صحيفة المثقف

وجهي البشع

قصي الشيخ عسكرأدركتُ وجهي متأخراً للمرة الأولى:

في المرآةِ أم الماء.. ذلك لايهم فلعلي كمن يقف على حافة بحيرةٍ، يتأمل شكله ثم يرمي حجراً يهزُّ ركود الماء فإذا به يتابع وجهه وهو يتغير مع الدوائر فيهاجرُ عنه إلى جهاتٍ بعيدة.. من قبلُ خمنتُ أن شيئا ماحدث فيدايَ كانتا مشوهتين تتحسسان شيئا ما غير عادي.. أقول لايهم قبل أن أرى وجهي الجديد لتكن أسوأ الاحتمالات فأقصى ما أحلم به ألا أموت.. أكون على قيد الحياة وإن تخليتُ عن بعضي أو تغير بعضي، أما ماعدا ذلك فأمورٌ تافهة. هكذا قلتُ للطبييبِ الجالس قبالتي والذي أرسل من جهة ما لاتعنيني. جاء يخففُ عني بعد معاناةٍ طويلةٍ وعزل.لكني يبدو غير قلق مادمت مازلت على قيد الحياة.

لقدأدركتُ وجهي بعدما اعتدت عليه في شكله القديم الذي رافقني منذ ولادتي!هي المرآة أو العين التي كنت أمر بها وأستبق الزمن. أغترف بيدي حفنةً ماء اتطلع في وجهي الوسيم، ثم أرمي حجرا صغيرا فأرى الدوائر تشوهني.بالضبط تشوِّهني إلى امتدادٍ غيرِ متناه!

قلت كنت أستبق الزمن.

إنّ عليكَ أن تتقبل الواقع والناس ليس بأشكالها بل هم ليسوا بوجوههم.

قال ذلك الطبيب ولم يدرِ أني كنت مشغولا بنجاتي من الموت أكثر من أيِّ شيءٍ آخر أفقده مثل وجه قديم كنت من قبل تمعنت به في المرآة كل يوم أو على صفحة عين ماء ترتمي عند خاصرة الجبل. اعتدت أستريح عندها كلما هبطت أو صعدت، وربما كان هناك من الجنود من ينكح بالقرب منها تحت الأشجار الكثيفة أتانا تحمل على ظهرها أرزاق الربايا .لاحاجةَ لي بنصيحة نفسية. أنا وسيم ذو ملامح هادئة.بعض الفتيات يعجبهن شكلي الأمر الذي يدفعني إلى أن أطيل الوقوف أمام المرآة وأمعن النظر بوجه صادقني منذ الولادة إلى وقت متأخر ثم غادر رأسي فجأة من دون أن أعرف.. أنسل عني كاللص تماما ويبدو أني ارتديت من دون أن أدري أيضا رأسا آخر.. يقولون في الزمن الموغل في القدم كان بإمكان الناس أن يخلعوا رؤوسهم عند النوم لئلا يحلموا أحلاما مزعجة.. إلا أن الناس اختلفوا في سبب ثبات الرؤوس فيما بعد وتلك مسألة لاتخصني قط.

فهل حلمت حلما مزعجا غادرني على أثره وجهي القديم!

 لست معتوها، ومن بين كل الأسماء التي كانت في جيبي مع قصاصات الشِعر والمذكرات اخترت اسم إحسان!

إحسان ذلك الجندي الذي كان رفيقي في الخندق..

عاقل ومعتوه

صاح وسكران

مجرم وبريء..

إنسان مجموعة متناقضات فلم لا أكونه مع شكلٍ آخرَ فرُِضَ علي مؤخرا لاأعرف لم جاء وكيف حَلّ على جسدي؟

لاأريد أن أدخل في تفاصيل أدق يستشف منها الآخرون أني مغرم بذاتي إلى درجة أني أنكرتهُا تماماً بعد الحادث فالحديث عن شكلي أصبح جزءا من الماضي حيث الوسامة نوعاً ما والعينان النرجسيتان غير أن هناك رقعةً داكنة وسط الخضرة تتلألأ .. تمنحني وجها آخر.. لا أحد يصدق أني امتنعت عن أن أراه بعض الوقت.

عيناك جميلتان قالت ذلك، وحين رجعت إلى الخندق سألت إحسان المسخ:

هل ترى عينيّ جميلتين؟

فضحك وقال هذا سؤال ليس من اختصاصي يمكنك أن تطرحه على عريف السرية بشكل لايغار منك الجندي جميل

وحين أحس بعينيّ تغليانِ تحاشى نقمتي وقال:

دع الهزل ربما تظن نفسك وسيما أو يظنك الآخرون هكذا لكنّ حبيبتك التي لم تُرِني صورتها لحد الآن على حق فكل شيء فيك يمكن أن نرميه مع الأزبال ماعدا عينيك؟

 ربما أنا نفسي أشك في الأمر.

أنا الآن شخص آخر..

أختلف تماما عما كنت أعرفني من قبل.. أين يا ترى رأيت ذلك الوجه الذي اعتدت على رؤيته في المرآة وعين الماء. كان وهما.. ؟لاأشك أن أقرب الأشياء إلينا تلتصق بنا ولاندركها.. لذلك لايهمني أن أعرف اسمي.. أما الأشخاص الذين كنت أعرفهم.. فلا أرغب في أن يعرفوني إلا بوجهي الجديد. فقد تغير كل شيء في تلك اللحظة الغريبة.

أين كنت من قبل؟

بل أين هو إحسان العبثي الذي انتحلته فيما بعد؟

 ألف حاء سين ألف نون قال ذلك أول مرة التقيتُه في مركز الفوج قبل أن نتوجه إلى خندق أمامي.. قال اسمه وهو يعد على أصابعه كأنه يعد نقودا.. أما جندي الإشارة الذي نطلق عليه جهينة فقال لي ستكون مع فلتة وستكتشف أنه يمارس العادة السرية من دون أن يحتاج إلى صابون ومحظوظ هو أبو جورج عنده إلى أبعد حد.. لكن انتبه جيدا وعد معي اسم رفيقك في الخندق بصفتهِ عُملةً فكة:

ألف أسد

وهنا زعق إحسان: بارك الله فيك!

حاء حمار حرامي

فقال إحسان: قبحك الله ياعار مع إني أقول الحمار أفضل من البغلة!

ألف أفعى تنفث السم واذكروا محاسن موتاكم

رائع ياجهينة

نون نياكة!

سود الله وجهك!

لم يكن جهينة متناقضا فيما قاله من سفاهة لكنه التفت إلي قبل أن أصعد الجبل مع إحسان وعقب:

 لن أدعك تعرف كل شيء الآن فإذا مانزلت من الأعلى حين يحين دورك في الاستحمام قبل أن تصاب بالجرب والحكة تكون اكتشفت بنفسك من هو رفيقك في الموضع من دون حاجة إلى معلومات تستقيها من العبد الفقير جهينة!

إنه يحدثني عن نفسي من دون أن أدري ولربما وقعت من تصريف ِ إحسان إلى عدة معان على الأفعى التي تغير جلدها كل عام مثلما تَغيّر شكلي .. وقد سألت نفسي وعدت إلى الموضع، هل تغّير الماء فأصبح يعكس الوجوه على غير حقيقتها مثلما أردته من قبل؟ ويبدو أن الأمور سارت بشكل غامض إذ أن كلّ شيء كان يميل إلى الهدود تماما، حتّى خلت الحرب تسير نحو نهايتها إنها مثل الحبّ لاتعرف متى يداهمك ومتى تشفى منه، وربّما دبّ فيّ السكون الغريب.. ذلك الضيف الذي حلّ من دون مناسبة فجعلني أخدر وأتلاشى بعيدا في الخدر، راح إحسان يتمعن في الصحو قال لي وأظنه جادا في قوله:

الشمس ساطعة .. هدوء لامثيل له ما أحوجني إلى كأس خمر أكرعه وأنا مستلق ويداي تحت رأسي حتى أرى كل شيء يصبح جمادا مثل قرية مسحورة أهلها كلهم من الحجر!

أنا لاأحب أن أغيب في الهدوء أحب أن أعيشه وأنا صاح !

فلسفة فارغة!

تحتاج إلى مائة سنة لتفهم !

لامائة سنة ولا حتى يوم فمن يضمن عمره إلى يوم غد لشدما يضايقني أن آكل وأشرب فتمنعني بنادق الأعداء من أن أخرج وأتغوط لقد كان جهينة على حق حين تساءل الخبيث إذا كنا لانتغوط في الجنة فما فائدة الدبر؟ مع ذلك أتدري أني أفكر أن أخرج إلى الخنادق أبحث لعلي أجد في جيب أحد الجنود القتلى زجاجة فيها خمر تستحق أن أجلبها إلى الخندق " ثم قهقه" ليست مثل زجاجة ذلك الميت ابن القحبة الذي فتشناه :

قل أنت وحدك فتشته ولاتتحدث بصيغة الجمع!

المهم.. فتشته فتشناه.. نتشفاه تفتشته .. فتشه ابن القحبه لم يبق منها غير قطرات كرعتها في الحال!

إذا وجدت قطعة حشيش فسأخزنها إلى أبي جورج .أما حين أجد خمرا فلا ينقصني في هذا الموضع سوى امرأة أم أراك تتفلسف وتقول أنا أحب أن أضاجع النساء وأنا صاح أليس كذلك؟

لايتردد أعرفه جيدا حتى آخر يوم ..

في اليوم الأول ظننته ساذجا ثم اكتشفت بعدئذ أنه يدرك الأمور ويوازن بينها .. وفي يوم آخر رأيته مجرما وبعد يوم بدت إنسانيته.. يتبادل مع أبي جورج المحظوظ عنده الحشيش بالخمر ، يقول إن إم جورج أفضل من تصنع العرق من الرز.. عشرات القناني يجلبها مع قدومه من كل إجازة فيحصل على امتيازات من الضباط.. ولا أدرك قط لم يكره الحشيش.. هو شخص مبعثر لاتجمعه إلا مع الأيام.. كاسمه الذي تهجاه جهينة أمامي.. وحلله إلى أكثر من معنى قبل أن نصعد الجبل .. كل حرف فيه يعادل إنسانا وحيوانا ما.. فصادفت فيه أفعى تغير جلدها قبل أن يتركني وجهي القديم.. كل مافيه يحيرني . يدمن الخمر ويعاف الحشيش. هو في هذه اللحظة وجهي الآخر الذي ارتديته بعد أن أدركته أخيرا .. بخاصة عندما انتظرتها طويلا فانسللت خلفها.مشيتها رائحتها وشيء ما في عينيها لا أدركه، سأكون إحسان أمامها ولامجال لي إلا أن أفعل ذلك:

- هل تسمحين؟

 التفتت نحوي.كانت تنظر إليّ كما لو أنها تقف أمام أيّ إنسان:

- أتكلمني؟

 وهمت بالمسير فاستوقفتها ملحا:

- أنا صديقه كنّا في خندق واحد!

أنا أنت ياإحسان.. إحسان لابد من أن أكونك.. لحظتها – حين أقابلها يوما ما – أحسس بالحاجة إلى قليل من عبثك ومرحك.. لقد عشت حياتي السابقة وتشبعت منها فلم لاأعيش حياتك السابقة في قادم أيامي:

 سألتني بشيء من الاهتمام:

- كيف عرفتني!

كان يحدّق في صورتكِ طويلاً طويلا، رأيتك بأمّ عينيّ، فاستدللتُ عليك، ولو لم أكن أراكِ لكنتُ عرفتكِ من وصفهِ الذي أسهب فيهِ عنكِ.

 توقفت برهة كمن تحاول أن تتذكر خبرا نسيته منذ زمن طويل!

- إذن أنتَ كنتَ معه.

ها أنا أحمل اسمه لن أنسى قط يوم قالَ لي وفِّر عليكَ ذلك فأنا لست بحاجة إلى مائة يوم لأتعلم يكفي ماتعلمناه من قبل .. كلما تعلمنا ازدنا تعاسة فلم يكن يبحث عن معلومات في جثث الموتى بل عن خمر ونقود يروح يغامر بين الجثث والعفونة حتى تقع يده على زجاجات خمر فلا يفكر إن كانت سما أملا في أن يغيب عن الوعي ولو لحظة واحدة وكان يقول لي إن أكثر اللحظات نشوة تلك التي تجتاح جسده حين يرمي بقطعة نقود صغيرة على الجثة صاحبة الزجاجة ويصرخ فيه: اترك الباقي لك.طبعا بعد ذلك يلتقط القطعة .ويركل الجندي الذي جنبه قائلا: لاتظن أني أحصل على العرق من أبي جورج مجانا فهو يقدمه للضباط من دون نقود ويقبض مالا مقابله من الجنود ومادمت أزوده بالحشيش فهو يعمل لي بعض الخصومات أفهمت ياحمار.. المشهد نفسه يتقمصه وهو يضع السلاح جانبا فيبسط يديه ويهز كتفيه :إترك الباقي لك .. بخشيش يسمونها بالإنكليزية Tips الحق لاأعرف الكلمة بل سمعتها من جندي مختص في اللغة الإنكليزية " أطلق ضحكة هستيرية" الناس يقدمون بخشيشا للأحياء وأنا للموتى!

أرجوك اترك هذا الهراء ودعني أتمتع بالهدوء!

 بعد ساعة إذا استمر الهدوء ولم تنطق المدافع والقذائف أخرج أبحث في الخنادق تعال معي لعلك تعثر على شِِعرٍ في جيب قتيل.. ياسيدي صاحب الهراء مات بإمكانك أن تنسبه لنفسك! ولو كنت شاعرا مثلك لفعلتها من دون تردد!

كان الفضول أخيرا يدفعني لأن أخرج معه:

على فكرة أنت نبهتني إلى أمر في غاية الأهمية.. سأذهب معك وأجمع ما أجده في جيوب الموتى من أوراق لعلني أطبعها في مجموعة ذات يوم أسميها أفكار الموتى!

النقود في جيبي بعد خصم البخشيش . إني أجمع مهرا إذا مافكرت في الزواج،

 كانت لاتلتفت إلى المال كانت تقول إننا يمكن أن نسكن في أيّ مكان، فالدنيا واسعة، ويمكن أن يكتفي أيّ منّا ببدلة واحدة، ونستغني عن الثلاجة والهاتف والتلفزيون، يكفيها أن تجلس قربي تتطلع في عينيّ العسليتين، وأنا أبحر في شعرها الفاحم، فهل يكون إحسان شبه الأميّ خبيرا بالحياة أكثر منّي:

مالك سارح هل تقضي وقتك كله بالسرحان في حالتي الحرب والسلم يا أخي قلت لك الورقة لك.. كل ورقة لك.. أما قطعة الحشيش فهي ليست من اختصاصي سأحتفظ بها فأقدمها هدية لأبي جورج عند ذهابنا إلى مقر الفوج.. الله ماأطيب عرق الرز من يد أمه.. لَكْ أبو جورج تسلم يدا أمك ويسلم فمك الذي تليق له هذه القطعة من تلك الجثة العفنة يا أبا جورج لاتزعلْ يُخرِج الطيب من الخبيث!

فقاطعته ساخرا:

ياأخي لاأدري اسمه جورج فلم نطلق عليه اسم أبو جورج.

أبو جورج أبو خراء كله واحد وأظن لاتليق به كلمة جورج وحدها لأننا حين نسميه أبو جورج في هذه الحالة نكون نحن الصاحين وهو المسطول أما إذا قلنا له جورج فسيكون هو الصاحي ونحن المسطولين.

والله أنا أفضل أن تمتنع عن الخمر وتدخن الحشيش.

دعك من هذه الخرافة الآن وساعدني على حل اللغز.

أي لغز؟

هذا الذي أمامك.

كنت أنفجر من الضحك أخيرا إذ بسط لي ورقة كان ذو جثة قد لف بها قطعة الحشيش في جيبه وحين وقع بصري عليها شخص أمامي شطران من الشعر:

من يبيض لنا العاقول

إذا ما ترملت إناث العصافير

لأسمه ماشئت عبث.. سأم.. ضجر .. هل أستبق الأحداث فأقول خلال تلك اللحظات ضاع منّي حساب الزمن.. .فقدت حقا جميع الألوان، فعندما كنت صغيرا كرهت الضجيج تماما.. أروح أسد أذني بيدي هربا من أصوات السيارت وفي هذا الموضع بدأت الأمور تتغير أذناي تهربان من الصمت . أخاف..

وضاعت مني الحواس.. أصبحت عدما بعد سكون مفاجيء دب حول خندقنا والخنادق الأخرى!

كأني أصبحت إنسانا آخر

2

حين استفقت، أحسست بألم يقرض وجهي وورم في يديّ.الخندق اختفى مثلما تطير قبعة ساحر إلى مكان مجهول عن العيون.آلام في وجهي الذي المسه بيدي المتورمتين، فأكاد لاأميزه.

جفاف في فمي.. وبقايا من روائح لشيء محروق ..

 وعرفت فيما بعد أني راقد على سرير ومعي مجموعة من الأطباء والممرضات يطالعون وجهي الجديد الغريب…

في الغرفة وحدي . حجر. حجر.. لم يعد معي مما جمعته من أفكار الموتى ولا بعض الهويات والأرقام التي وجدتها في جيوب الجثث من شيءكان هناك تشوه في بعض مناطق جسدي ويديّ…ولعلني نمت طويلا فحلمت بمخلوقات غريبة عثرت عليها في جيب جندي قتل وهو يتأمل السماء لذلك سميته سقراط.. هذا صاحب ذيل ساخن مثل النار وله أذنان طويلتان لعله " عفرجور " كان " قيدنار " ذو الوجه الشبيه بالبومة وأسنان مصاص الدماء غير أنه من دون ذيل يضحك بوجهي ويصرخ فأين أنت يا "قيد نار و"حرفتنبة" يا "عفرجور " وياذا الرمح الطويل حبصبص " حبصبص " بل أين أنت يا إحسان لتحمي ظهري من الرصاص؟

ياترى أين هو إحسان؟

هل مايزال يبحث في جيوب الموتى عن نقود وخمر وحشيش أم اصبح له وجه آخر فانتحل اسمي وعاش في مكان آخر مثلما أفعل الآن!

كاد الضجر يقتلني والخوف والوحدة والظلام حتى تمنيت أن يكون إحسان معي وإن ظهر بأبشع صورة .. مقرف.. لاأخفي أني كنت ألوذ به من خوفي وأرحل معه إلى الخندق الأمامي فرارا من الخندق والضجر والمشفى وإن كانت تلك اللحظة الوسخة التي التفت خلالها فوجدته واضعا على نتوء في الخندق صورة فتاة رائعة الجمال استلبها من جيب جثة ما وراح يداعب قضيبه بيده .كنت معها ووجهي ينصرف إلى الساتر الرملي في آخر لمحة له مني . كنا جالسين في مكان ما لاأتخيل ملامحه ولم أغب معها طويلا في الكلام. قلت أحبك، فنكست عينيها ورددت أحبك . قلت لم يبق من إجازتي إلا بضعة أيام سالتحق بالوحدة وسيقتلني العطش إليك. كانت تتطلع بعيني في ذهول فالتقت شفتاي بشفتيها ولم أستفق إلا على زعقته. فانتبهت إليه وهو ويحرك عضوه على أجزاء من الصورة إلى أن غمرها بسائل لزج اندفع مع تقلصات وجهه فبصقت وكدت أتقيّأ مع أني استحضرت تلك الصورة الآن في غرفة قاتمة مريحة دافئة يبدو أنني مازلت أجهل فيها شكلي..

- رائع هنا أفضل أنت الآن في هذا الخندق وسوف تغادره إلى خندق آخر أما إذا فعلت هذه العملية في مرحاض بيتكم مرة أو مرتين في الأسبوع فبعد فترة تسمع أصواتا كلما دخلت المرحاض تصرخ: جاء بابا جاء بابا!

الحق فكرت أن أكتب شيئا ما أو أقضي الوقت بالأحلام من دون اعتراض على أي مشهد ثمّ اعرضت عن كلّ تلك الأفكار فوجدت أني روّضت الزمن من دون أن أدري.

أناس مختلفون يرتدون ملابس بيضاء ويتكلمون لغة أخرى.. يتمعنون في طويلا طويلا ثم ينصرفون.. أطباء يشيرون إليّ.. جراحون.. أمس وجهي بيدي فأحس بخشونة ما.. ولامرآة أمامي أبصر بها شكلي.. لاأحد يقول لي ماذا هناك.لاأقرؤ دهشة على الوجوه بل استغرابا.. فأحاول أن أسأل وليس هناك من مجيب.. الصمت وحده ينطق معي بينما العيون الكثيرة كل يوم تحدق في لدقائق وتمضي..

ماذا يجري؟

حينها كنت بعيدا عن وجهي لاأعي حقيقته..

الجميع يعاملونني بلطف كأنهم خرس أو بدا لي العالم مغمورا بالصمت إلى حين.كانوا يقدمون لي طعاما جيدا، ويمنعون عني السكاكين والأشواك والمرايا.بين فترة وأخرى يأتي طبيب يفحص عينة من دمي. كان هناك وحش ما يتطلع إلي ينشطر مني باتجاهي ّ.أكاد أصعق.كانوا يقدمون لي الماء في أباريق ويمنعون عني المرايا.كم مرّ علي وأنا لاأعرف نفسي، والآن أدرك تماما أني تغيرت..

وجه جديد تماما غريب عني رافقني ولم أدركه إلا قبل لحظات..

سنوات.. قرون.. زمن أدركت أنّ الوضع الذي كنت عليه في يوم ما في سنة ما تعرض إلى تجربة ما.. قتلتُ متُ قتلت ثم تحولت إلى مسخ، بالضبط حدث ذلك حينما زارنا في الخندق ذلك الضيف المحبوب المسمى بالهدوء، في الحرب كم تطلعنا إلى زيارته، وخمنا أنه علامة على نهايتها وتلك التي تأتيك كالحب من حيث لاتدري سوف تنتهي .. ليجلس المتخاصمون ثمّ يصبحون في لحظات أصدقاء، في تلك اللحظة بالضبط انقلبت الأمور وحام وجهي على الماء .. مسخ.. مسخ.. هذا هو أنا، العين قالت ذلك عن رفيق إحسان في الخندق قبل تلك الواقعة ذلك الشاب الوسيم ، وقفت أتأمل وجهي الذي لم أعرفه في الماء، وفي شبه خدر بين الدهشة والحلم التقطت حجرا ورميته ثمّ تابعت الدوائر وهي تتلاعب به تتسع وتضيق فيزداد تشويها وجمالا ثمّ.. تتلاشى.

- أترى هذا السكون !

يسألني في الخندق صديقي وهو يعدّل بندقيته على كتفه.

- ربّما اقتنعوا بإيقاف الحرب!

- هدوء يثير الريبة قد يكون علامة على نهاية الحرب!

- اسمع ياعزيزي الحرب تأتي وتذهب فجأة مثل الحب.

- أو مثل عزرائيل.

اسمع سأغتنم فرصة الهدوء وأذهب لأفتش في الخنادق الأخرى عن ميتين لعلني أجد في جيوبهم بعض النقود، وحين أعود تستطيع الخروج لتكمل المهمة!

- هذا مارأيته في أحد الأفلام

- ماالفرق "قالها بسخرية" سوف نصبح قصصا أيضا أليس كذلك.

- لكن لاأدري.

- لاتتردد النقود ستدفن معهم وتذهب هدرا أو يستولي عليها الأعداء نحن أحق بها.!

 في الحرب نتحوّل كلنا إلى مفكرين وفلاسفة.نعرف كيف نصادق الموت.حالما يغادر صاحبي الخندق ، واستسلم لخدر لذيذ أصحو لأجد نفسي أمام العين، تلك اللحظة ومازلت واقفا سألت نفسي أين رأيت ذلك الوجه؟جندي يحلق رأسي كلّ شهر اسأل عن مرآة فيصمت، يرش علي بعض الروائح الجميلة.لا أحد يكلمني. أرى بثورا تسقط على راحتي من وجهي واشعر بحكة في جلدي.. شيء ما يهرشني أجلس على سريري، وفيّ رغبة لأن أرى وجهي.

هل تعرفينني ربما تغير شيء.. لابد أن مظهري فاجأك لكني لم أعرف شكلي لحد الآن هل تصدقينني؟

على فكرة كيف هو شكل خطيبتك!

إنها رائعة جدا لاأتخيل امرأة بجمالها.

هل معك صورة لها؟

لماذا هل تريد أن تستمني عليها مثلما تفعله بالصور الأخرى!

ياصديقي لم تصل بي النذالة إلى هذا الحد، فنحن أكلنا وشربنا معا ونواجه المصير نفسه صحيح أنت مثقف أكثر مني لكنني أجد نفسي في بعض الأحيان أكثر فهما للحياة منك!

فقلت ساخرا: تستطيع أن تفعل ذلك حين أقتل!

فرد علي بسخرية أمر:

أنت الجثة الوحيدة التي لن أفتشها فهل تعدني ألا تفتش جثتي!

ثم واصل وهو يهيل حفنة من الرمل على منيه أسفل قدميه:

أتعرف أني كنت أسترق النظر إلى خيمة قلم الفوج فوجدت الجندي الكاتب ينكح يده .. ارتبك لحظتها فقلت له لا.. فقط حين تنتهي امسح بمنشفة نائب الضابط المعلقة على الوتد لقد أطاعني مثل الكلب ثم فعلت مثله وقلت له بعدذلك حين يأتي من إجازته ويغسل وجهه ويديه قدم له المنشفة وقل له " نعيما سيدي " فلاتخف ياصديقي العزيز يامن يحمي ظهري من الرصاص لاتخف هناك عدة طرق فلا تخف لن أفعل أي شيء بالصورة التي في جيبك.

 لاادري لم أخفيت عنه الصورة كانت فعلا في جيبي، فهل خشيت أن يسرح عليها خياله بعيدا فيصل إلى نشوة قبيحة دون أن أعي أني سوف أكونه في يوم ما بوجه آخر. لقد حصل عليها إحسان فيما بعد. هنا في الخندق أو المشفى اختلط علي كل شيء.نعم ففي كل يوم نعثر على أشياء جديدة .يوم أمس كان معنا أصدقاء جدد منهم قيدنار، حرفتنبة، عفرجور، شفالع شنازيب، هؤلاء كان المفترض أن يدافعوا عن الذين حملوهم في جيوبهم.. قيدنار وجدته في جيب سقراط.. أقسم أني خلت سقراطا هذا حيا فهو قد أسند يده بعكسه ومالت رقبته إلى الوراء كأنه يتطلع مليا في السماء.. ميتة ولاميتة هارون الرشيد.. لاأدري لم سميته سقراط فلم يعثر صاحبي إحسان على خمر أو حشيش في جيبه أما أنا فعثرت على رقعة مبهمة خبأها في خيط لفه على زنده.. اليد التي استند فيها سدة الخندق فهل أعيده إلى وضعه السابق ؟رحت أطالع الورقة فوقعت عيناي على خربشات تشبه الصور لخطوط كتبت بحبر أصفر. أفاع وطيور وأسماء مبهمة.أولها قيدنار.. ظلت الاسماء تنحدر من الأعلى إلى الأسفل . في الخندق مط إحسان رقبته ولمح الورقة فقال ساخرا:

أخو القحبة سقراط هذا، كل هذه الكتابة بالزعفران وأسماء الجن لم تحمه من شر الرصاص!

وقلت مندهشا:

لم ياترى كتب الساحر الأسماء من الأعلى إلى الأسفل!

يمكن ساحر أو ُمّلا من الصين كتب له هذا الحجاب!

وغرق في ضحكة هستيرية!

غير أني حفظت هذه الأسماء عن ظهر قلب ولم أكن بحاجة إلى أن أصحب الورقة.. لعلني تشاءمت منها ثم أقنعت نفسي أنها قد لاتكون هذه أسماء جن تحمي الموت قد يكون أصحابها جالبين للمحبة فأخطأ من سميته سقراطا وظنها منجية من الرصاص.. قد يكون وضع الجن في غير محله أخطر بكثير .. ماذا تقول يا أحسان لو علق أحدنا حجابا للمحبة حول زنده وظنه حجابا لطول العمر.. الجن المناسب في المكان المناسب..

راح يسخر مني

 وكنت أتجاوز الزمن وأعبر الأرصفة وأتمتم ببعض الأسماء التي وجدتها في جيب سقراط.. لابد أن تكون للمحبة .. أحس بظمأ ما.. عطش.. أدخل بين الناس أحشر نفسي في الزحام.أمرّ في أيّ ركن وزاوية ظلّت كعهدي بها أو استسلمت للهدم.لاشيء.. الناس لايلتفتون إلى وجهي.ينظرون إليّ مثل أيّ شخص عاديّ غير مميز، فأسخر من صوت يلحّ عليّ:اهربوا.. مسخ.. وحش.. لاأحد يراني مشوها أو يحسّ بي مسخا، مررت بأشخاص أعرفهم منذ الطفولة وزمن الدراسة محامين.. أطباء.. كسبة.. عمّال.. لم يعرفوني لكنهم لم يلتفتوا إلى وجهي المشوّه.لاأحد يتقزز مني، ولاأثر للنفور في عيون الآخرين.كان يمكن أن أكون مثل ايّ مَعلَم غريب.توقعاتي كانت خاطئة، وفي لحظة ما فكرت بها.هي بالذات.ترى هل تلتفت إليّ كأنّي أختلف عن الآخرين وذهني مملوء باسماء كثيرة جديدة عثرت عليها في جيب جندي ميت يتأمل السماء.لابد أنه أخطأ في اختيار هؤلاء. قيدنار وآخرون لم يكونوا آلهة حرب وإلا لحموا سقراط المفكر من الموت، قد يكونون آلهة حب وعشق وغرام . لعل من بينهم أنثى مثل عشتار.. لابد أن يكونوا كذلك وأن أعتقد بهم فهذا العبثي إحسان يعتقد بالخرافة.. والدين والعلم فأين تعلم عبثه المتناقض وهو لما يكمل الصف الثانوي المنتهي؟ هل سمع بمن يعبثون في بلدان بعيدة فتقمصهم وهم أحياء؟أقسم بالله إنه مات، وتشوه وجهي فهربت من الحادث المروع باسمه. لاأريد أن أتذكر وجهي القديم. هذا أفضل الي. كل المحرمات عنده تجوز.. السرقة والقتل ماعدا الشذوذ مع ذلك فقد وجدته يختفي ساعة فقدت الوعي فعاشرت الظلام وتحسست وجهي الغريب . لاأنكر زياراتها لي في الزنزانة قط وسط الظلام وربما خلال الضوء الخافت.كانت تنظر إلي بدهشة كأنها ترى في شيئا ما جديدا:

 - مااسمك؟

ومن دون تردد:

- إحسان "وأضفت بعد لحظة تأمّل ":

- كان يحدثني عنك كثيرا.. جمالك شعرك.. إخلاصك..

- صحيح!

- لكنه لم يكن يبالغ!

- لقد عشنا فترة.. لكنّ القدر..

مازال الطعم على شفتيّ، أحب أن أحدثها عن نفسي يوم لم أكن ذلك العبثي إحسان.. كدت أتحسس أنفاسها اللاهثة بين ضلوعي.. تقر ببعض الذكريات وتهرب من الأخرى.. كأني أتمنى أن أكون إحسان الذي اختفى.. اسمع أنت تستطيع أن تذهب إلى خطيبتك.. ستعود لابدّ أنّها تعود، هذا فيما إذا توقفت الحرب، ويبدو أنّ الحرب لاتريد أن تتوقف.. الحرب بدأت منذ أن قتل هابيل قابيل.. ولن توقفها قرارات الأمم المتحدة.. فهذه الأخيرة حديثة عهد لاتملك أية سلطة وصلاحية لفتح ملفات سابقة، أما أنت فلا تسخر مني وتنعتني بالفيلسوف أو سقراط لكوني أكفر بكل حرف تعلمته .. سقراط قتل وسلبناه نحن الإثنين لايهمني إن كان فيلسوفا كما تقول أو بائع جرائد بل أفضل أن يكون صانع عرق مثل أم أبو جورج التي حفيدها ابنها .. مع ذلك فأنا على ثقة من أنّ المحاربين سيستريحون في هذا المكان لتندلع حرب أخرى في مكان آخر.. عندئذ أذهب أنا إلى خطيبتي.. نتزوج وننجب أطفالا.. أما أنت ياإحسان فأراك تبحث عن أيّ ثقب تفرغ فيه شحنتك قد تكون مومسا أو صديقة وأظنك لاتتردد حين يضيق بك الحال وتيأس من أن أن تدسه بأي صبيّ .نأكل.. نشرب نتهافت على اللذات بانتظار حرب تطحننا أو نراقب حربا تندلع بعيدا عنا أو بالقرب منا .إحسان يعرف كيف يدبر أمره حتّى يتعب من الثرثرة:

- أرأيت كيف أني أنطق حكما حين نحبّ نكون مغفلين.

-وحين لانحب!

- نكون مستهترين ونحن مخيرون إما أن نموت ونحن خالون من الحب فلا أحد ينكح لي حبيبا من بعدي أو أحب وأقتل فينكحها آخر غيري!

لكن متى حدث ذلك؟ ربما تستعصي الذكريات أحيانا .. هناك في حقيبتي عند السهل في موقع الكتيبة الذي لم يكن أكثر أمنا من مواقعنا المتقدمة عند خطوط التماس تركت بعض الملابس وهوية تحمل اسمي وكثيرا من قصاصات الورق التي انتشلتها من جيوب القتلى .. مع ذلك مازلت أحفظ عن ظهر قلب بعضا مما احتوته تلك القصاصات.. يسمونه شعرا.. اسماء حبيبات.. تعاويذ سحرية.. كنا كل شهر أنا وإحسان نغادر الموقع إلى مقر الكتيبة نبقى يومين نستحم خلالهما ونستعيد نشاطنا هكذا يقولون لكننا في الواقع كثيرا ماننزعج من مغادرة الموقع فما عدا الاستحمام والحساء الطازج وربما بعض اللحم والخضار يكون موقع الكتيبة أكثر خطورة حيث تتعرض لضربات الطيران وقصف المدفعية في حين كنا في موضعنا نعالج القنص ورشقات الرمي الخفيف وتسلل جنود العدو.. إنه لمن السخرية وفق مزحة إحسان أن تكون مقدمة الموت أقلّ خطورة من مؤخرته..

لقد جاء أمر بمغادرتنا الموقع إلى مقر الفوج .. هناك نبقى في القاعدة الأمينة يومين نستحم .. ونلتقط بعض أنفاسنا، وكانت مثل هذه الأوامر تزعج إحسان للغاية.. أو لأقل بصراحة تزعج وجهي الجديد الذي علي أن أتحمله مهما تكن علاقتي به من حيث الزمان.. نعم الوقت الهاديء يستفيد منه في البحث عن جثث تحمل نقودا.. وأنا أبحث عن قصاصات ورق في جيوب القتلى وتعاويذ من السحر.. قلت له ونحن نهم بالعودة إلى مقر الفوج:

هذه المرة أشتم رائحة غريبة تشي بالصمت الطويل.

قال متشائما:

هذا فأل سيء!

3

 

كنا نأخذ طريقنا هابطين من علو.. انفتحت أمامنا سفوح مريبة وانبسطت سهول وانطبعت بأعيننا زرقة السماء.. الحق كنت أخاف الهدوء الذي يجثم على الجبال بقدر ماكنت أحبه في مدينتي الوادعة الصغيرة.

لم يكن هناك في القاعدة أي شيء جديد.. وجه بليد يجلس صاحبه إلى الحائط ولايتكلم قيل إن صاحبه مصاب بالغباء الشديد إلتحق بالجيش من باب الاشتباه والوحدة حائرة فيه.غلط في غلط كما يقول السيد الآمر إلى درجة أن إحسان قبل الاستحمام صبغ وجهه بسخام قدر الطبخ وهجم على ذلك الجندي المسكين صائحا وهو يضحك أنا عزرائيل جئت أقبض روحك فما كان من الجندي الغبي إلا أن فر إلى أحد المواضع واختفى.ولما تزل الوجوه القدامى التي نعرفها هي هي. العريف الفض الخشن ذو الحاجبين الكثين والجندي الطباخ الذي دعوناه ابو مس وجندي الإشارة وقد ألغينا اسمه و سميناه جهينة . كان ينقل إلينا بعض الأخبار سواء عن طريق الرواية الشفوية أوغمزات عينيه وهناك جندي آخر جديد ناعم الملامح قال عنه بعض الجنود وهم يتغامزون إنه انتقل من فوج آمن بعيد عن الحرب إلى هذا المكان لسبب لايعلمه إلا الله.. وقد رأيت ذلك الجندي الوسيم الذي تجاهل الجنود اسمه وبدأوا يطلقون عليه اسم " الجميل" يحظى باهتمام العريف الفض أو التمساح كما يسمِّيه الآخرون، فحين انتهينا من الغداء اختص العريف الجندي الجديد الوسيم بالإعفاء من واجب الخفارة الليلي الأمر الذي جعل طباخ الوحدة يغمز بعينه ويوشوش في إذن إحسان شيئا ما وقد رفع الأخير صوته قليلا ووراح يغني بحداء ممجوج:

شكثر تشبع نيج العدها خالات عماتي من بعبوص سونها قالات!

لا الصابون أفضل فهذا عمل قذر تعافه حتى الكلاب.

التفت بدوري إلى إحسان وقلت:

هل نبني أفكارنا على التهمة والظنة؟

فقال ا جهينة :حين يدلل العريف جنديا وسيما مثل جميل فيعفيه من كثير الواجبات ويختصه لنفسه فهذا يعني الكثير ويثير الشبهات.

فقال جندي أسند ظهره على عمود مانعة الصواعق وراح ينكش أسنانه :

لارائحة من دون شيء أنا مثلا أكلت بصلا أنظروا " فتح فمه ونفخ" أي شخص يقرب أنفه من فمي يشتم رائحة البصل!

اقترب إحسان من جندي الأرزاق المكلف بمرافقة البغلة وقال له وهو يربت على كتفيه:

ماذا تقول ياصديقي العزيز؟

فغمز الجندي بإشارة ذات معنى وقال بابتسامة تتراوح بين الخجل والسخرية:

أنا معك أقول ماتقوله أنت!

وقال الطباخ:

للعلم أذكر أن التمساح يهتم بجميل كونه ابن أخت أحد الزعماء العسكريين قائد إحدى الفرق!

فأطلق إحسان زغرودة طويلة :

إشاعة وشرف العلم لاتصدقوها!

وقال جندي الإشارة لامزا إحسان: إذا أفتى مسيلمة فكل أمر غير قابل للشك. وأضاف وهو يهز رأسه ويمط شفتيه: عندما كنت قريب العميد المرحوم المعدوم دلك العرفاء والمسؤولون ولم يستغلوا مؤخرتك!

كان جندي الإشارة يذكر إحسان بكذبته الكبيرة التي بسببها أطلق عليه لقب " مسيلمة" على الرغم من أن اللقب لم يلتصق به فيما بعد، إنه نفسه مارس تلك الكذبة طويلا.. تحدث لي ذات يوم عن أن العميد قائد الفوج من أقاربه وسوف يقوم بنقله إلى مكان آمن بعيد عن الحرب في الوقت المناسب تحدث بذلك وظهره ناحية العريف وكأنه لايدري به تمثيل مفتعل أجاده فحصل على امتيازات من العريف ومسؤلي الفوج استمرت رعاية الجميع له ، إجازات.. إعفاء من بعض الواجبات الصعبة.. وإن كان ولابد فإن أقصى مايقوم به من عمل صعب هو أن يرافق الأتان التي تحمل الأرزاق إلى ربية الرصد البعيدة فيقضي نهارا كاملا في طريق الذهاب والإياب..

غير أن كل ذلك انتهى في رمشة عين..

انتهى يوم اكتشفت الدولة أن السيد العميد قائد الفوج خائن يتآمر على الدولة ويدير من طرف خفي مع مجموعة من العسكريين مؤامرة كبيرة لقلب نظام الحكم..

كانت نهاية السيد الآمر الإعدام.. ونهاية إحسان إلى خندق متقدم لايبعد سوى أمتار عن خنادق العدو.. حققوا معه.وأنكر أنه ذكر أن العميد من أقاربه. كانت نهايته مثلي تماما..

أمتار قليلة عن فم الموت..

وقد قلت له في أحد الأيام وأنا أضحك:

إني أتخيلك الآن يا إحسان وأنت تزدرد ريقك وتقسم بأغظ الأيمان أن لاعلاقة لك بالسيد آمر الفوج المتآمر

فضحك ضحكة ساخرة عالية خشيت أنها تلفت مواضع العدو وقال مجاريا:

أولاد الكلاب اكتشفوا كذبتي بعد ساعات من اكتشافي سر الحمارة والأرزاق المعفرة بالتراب ومؤامرة المرحوم!

 في المساء كان علينا أن ننام في مقر الفوج مبكرين لنصحو قبيل الفجر فنصعد إلى الربايا، ويبدو أن جميل سبقنا ففرش يطقه واستدار على جنبه نحو الحائط.أبصرت من خلال المصباح النفطي الخافت وجه أبو مس وهو جالس القرفصاء يدخن ويتأمل باتجاه موضع " جميل"، وفجأة قال وهو يعدل الفانوس على العمود أسفل السقف:

هناك أمر ما يحيرني؟

فاندفع جندي الإشارة من الجانب الأيسر متحمسا:

لاتقل الفانوس فارغ لقد ملأته بالزيت قبل الغروب!

والله إنك غبي.. فانوس.. .. زيت . أمثل هذه الأمور تشغلني؟ "وغمز باتجاه جميل الذي لم يبد أية حركة ولاأعرف إن كان يتناوم أم نام فعلا":

بعد أن نستشهد بإذن الله أنا شخصيا أول ما أفعله سوف ألتهم عدة طيور وهي طائرة مجرد أن أشير لها تسقط مشوية وبعض التفاح أملأ به بطني بدل هذا الخبز اليابس ومرقة الفاصولياء التي تعيشنا بها!

هذه أين؟ في أي البلدان؟

وضحكت : لم أر في حياتي طباخا جائعا مثلك!

كان إحسان ينام كما اعتاد في الموضع ويداه تتشابكان تحت رأسه، هذه المرة انتصب بنصف قامة ومازالت يداه في مكانهما وكأنه يؤدي تمرينا رياضيا يختص بالبطن:

ياأبا الجوع ياجهينة ترغب في الموت لتملأ بطنك؟

أنت أيضا غبي كلكم أغبياء!

فالتفت الجندي إلى المراسل أو البوسطجي وفق تسميتنا: كلنا حتى الشاعر؟

أنا لم أستثن أحدا حتى المتنبي والرصافي امرؤ القيس لايفهمونني وليس صديقكم الشاعر بدليل أني خدعتكم بالأكل لكني أقول إذا أكلت كل هذا الأكل فأخشى أن تمشي بطني ولعلني ولعل أهل الجنة ينزعجون!

فتعجلت بابتسامة: لاتهتم سكان الجنة لايخرؤون لأن الجنة كما يقولون مكان طاهر؟

فقلت غير ممتعض: يعني لكونك طباخ الفوج وبيدك طعامنا تروم استغلال دورك لتذلنا!

فقال مندهشا:يا أخي إفهمني أنا لاأطعمك من مال أبي لكن كلنا بعد السم الذي تناولناه مثل الوحوش ذهبنا إلى الخلاء وقد تحصرنا النجاسة في أثناء القصف فلانبالي لكن حين ألتهم مالذ وطاب في الجنة فأين تذهب الفضلات؟

يا أبله ياحمار .. اندفع الجندي البوسطجي وهو يحرك يديه:

عندئذ قاطع أبو مس: نعم يا أبي واحمد الله على أننا لم نسمك غرابا بل اكتفينا باسمك البوسطجي.

فعفط عفطة طويلة ولاذ بالصمت بل اختفى من خلال ابتسامة عريضة ورد جهينة كأنه يدافع عن البوسطجي غير ملتفت إلى ابو مس:

 الفضلات تذهب عن طريق التبخر!

انظر .. حين أقول أغبياء يعني أنكم أغبياء حقا إذا كانت الفضلات تطرح عن طريق التبخر " مد عنقه كالزرافة باتجاه جميل " فما فائدة الدبر؟

استغرقنا فجأة في ضحك هستيري هذا ولما يزل جميل جامدا في مكانه فدفع إحسان رأسه بيديه ثانية وقال وعيناه على جميل: هناك بعض الوظائف معطلة في الدنيا فاعلة في الآخرة.

قال جندي الإشارة وهو يغمز بعينيه ثانية إلى جثة جميل المنتصبة نحو الحائط من دونما أية نأمة:

هناك بعض الوظائف لبعض الأعضاء فاعلة في الدنيا معطلة في الآخرة وهناك أيضا بعض الاعضاء معطلة في الدنيا والآخرة!

مثل ماذا؟

مثل ماذا ؟

مثل عقلك!

بهذا أتفق معك إذا كان الأمر كذلك!

لم يتوقف الضحك والسخرية، حتى صاح الطباخ كأنه يدين نفسه:

يارفاق هناك غيركم نائم فهلا راعيتم مشاعر الآخرين!

صحيح كلامك

ولم يجد جندي الإشارة بدا من الحديث فعاود وهو يهز كتفيه مثل مدرس في صف:

يا أولادي أظن أن الدبر سوف يبقى في الآخرة خصوصا الجنة فهناك من الأخوة المؤمنين من تراوده نفسه في أن ينكح حورية من الخلف أو واحدا من الولدان المخلدين فاطمئنوا الأوضاع تحت السيطرة!

لاإله إلا الله أستغفر الله العلي العلي!

أهلا بالنبي المؤمن مسيلمة!قال جندي الإشارة يعقب على استغفار إحسان الذي لم أكن أنْتَحِل اسمه في حينها وعقب جهينة ساخرا:

أنتم جنود الخنادق الأمامية تكذبون تكرعون الخمور.. تسرقون جثث الموتى .. تستمنون على صور غريبة.. تمارسون العادة السرية وحين يصل الأمر إلى نكاح الحوريات من الأدبار تستغفرون الله والله لو كنت آمر الفوج.. وبمثل لمح البصر قفز جندي الإشارة في ممر الغرفة الضيق وغاب ثم عاد بعد لحظات وهو يسحب أبا جورج من يده:

انظروا ذهبت إلى غرفة الاتصالات فأخبروني أنه خرج يريق المائية فذهبت باتجاه الباحة يدخن هدية إحسان!

فانفجرنا ضاحكين وقال أبو جورج معترضا: هكذا يا إحسان تشهر بي مع كل هدية!

فقال جندي الإشارة:إني أسالك يا ابا إذا كان جورج يزعجك سأقول لك أبا اير هذا إذا كان لك أير طويل ..

فقاطع إحسان ضجرا:

يا أخي بدل هذه المقدمة واللف والدوران قل سؤالك وأرحنا!

 حسنا أسألك سؤلا إذا عرفته سأطلق سراحك وإن لم تعرفه نغصت عليك متعة أفكاركالتي جلبها لك إحسان !

يعني ماذا.

هناك مخلوق مسالم اكثر من السيد المسيح الذي قال إن صفعك خربوط على خدك الأيمن فأدر يامخربط له خدك الايسر فماهو؟

فقلت هذا سؤال استفزازي مثل اللغز الذي عثرنا عليه اليوم.

فرد أبو جورج لاأعرف والله لاأعرف اتركني أذهب أنام.

هل تعرفونه؟

فأجبنا بصوت واحد كلا.

مادام الجميع لايعرفونه فسأطلق سراحك اتدري ماهو ؟ الكس يوميا يتلقى ملايين البصقات اللزجة ويتقبل الأمر مسرورا بانشراح من دون شكوى ولاتذمر!

فقال الطباخ: استغفر الله العظيم.

فقال ابو جورج ساخرا: لاتستغفر ولا بطيخ.. نبينا متسامح مثل الكس okونبينكم مزور جوازات مرة تاها ومرة ياسين وأخرى مصتفى وثالثة أحمد أو محمد والله العظيم أكبر مزور لايقدر على ذلك!

كنا ننفجر ضاحكين، وهنا علقت زعقة من الجندي الخفير الحارس للباب الخارجي " قف " فعرفنا أن الضابط المناوب في الطريق إلى الفوج عندئذ وقف جندي الإشارة وكان يهم بإشعال سيجارته ، فأطفأ الفانوس وتمتم هامسا لنخلد للنوم فالضابط قادم، وقال جهينة شكرا لك أيها الحارس لقد نبهتنا لقدوم الضابط الخفير ألف شكر ولو أني اشك أن دبرك قد شق بسبب هذه الزعقة المرعبة!

فقال إحسان: لاتخف عليه إذا كان قد سده قبل الزعقة فلن يحدث شيء.

وكنا ندس رؤوسنا وسط الظلام مثل الفئران تحت الأغطية!

 

 

4

علي أن أكتشف من حيث لاأدري بأية صورة غريبة تتشابك المصادفات وتضطرب الأخبار وتتداخل في اللحظة ذاتها ففي يوم مفعم بالدفء فلا ثلج ولاضباب يلف الجبال كان الطباخ يستند بظهره إلى عمود مانعة الصواعق ويزف بشرى جديدة إلى إحسان الجندي المدلل بن عم الآمر المزعوم.. إحسان.. يا إحسان ياصديقي العزيز يقول لك العبد الفقير على لسان العريف نقلا عن رئيس العرفاء عن النائب الضابط عن الضابط عن.. عن.. إن الجندي المكلف بنقل الأرزاق إلى الربايا ذهب في إجازة فما عليك إلا أن ترافق الحمارة المدللة المصون إلى الأعالي لتسلمهم أرزاقهم دعهم ينعموا بوجبات طازجة بدلا من المعلبات.. وقد قام لإحسان بدوره خير قيام غير أن البغلة حين وصلت نصف المسافة عند عين الماء التي يستريح عندها المتسلقون حردت هناك.. وقفت صفنت بضع دقائق كأنها تنظر شيئا ما في تلك الدقائق ظن إحسان أنها تكلم بعض الجن أو تستشيرهم في أمر ما وإن كانت الأحجبة والنذور في جيوب الجثث لاتشفي غليله ولايؤمن بها وفجأة ألقت الحمارة بالحمل وتمرغت بالتراب .. وهكذا بعد محاولات من إحسان البائس.وصل الطعام معفرا بالتراب إلى الربايا فكان ولابد من أن تثير شحنة الأرزاق استياء جنود الربايا.. ظل إحسان يعاني من عقدة الحمارة عشرة أيام إلى أن قدم صاحب الشأن المكلف بالحمارة من إجازته عنئذٍ أقسم صاحبنا أن يعرف الحقيقة فأصر على أن يترك موضعه فيتربص بين الأشجار الكثيفة خلف العين فتقع عيناه على شيء عجبا..

جندي الأرزاق يلتفت يمنة ويسرى ثم يرتقي مؤخرة الأتان.. يقول إحسان تركته يرهز عيها حتى تقلص وجهه فخمنت أنه على وشك أن يقذف عندئذٍ اندفعت من بين الأشجار زاعقا مثل الشيطان .كصوت واحد من هؤلاء الجن الذين وجدتهم في جيوب القتلى المملؤة بالسحر.يا أخا القحبة .. الأتان كانت معي خلال إجازتك. أنا أصعد بها نحو الرابايا وعندما تصل العين.. تبدأ بالرجفان وترمي ماعليها من حمل، والجنود يسألونني لم ممرغة هي أرزاقنا بالتراب والرمل.. حتى عرفت..

إحسان اتق الله ولا تنهش لحم الأموات.. جندي الأرزاق ذهب إلى رحمة الله..

تقصد أبو بغلة صحيح هو نكح الحمارة فلم يكن لائقا أن اسميه أبا حمارة ابو بغلة أفضل مثل جورج وأبو جورج لكنك ياصديقي تظنني كاذبا.. انا لست حشاشا حتى تراني أهذي كما يهذي الأموات في الخنادق بأسماء ظنوها تحميهم فإذاهي تسلمهم للموت!

نفسي أن أصدقك!

مشكلتك أنك لاتصدق أحدا حتى نفسك! ثم التقط أنفاسه وقال: أتعرف أن أبا جورج تقاسم قطعة الحشيش مع كاتب قلم السرية الذي أخبره أن الحكومة خيرت المحكومين بالإعدام من المجرمين القتلة وأصحاب زنا المحارم هناك من ناك أخته وآخر ناك أمه وثالث ناك أخاه أو بنته على قاعدة نك بأخيك ولاتخرب بيت أبيك خيرتهم أن يقبلوا المجيء للحرب بدلا من أحكامهم !

معقول؟

ألم أقل لك أنت أكثرنا فهما لكنك آخر من يعلم!

معنى ذلك أن الحرب ستطول!

ومن قال إنها انتهت!

يا أخي هؤلاء إما مؤبد أو إعدام يعني بالعربي الفصيح ميتون ميتون على الأقل هنا يرون بصيصا من الأمل!

وهذا الصمت من الطرفين.. صحيح كان هناك صمت من قبل لكنه لم يطل كما هو عليه الآن!

دع هؤلاء الجربى يأتون والله لو ميزت أيا منهم لوضعت رصاصة بظهره وليس هناك من رآى أو سمع خاصة هذا القذر الذي ناك أمه!

أنت معتوه!

أتعرف إنه يضع لها مخدرا في الشاي كل ليلة ويضاجعها وهي مخدرة حتى أحست بالحمل ..

فقاطعته بقرف واضح:

وأين أبوه كل ليلة؟

يا أخي ميت وفق رواية كاتب الفوج ميت يعني هو يتيم وهي أرمل أفهمت؟ " وتمادى في السخرية" أنت تفهم كل شيء ماعدا بعض الأمور التي لم تعد من الغرائب في هذه الأيام!!

إحسان أنا وأنت الصاحيان وسط مجموعة الحشاشين هؤلاء فهل نصدق!

فهز كتفيه متصنعا الغباء ومط شفتيه: وما المانع!

في هذه اللحظة كنا نغادر العين صاعدين إلى الربايا والخنادق.. .. علينا أن نواصل عملنا في اليوم التالي .. ثمّ إنّ إحسان ذلك الجندي العبثي الذي لاتعرف صدقه من كذبه كان مشغولا بالبحث في جيوبه عن حربة حادة ليقطع إصبع جنديّ من الأعداء تعفن عند ستار الخندق، قال إنّ الخاتم ثمين ولامجال إلا لقطعه، ولاأنسى نفسي أنا المغرم بقراءة أفكار الموتى والتسلط عليهم.. أوراق تافهة .. وأحجبة أرادوها أن تمنع الموت عنهم فلم تفعل.. أسماء غريبة.. صديقتي يوم كان لي وجه جميل أرادت، خلال إحدى الإجازات، أن أحدثها عن الحرب .كنت أحفظ الأسماء الغريبة عن ظهر قلب.. فقد حاولت أن أغير وظائفهم من الحرب إلى الحب.. وخرجت أنتظر مرورها ومازالت في فمي طراوة الليمون.. لفحة الحموضة.. الكأس الذي أعشقه من يد أمي.. تعمدت النظر إليها فنظرت من طرف خفي كأنها تبحث عن شيء ما في الأرض. كرعت كأس الليمون ثم غادرت البيت.انتظرت في زاوية خفية عند منتصف الطريق.. كانت الدقائق تتآكل في فمي من قبل لم أتعجل الوقت في انتظار أية فتاة حتى رأيتها تتهادى إلى المدرسة فراودني حبور وقلق.. كنت أراقبها حين تخرج من المدرسة.قميصها الأبيض تنّورتها الزرقاء، وشعرها الطويل الذي كان ينسدل، فيكاد يصل إلى خصرها فكرت أن أختلق أمرا .. أفكار غريبة راودت رأسي الأول الوسيم ذي العينين العسليتين الصافيتين كما يحلو لها أن تصفني به.. أما أنا فأقول وأكاد أهيم برقة صوتي:

- الليل طويل هكذا يقولون لكن ماذا عن شعرك.

قالت وهي تغض الطرف إلى الأرض حياء:

- حقا؟ ثمّ تغلبت على خجلها:

- هل تظن شعري أجمل من عينيك؟

- لكنهما ليستا سوداوين مثل شعرك.

قلت ذلك فارتبكت وعادت تنظر إلى الأرض فشجعتني ابتسامتها!

 ماذا أفعل.. قلت لأمي في البيت إني أفكر بالزواج وقعت في بالي حورية ما .. حورية لها شعر بطول الليل فردت بابتسامة هادئة تفوح منها رائحة الانشراح.. أنت الآن في الجيش .. وأبوك يعمل في الخارج سيكون خيرا إذا ماانتهت الحرب نستدعيه من الخارج وتكون أنت قد أنهيت واجبك في الجيش .. المهم أن تعود سالما.. وقالت الحورية ذات الشعر الطويل بطول الليل في آخر إجازة التقيتها :

- لابدّ أن تعود، سأجن إذا حدث لك شيء.

أخذت أناملها بين راحتيّ، واقتربت منها ثمّ أطبقت شفتيّ على شفتيها.انتفضت كفراشة مثقلة بالرحيق، وهتفت:

- أحبك إلى الأبد!

 كنت أمرر إصبعي على شفتيّ أتحسس طعم القبلة، نم صمتها عن بعض الرضا، فقلت:

- غدا في المكان ذاته.

وفي اليوم التالي كنا نسير معا كأننا نعرف بعضنا منذ سنين.قلت لها ونحن نتجه إلى حيث لانعرف:

- هل تسمعين شيئا ما؟

- ماذا؟

بدأت أقرأ:

حبيبتي

العالم كله مجنون

وأنا مجنون بك

هل تدركين.

- لمن هي؟

لأناس غيري كم أتمنى لو كنت أعرف الشعر

ووجدت نفسي أواصل مندفعا:

الغرباء يأتون كالسيل كالوحوش

الدماء تغطي الأرض

الجثث الأشلاء

وكنت لا أرى أي شيء

سوى وجهك الجميل.

لم أكن كاذبا حين قلت لها إن الشعر ليس لي فأنا لست بشاعر .. بل أحس الشعر. لكني أخفيت عنها سر القصيدة. كان إحسن يحثني قبل العثور على الورقة: لا بأس أريد منك فقط أن تحمي ظهري حين أكون مشغولا .. لاتسرق لاتنهب لاتفتش جيوب القتلى افعل ما يحلو لك كل ماهنالك انتبه لخندق المواجهة القريب!

كان قد نصب كمينا لجندي من الأعداء أزعجنا طول الأسبوع الماضي رامٍ عند رشاش يرشق موضعنا كل بضع دقائق كأنه الموضع الوحيد في ساحة القتال فلم نكن نقدر على رفع رأسينا من الساتر الترابي .. لاأدري كيف رصده وحين غامر بحياته ورمى قنبلة يدوية على خندق يعج بالجنود ذهب إلى الخندق ثانية لم أره يسلب الجنود الثلاثة القتلى بل ذهب مباشرة إلى جثة ذلك الجندي ثم كشف عن سرواله وبدأ يخرؤ على وجه القتيل.. وعاد لي بتلك الورقة قال إنه فضل أن يأتي لي بها بدلا من أن يمسح بها دبره.. ولم يسلب أصحاب الموضع – ربما لم يجد معهم شيئا- وعندما سألته عن السبب قال إنها مكرمة منه لهؤلاء المساكين الذين رافقوا في حياتهم مثل ذلك الجندي الوحش ، والحق أنا إلى الآن لم أقتل لكني جاورت مقتولين ومشيت على جثثهم في الخنادق أما رصاصاتي التي أطلقها فلعلها أصابت أحدا أو لم تصب لكن علي أن أعترف أن الضجر في بعض الأحيان يدفعني للخروج معه من خندقنا واللف في الخنادق.. أرافقه لأتسلى معه بالجثث وأن كنت لاأسرق مافي الجيوب .تحاشيت تماما أن أذكر لها من أين أتيت بهذه الكلمات. اعترفت لها بنصف الحقيقة، شعر لم يمسح به إحسان دبره، ودفعني الخجل لبعض المواراة.. فقلت كاني أعتذر:

- هذه قصيدة جميلة لشاعر معجب بالجن ظنهم يحمونه من الموت كان يذكر أسماءهم قيدنار، حرفتنبة، عفرجور، شفالع شنازيب إنّهم كثيرون، وإني لأعجب كيف لم أنسهم وأستطيع أن أعدهم واحدا بعد الآخر.

 لكنها مع ذلك لم تستغرب من الأسماء، ربما آلهة الجن التي كسبت ودها في المواضع أصبحت مألوفة للناس بعد الحرب، وخانتني الشجاعة أن أذكر أني صفعت سقراط المفكر الذي جلس ويده تحت حنكه غير عابيء بما نقول من شعر، وبعد فترة قاطعتني:

يبدو أنك تحب الشعر؟

وأنت؟

أحبه ولاأعرفه.

4

بعد بضع ساعات من التسلق وصلنا خندقنا في حين غادره جنديان من مقر الفوج كانا قد شغللاه فترة استراحتنا

لم أجد إحسان قتيلا حين رجعت من إجازتي.. طعم القبلة مايزال على شفتي.. قلت من دون مقدمات:

إحسان هذه المرة رجعت إليك أشد عشقا دعك من الهزل لحظة واحدة.. لنزحف على سيل الجثث إلى خندق آخر.. ازحف.. أنط.. اقتل.. اضحك .. أصادق الموت كلّ لحظة.. الحجاب ينفع.. هذا حجاب لو حمله شخص ثمّ شد وثاقه إلى عمود ووجّهوا نحوه القذائف لبقي حيا، وقبل الموت تصادق كثيرا من آلهة القوة الذين لم تعرفهم من قبل ليسوا مثل اللات والعزى وهبل أو زيوس ومازدا.. وهرقل.. أين أخيل، وفي أي مكان اختفت عشتار لتترك مهمة الحرب حيث خفت نزوتها في القتل وانساقت والحرب على اشدها وراء رغبة في مضاجعة ذكر ما لمحته من بعيد فتركت كلّ أدواتها وهرعت إليه من أجل لحظة مسعورة حيث التقطت أسلحتها آلهة جديدة

- كيف مات أخو العاهر بهذا الشكل الغريب؟

 لحظتها لم أستطع أن احتفظ بهدوئي، بعض الأحيان نجد في السخرية منفذا نفرغ فيه مشاعر الغثيان:

- إنه يبدو متأملا مثل سقراط!

- ماذا يشتغل صاحبك سقراط هذا؟

- لاعليك من شغله وتأكد من الساتر!

- سأفتشه ولو كان عنتر بن شداد!

 وعن غير وعي امتدت يدي إلى الجثة، وهتفت:

لا أترك المهمّة لي هذه المرّة.

 

 والحقّ إنّي ندمت كثيرا حين أضمرت النفور لإحسان قبل أن أفتش سقراط، البحث في جيوب القتلى جعلني أصادق الموت، ولم أعد ألوم إحسان على فعله الذي مارسته بشغف.إنّه يمارس معنى من المعاني التي لايفقهها، فو يرمي بكل مايجده من أوراق جانبا، وينصرف ذهنه إلى النقود وصور البنات والحشيش.كنت أقرأ كلّ شيء.تكونت لدي مكتبة كاملة من الجثث.كلمات ورسائل كثيرة أدركتها بوجهيّ السابق والحالي.كتبت إليها ذات يوم إني أحبها وإنّ روحي تحلق كلّ ليلة إليها فهي جنبي.وفي إحدى الإجازات قالت إنها قرأت رسالتي وكان هناك صوت مدفع متقطّع يدكّ أطراف المدينة.كانت أوراق الموتى تدفعني لتفتيش الجثث أكثر من النقود.وفي جسد مقطوع الرأس وجدت ورقة مطوية بحذر أشبه بالطلاسم، صور مبهمة لأفاع وعقارب تعويذه في صفحة صغيرة مطوية بحذر عقدت عليها خيوط رفيعة.أيتها الرائعة إني أطلق الرصاص وأفكر بك.كان يفكر بها حين قتل.رسائل غرام.أحجبة.الله السلام قوة بأجوج وماجوج ونفثة هاروت وماروت، ملك صعفق يقول للرصاص والشظايا ابتعدي عن جسد فلان بن فلانة وقل له يامعدن القتل سلام حين تمرّ به، في الحرب يتساوى المثقف والأميّ، الحجاب يشمل الكافر والمؤمن .في الخندق المليء بالجثث أطل عليّ هؤلاء المحاربون الجدد الذين لم التق بهم من قبل صلعق إله يمرّ الرصاص من بين يديه فيصبح في رمشة عين ثلجا.. شلاصب.. غلصومان.. .شفالع.. وهذا شنازيب الذي يتحطم الحديد والنار عند قدميه، ليس هذا فحسب بل تستطيع أن تدخل أي مكان في العالم فتحمل ماشئت من سلع ومال تحت أبصار الآخرين فلايرونك!معي آلهة ولصوص، أوراق تغطيها عفونة وبعضها قطرات دم، وتطفو من بينها قصاصة لجثة متعفنة تهرّأَ لحمها من أسفل البطن وفقدت قدميها بانفجار لغم ، كانت على مايبدو محاولة شعر بدائيّة:

 حبيبتي..

أنا فيك مجنون..

العالم مجنون من لاشيء وأنا فيك مجنون..

عفطة طويلة من إحسان :

- هذا شعر استحق صاحبه الإعدام

ثم يعقب وهو غارق في سخرية محمومة:

- أخو العاهر يدعي أن له حبيبة وليس هناك من صورة في جيبه وإلا قضيت معها لحظات سعيدة !

الجنيّ قيدنار أخفق في تحاشي الألغام .علينا أن ننسى جميع محاولات الشعر البائسة قبل أن يدركنا الوقت فيحكم الطاعون قبضته علينا، ومادمنا فتشنا فلابدّ أن نطمر الجثث جنودنا وجنودهم، الليلة الماضية غزت الروائح موقعنا وكاد الموتى جنبنا يخنقوننا ثمّ هبت علينا نسائم من خنادق أخرى.. يالثقل طمر الجثث والبحث عن خنادق أخرى.لولم تشي النار والدخان بنا لأحرقناها واسترحنا من حفر مواضع.المهمّ إنّ جيبي لم يعد يستقبل بعض النقود مثلما يحدث لجيب إجسان حيث أذهب في بعض الإجازات إلى البيت ومعي بعض الأحجبة.لم أخبر أمّي بالأمر، لكني سألتها عن بعض الأولياء الذين يصنعون حجابا يقي من الموت في الحرب.قالت بابتسامتها الرزينة وصوتها الدافيء الله هو الحافظ.كنت أعود إليها كطفل مرعوب.. في الخندق أنسى الموت تماما.هناك هو صديقي.يعرفني ويعرف إحسان، لولا نحن لبقيت الجثث في الهواء، غير أني حالما أعود إلى المدينة يراودني رعب من الموت، هنا لايعرفني، وكم وددت أن أضع رأسي في حضن أمّي وأغفو أنسى العالم فترة الإجازة، غير أني فتحت يدي فلم يبق فيهما شيء.لا أحجبة ولا نقود، أما إحسان فقد ذهب ببعض النقود والحلقات. كانت أية صورة تظل في جيبة مدة حتى إذا عثر على أخرى عند ميت حديث الموت رمى الأولى. النساء أفضل أن أضاجعهن وأنا صاح أما يدي فلها امتياز آخر يمكن أن أضاجعها وأنا سكران.. كان أحيانا يضحك أو يغنيّ وهو يفعل ذلك، أخيرا عرفت سرّ ضحكه المفاجيء وغنائه.حين يجد حلقة في اليد اليمنى للقتيل يضحك لأنّ المرحوم سلم من الموت.لامجال أمامك إذا كان في الإصبع ورم إلا أن تستل حربتك وتبتر الخاتم.. الزواج هو الموت الأكبر.إعفاء تام حصل عليه بفضل استشهاده، أما المتزوج فيظه جذلا يغني مسرورا بخلاصه من جحيم الزواج.دنيا قذره ، والدليل كما يؤكد لي اعتراف صاحب القصيدة البائسة بجنونه من أجل امرأة ليتهمنا نحن بالجنون، حكمة من عبثي تستوقف لحظة معولي قبل أن أردم التراب على الجثث فأفكفف عرقي، وأسأله:

قد نخرج أحياء ويعمّ السلام يوما ما فهل تتزوّج؟

أنا؟أنا أتزوّج؟

لماذا؟أليس لديك واحد مثل خلق الله؟

المرة القادمة حين أمسك بصورة وأشحذ ذهني من أجلها مثلما تشحذ ذهنك في أوهام بعيدة لاتدر وجهك وسترى إن كان لي واحد أم لا..

ومن دون أن أتركه يسترسل:

- بدلا من أن تحتضن الصور وتسيل منك اللزوجة على الورق أو الأرض..

- حين أحتاج لكبح جماح ذاك هناك ألف طريقة وطريقة أم تريدني أن أستبق الأحداث فأكون مثل ذلك القتيل الذي حفروا له قبرا في المقبرة ذاتها التي تدفن فيها عائلتنا موتاها في آخر زيارة لي سمعت أم القتيل تقول وهي تتلمس قبره ياولدي نم قرير العين في قبرك فقد تزوج أخوك أرملتك!

هل هي قصة من خيالك!

أقول لك أنا كنت هناك لماذا نصدق الحشاشين والسكارى حين يتحدثون عن تفاصيل الحرب ولانصدق أنفسنا والله إنك لمقرف بعض الأحيان!

هديء من غضبك قليلا ياصديقي غاية ماأردت قوله إنك لن تدري ولن يضرك شيء حين تكون ميتا فيتزوج أخوك أو غريب زوجتك!

 لكنه ذلك اليوم اختفى فجأة أو أنا الذي اختفيت.سمعته يتحدث عن قتلى جدد، لهجوم عشناه صباح اليوم نفسه، أخبرني أنّ القتلى بالعشرات في المنطقة الحرام، وسوف يذهب لتفتيشهم، ومن يجد فيه بقية روح يطلق عليه رصاصة الرحمة، راودتني فكرة سرقة أوراق الميتين.لِم َتندثر أفكارهم وتتحول إلى تراب.إذا كان إحسان يفكر بما في الجيوب ليعثر على قطعة نقود أو صورة فتاة يمارس معها وربما قطعة حشيش يبادلها بعرق مع أبي جورج فالأولى بي أن أطلع على أفكارهم .. قد يأتي يوم أنشر فيه هذه الصور باسمي من حقي أن أحييها من جديد بدلا من أن تنتهي إلى عدم مثل أصحابها.. تلك اللحظات الغارقة في الهدوء ارتسم ببال إحسان خندق عن يمين خندقنا بمسافةغير بعيدة عميق متداخل طويل يسع أكثر من عشرة جنود.. كان الخندق قد تعرض لضرب متتال طيلة النهار فأدركنا بفطنة الحرب وحاسة الموت القوية فينا أن هناك بعض القتلى من لم يتم إخلاؤهم بعد.قال إحسان حالما فرغ من التهام علبة الفاصولياء:

مارأيك أن نلغي فكرة الزحف نحو خنادق العدو ونختص اليوم بخنادقنا إذ يبدو أن الخندق المشؤوم يغص بعد كل تلك الزوبعة حوله بصيد ثمين؟

رحنا نقفز بين الخنادق الفارغة ونزحف تارة أخرى.. كنا سعداء حقا.. مررنا على بعض الجثث وهبت علينا نسائم كريهة عكرت مزاجنا.رائحة خانقة.. غثيان .. بعد دقائق وصلنا إلى حافة الخندق الطويل أو عقدة الخنادق كما يسميها إحسان.. استطلعنا ونحن منبطحان عند حافة الساتر الترابي.كان الخندق أشبه بالقوس.. فك مفتوح يتشكل من سواتر وخنادق جانبية باتجاه سرايا العدو .. بدت تلك الخنادق مهجورة تماما.. ثم هناك قوس آخر لعدة خنادق يتمترس فيها جنودنا.. ربما خيل إلي أني سمعت صوتا ما أو حركة ولعلني حلمت بآهة تند عن خاصرة الخندق من اتجاه عميق تحجبه عنا بعض أكياس الرمال وجثث مكدسة.. همست في أذن إحسان:

أتسمع؟

رد بصوت خافت: ربما أزيز حشرة!

وربما جندي جريح؟

هل بدأت تحلم؟

- أتعرف أني بدأت أشك في كونك بشرا بل أنت شيطاني الذي يوحي إليّ ببعض الصور والمعاني الغريبة.

- وأنا أقول لك من حسن حظنا أننا أنا وأنت لم نكن نحمل حجابا وإلا لأصبح مصيرنا مثل هؤلاء.

- من يفتشنا؟

- أووه أولاد الحلال كثيرون.

حين هبطت من الساتر كانت هناك خمس جثث مكدسة واحدة فوق الأخرى .. جثث حديثة الموت.. لم تزكم روائحها أنوفنا.تيقنت أنه ليس حلما واقتنع إحسان .. فها نحن بين الحقيقة والخيال نسمع صوتا ما. حركة مبهمة.. ملت ثانية نحوه وهمست:

ماذا تتوقع؟

تمترسنا خلف الجثث، وكل في باله أن يكون هناك حيوان ما جذبته رائحة الدم، رويدا رويدا وضع إحسان حنكه فوق خاصرة أعلى جثة، واستطلع لحظات ثم خفض رأسه باتجاهي واضعا راحة يده على شفتيه ليحبس ضحكة ساخرة:

ماذا وراءك؟

انظر بنفسك

رفعت رأسي فوقع بصري على ثلاث جثث أخرى عند مضيق الخندق فوق أكياس رمل اتضح لنا أن الموت لم يكن ليراود الجثث بالوضع الذي هي عليه بل إن هناك يدا تعبث بها وفق بعض النزوات.. لقد أصبحت الجثث مع أكياس الرمل دكة مناسبة الارتفاع استند إليها بساعديه جندي ناعم أبيض بض الفخذين حيث أرخى سرواله العسكري وملابسه الداخلية إلى الركبتين ودفع بأليته إلى الخلف حيث جثا العريف الفض على ركبتيه أمام الجميل وبدأ يعلق خصيتيه.. أما البندقيتان فرأيتهما مركونتين باتجاه الساتر الذي هبطنا منه قبل لحظات..

راح الجندي الوسيم يمرر يده على مؤخرة العريف ويخاطبه: هل يعجبك هذا الآن؟

ياللسماء المقلوبة.. ياللأخبار التي تأتي نقيض الواقع.. من كان يتوقع أن العريف هو الملاط به والجميل هو الفحل.. خبر معكوس بالضبط مثل خبر عن حرب قيل لنا إننا انتصرنا فيها وإذا بالعدو على مشارف مدينتنا.. هاهي السماء في الأسفل والأرض في الأعلى .. النجوم تسبح في البحر والأسماك تطير.. إحسان هل ترى.. لم يكتمل المشهد أمامي بعد حيث شعرت بكف إحسان تشدني بقوة.. .

فجأة.. ..

 تحول إلى شخص آخر.. اختفى مرحة تخلت عنه سخريته. وفارقه عبثه وجهه تحول إلى كتلة قتام.. وحش كريه .. يتطاير الشرر من عينيه قال بصوت غليظ لكنه لما يزل يحافظ على همساته:

انصرف.. انصرف

قلت مستغربا: ماذا تفعل؟

سأقتلهما فورا!

سألته باستغراب

ماعلاقتنا نحن بل ماعلاقتك أنت!

قال والمرارة تلوح على وجهه:

هذا شؤم لو فعلها حقا ثم بعد ذلك غرزت حربتي في الأرض مكان فعلتهما لخرجت مغطاة بالدم!

إحسان تلك خرافة

قلت لك اذهب

لكن ليس الجميل هو المنكوح.. ليس هو الفرخ بل العريف ألا تتشفى إذ يفعل جندي بعريف؟

حتى وإن كان الفعل بعقيد.. أو رئيس الدولة نفسه.. كلاهما قذر .. قذر .. إذهب واتركني أتعامل معهما..

عملك سيلفت انظار جنود الخنادق إلى مكانك فيصبح الموضع هدفا لجنودنا وجند العدو!

لاعليك مني اذهب

وأتركك وحدك!

قلت لك اذهب

للمرة الأولى أراه جادا وفي لحظات سبقني وغادر ساتر الجثث حيث لم يدع لي مجالا كي اندفع بعيدا عن المكان.. رأيته أشبه بمن أصيب بالسعار.. من قبل راح يقتل للتسلية.. ينفذ حكم الموت بالأحياء والأمواث عبثا أو دفاعا عن النفس حتى حين اضطر لإيقاف الجندي صاحب الرشاش الذي ازعجنا فزحف أمتارا على بطنه ثم رمى داخل الوضع برمانة وبعد يوم ذهب من أجل أن يخرأ على الجندي رامي الرشاش.. وقتها كان يضحك ويسخر من الموت كأنه يعابثه مثلما يداعب لاعب محترف كرة بين قدميه..

أما في هذه اللحظة فقد بدا مسعورا إلى درجة أني بدأت أشك.. امتلأ وجهه بالدم.. وجحظت عيناه فهل ياترى تعرض لحادث شبيه رغما عنه..

كل شيء جائز..

راح يدبّ كاللصّ على الساتر الترابي ويقفز إلى الأرض المفتوحة بنطات قرد.بقيت وحدي وبعد خروجه بلحظات وقع الزلزال فوق رأسي، ، وكان هو يتلاشى إلى حيث الجثث المكدّسة في المنطقة المفتوحة.

كان ذلك آخر مشهد وقعت عليه عيناي ..

أصوات صليات استمرت لحظات.. فانتفض سكون دام يوما وأكثر انتفض كنسر جارح يتأمل لحظة لينقض على فريسة أمامه .. اتسعت دائرة الرمي.. بدأت أرمي من أجل لاشيء إلا أنني سمعت تلك الصليات التي أطلقها إحسان.. بعدها استعارت المواضع والسماء والأفق حمرة كثيفة وانهالت ضجة تصم الآذان.. فأحسست بحرارة تحطيني ولم يكن بمقدوري أن أقفز خارج الموضع..

كانت النار تأكل بعض جسدي.. فتهدجت أنفاسي.. ورحت أغيب عن الوعي..

غبت تماما حتى استفقت في مكان آخر.. بوجه آخر.. وأول ماتبادر إلى ذهني إحسان.. رحت أبحث عنه وحين لم أجده ادعيته لنفسي!

هل يعقل أن يكون إحسان حقيقة عشتها يوما ما أو هو الموت الذي صادقته خلال الحرب فأبقى عليّ من أجل صداقتنا تلك؟ ، وفي ظنّي أنّي سألتقيه وسط الزحام ذات يوم. تأكدت تماما من أنّ الناس سوف يصابون بالرعب حين يرون وجهي المسخ، مثلما حدث لي بالضبط حين أطلعت على شكلي بعد الحادث أول لحظة.. سوف يفرون من بين يدي كما يفرون من طاعون أو زلزال.شيء مخيف اقتحم عليهم مأواهم .. كانت أنفاسي تتهدج.. هي الأخبار تأتينا بالمقلوب.. وجهي لم يخفها، بل لم يرعب أحدا.. استسلمت حتى ظننت أنّ يدي تجاوزت إلى صدرها وفخذها.. في آخر لحظة أدركت أني قبلت شيئا ما ممكن أن يكون إنسانا شجرة ما أو صخرة.. أيّ شيء أنا نفسي يمكن أن أكون إحسان في يوم ما أو هو وربما قيدنار أو سقراط تلك المدينة التي دخلتها مثلي تماما لاتعرف الخوف.لاتميز بين القبح والجمال أظنها مدينة من نحاس كلّ مافيها ينصت وينظر فلايسمع أويرى.من المحتمل أن ينقلب الحر فيها إلى ثلج ذات يوم.نخليها الجميل يصبح أشجار صنوبر، ونهرها بحرا أما شمسها الحارقة وتموز فلا أراهما إلا وسط الصقيع ومداخن المدافيء أعلى البيوت.كنت أبتعد عنها.أهرول.. أركض.. ألم تنقلب الأمور من قبل، قصة انتصارنا ونحن منهزمون وظننا أن الجميل هو المفعول فإذا به الفاعل..

أخبار تأتينا بالمقلوب..

 مع ذلك لم يحدث أي شيء فقد زاحمتني فكرة واحدة هي أن ألتقيها.. أدعي موتي وأقول لها أنا إحسان. أقرأ لها أشعارا حفظتها من قبل .. لكني في زحمة الأفكار تذكرت أني يوم كان لي وجه آخر وسيم ضننت على إحسان بالصورة خوفا من أن يستمني عليها..

كم ألح علي ..

وكم وعدته أني سأجلب صورة منها بعد الإجازة القادمة..

كان يلح وأنا أعد حتى اختفى في الحرب مات.. قتل .. تلاشى.. لاأعرف كيف كانت نهايته .. لقد تغير وجهي فانتحلت اسمه..

كان علي أن أصدقه حين أقسم أنه لن يسلبني وأنه لن يفعل بالصورة مثلما يفعله مع الصور التي يستلها من جيوب الموتى. ربما بات في باله أن يلغي نفسه في يوم ما ويدعيني مثلما أفعله الآن ..

ربما..

أنا الآن إحسان ولم أر صورة لها من قبل كيف أعرفها إذاً؟

لكن عليّ أن أبحث وسأظلّ أبحث! 

ملحوظة: هذهالقصة كتبتها عام 1985 وتركتها جانبا لأنني لم أرد أن أثير المتطرفين وأتذكر أني قبل عشرة أعوام حدثت أستاذنا الدكتور الناقد عبد الرضا علي أطال الله في عمره فقال أنها قصة تصور بشاعة الحرب والقرف منها حين سالته عن الأفكار التي ربما لن تكون مقبولة بخاصة الجنس والدين أجاب هذه الافكار يمكن أن تُحمَل من باب أحاذيث الجنود وسمرهم خلال سكرهم وتحشيشهم.

فكرة القصة تقوم على أن هناك جنديا يتشوه وجهه فيفكر بعد أن ينجو أن يعود إلى حبيبته بكونه صديق حبيبها الذي قُتِلَ والذي حدثه عنها كثيرا في الخندق، على اعتبار أن الحرب قلبتجميع المفاهيم، مع اني لم أغفل الجانب الأخلاقي الروحي الذي أدى دورا مهما في نهاية القصة.

أقول ذلك لاشكر صديقي النبيل الشاعر المبدع جمال مصطفى الذي اقترح عليّ ان أعود إلى قصصي لأنشر بعضا منها والبارحة فقط رحت أقلب الارشيف القديم لأجد هذه القصة غير المنشورة.

فشكرا له.

 

قصي عسكر.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم