذرف على شرفاتنا

أقمارك الصفراء

تؤنسنا اذا انبجس الغروب

وأنثر صباك على الثرى

قل كيف تجمعه الدروب؟)ص11

ان ما يتعرض له البشر من الشعور بالاغتراب داخليا لهو اشد الشعور بالانكسار، الذي يقوم بدوره من تحفيز للشاعر على الكتابة كردة فعل مركبة، من ناحية احساسه بالاغتراب اولا واحساسه بجموع البشر ثانيا، وهذا يدركه المتلقي في النص الشعري، المكتنز لمشاعر مشحونة بالاسى والشجن العميقين، وذا يبدو جليا في النص عبر  جمله الشعرية او الالفاظ المفردة، (الوطن الغريب، السعف الجريح، المشيب، أقمارك الصفراء)، في جلِّها تنتج لنا معنى الشعور العالي من الانفصال عن الواقع، وعده واقعا طارئ/ ملفقاً، لا يمت للبشر بصلة، كل شيء في غير شيئيته، في تشظى للمعنى المراد من الاوطان والنخيل الشامخ اليانع والاقمار المضيئة البيضاء، لتبدو الصورة اكثر قتامة، وأشد سوادا، رفضا الى هكذا مآل.

(هل ضاعت قافلة الجوز

وأناخت قافلة الملح؟

يا ذا الراعي

قل كيف تكون الايام

وما في الكوخ سوى عنقود

من تمر والليل أفاع؟

يا ذا الراعي

قل ماذا اعطي لجياعي؟)ص30

قد لا يكون الشعور بالفاقة أقل فتكا من الشعور بالاغتراب، ان لم يكن مكملا له، وما موجبات الانكسار الا لإحساس مستديم بواقع متهالك، من خلال ضياع الثروة وفقدان الامان وتملك الجوع للمشهد وتنامي الفزع، وما تواتر الانكسارات في جمل النص الشعري، (هل ضاعت قافلة الجوز، أناخت قافلة الملح، وما في الكوخ سوى عنقود، والليل أفاعٍ؟)، كل هذا الضياع يستدعي من الراعي الاجابة عن سؤال ملح جدا، (قل ماذا اعطي لجياعي؟)، في انتاج لمعنى للجوع والقسوة في تمثلاته من (قافلة الملح و الافاعي) التي تدسُّ السم الزعاف كلظى في الجسد الهزيل، في تشظى لمعنى البطش والاستكانة لهذا المارد، الذي لا يترك مخبأ للأمان الا ودك حصونه.

(لم أقل أن الحياة حماقة كبرى يوشحها السوادْ

ولم أقل أن المآذن تطرد الغيم البليد

فلا يمرّ على قرانا..

لم أقل ان القصائد نسوتي

والنخل يحمل فوقهُ سقف السماء..) ص42

قد تتشظى الموضوعة الشعرية الى موضوعات عدة،  بعد الرفض والاغتراب الى الادانة التي قد تنال قسطا وافرا من التظشي الذي يردفه تشظى للمعنى، ففي النص الشعري تبدو الادانة للحياة جلية ممثلا في الجملة الشعرية الاولى للنص، (لم أقل أن الحياة حماقة كبرى يوشحها السوادْ) وكذلك في جملته الشعرية الثانية، (ولم أقل أن المآذن تطرد الغيم البليد) في تعميق لهول الشعور المتصاعد بالانكسار، لما عاناه من السواد الذي اعتلا الحياة وطرد الغيم البليد فلم تمر بالقرى التي سقفها النخل، لتنتج معنى الموت وانهيار سقف النخل الخضراء الذي كان عامرا قبل زمن القحط، في تشظى لمعنى تكامل انطباق فعل الشعور بالنهاية المبكر.

(مفتقة يا اذان الغياب

ثياب القوافل

كلّهم قبل يوم الرحيل

استفاقوا على صرخة السيسبان

وكلهم كبَّروا ..ثمَّ راحوا..)ص49

النص الشعري اماط اللثام عما دار او يدور في (يوم الرحيل)، اذ بدا باذان للغياب مفتقة، وثياب القوافل كذلك، كونهم، (استفاقوا على صرخة السيسبان)، اذ لم يبقَ في الديار غير صراخ  لشجرة السيسبان، في نداء استغاثة أخير، السيسبان الشجرة التي  من دون  ثمر، وحيدة تتوسط اشباح القرى، في انتاج لمعنى الخلو من ابسط اسباب الديمومة،  هكذا بدت القرى خالية الا من التكبير في اشارة لصلاة الموت التي لا تقام من اجل الانسان، بل للأشياء الميتة من حوله، لقوله، (وكلهم كبَّروا ..ثمَّ راحوا..)، في توثيق لنهاية حياة كانت هنا، وما يتشظى عنه من معنى، تخلي البشر عن الاشياء ليجعلها تعيش محنة الاغتراب القسري كما عاشه لسنين مضت.

نص حُب

(فكي وثاق طفولتي

كي تعلمي

أني أحبك

واسكبي أرَجَ الربيع على دمي

ولتعلمي..

أن الرصاصات التي كانت تودّ النوم في قلبي أنا

لم تفطمِ..) ص53

ان الرفض للقيد من فعل طبيعة بشرية، كون البشر دائمي الرفض لما يقترن الامر بحريتهم، وما طلب فك الوثاق من الطفولة، رفض مقترن بشرط علمها بما يحمل البشر من الحب، ويردف يشرط ثان بحسب النص، (واسكبي أرَجَ الربيع على دمي)، وهنا كي تعلم ان الرصاصات التي في دمه لم تفطمِ، في عودة باذخة للبراءة لكن عبر وجهة مغايرة، في انتاج لمعنى الاستمرار بالاغتيال الذي ما يرغب مغادرة قلبه بالفطام، في تشظى لمعنى الاستعباد لزمن الطفولة البشرية وكذا الاصرار على خلود شبح الموت الجاثم على القلوب الرقيقة.

(ما قال لي أحد كبرت

سمعتها في هدأةِ الجدران

في رفض الشوارع مشيتي

في خطوتي

ثقلتْ على الجسر الذي أدمى جماجم أخوتي

في الليل بعثرت السماء سكونه فوق الدروب) ص89

في الجملة الشعرية الاولى للنص ،(ما قال لي أحد كبرت) تتبلور ثيمة الاغتراب، وتتناسل الى متوالية انكسارات ذاتية كما في، (سمعتها في هدأةِ الجدران، في رفض الشوارع مشيتي)، وما أن نستغرق أكثر في تلقي النص، الا ليفصح لنا عن مأساة انسانية وفواجع كبرى، وما ثقل الخطوة على الجسر الذي أدمى جماجم الاخوة، الا انتقال سريع الى هم مجتمعي انساني أكبر، كونه، (في الليل بعثرت السماء سكونه فوق الدروب)، وما يتشظى عنه من معنى الامعان بالإهمال والتمزق والشتات، الذي طال فئات كبرى من البشر، مع الحرص الشديد على التنبه الى كل مفصل من مفاصل الحياة والى كل ذرة من ذرات الكون التي تواصلت معها ظنَّاً منها انها تجد مبتغاها من الانصات أو الاستماع لها لكن من دون جدوى.

 

*رحيم زاير الغانم

.........................

الاحالات:

1- شجر الغابة الحجري، طراد الكبيسي، منشورات وزارة الاعلام في الجهورية العراقية، 1975، ط1ص24

2- المصدر نفسه: طراد الكبيسي ص30

3- بول ايلوار، بقلم لويس باروث وجان مارسيناك، ترجمة فؤاد حداد، دار المكشوف للنشر، ص186

4- ما قال لي أحدٌ هُزمت، هيثم الزبيدي، دار فضاءات للنشر والتوزيع- المركز الرئيسي، عمان، ط1، 2013

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم