صحيفة المثقف

انه الملك!

رائد عبيسعبارة عادة ما نطق بها ساسة الخلافة العربية الذين حكموا باسم الإسلام، منذ نزول الدين الاسلامي وسيادته، نطق بها ابو سفيان من قبل في عبارته " تلقفوها يا بني أميه تلقف الكرة فما هناك جنة ولا نار" وترددت هذه المقولة بين الخلافات المتوارثة بهم، وفي البلدان التي وقت تحت حكمهم باسم الدين، وذلك لعدم قناعتهم بالدين الاسلامي كدين ألهي، وتكليف رباني، ورسالة سماوية، تحمل فحوى الخلافة الآلهية في الأرض، فُهمت دعوة الدين على إنها دعوة ملك، ونشأة فكرة السيادة باسمه، على وفق هذا الاعتقاد والتصور، وقالوها صراحة حتى للرسول، بانك تطلب الملك والحكم والترأس وغيرها، هذه القضية ترسخت في أجيال الخلافة وتفهموا أمر الدين على هذا الملك.

حتى تغنى بذلك يزيد بن معاوية عندما قال " لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل"، متمثلاً بذلك بقول الشاعر الذي يعكس البعد الاجتماعي في عدم التصديق بالدين، ويعكس أيضا توارث هذه الفكرة في أذهان الأجيال التابعة للخلافة والى يومنا هذا.

وهذا خلق فجوة كبيرة في وعي الأمة، وحتى أحكامها الفقهيه والدينية التي نسخت هذه الفكرة إلى بواطن الكتب، والموروث العقائدي، والسياسي، والثقافي، والاجتماعي، والذي خلف لنا فكراً متطرفاً متزمتاً في أحكامه العامة اتجاه الدين، ونمط الحياة التي يراد لها أن تكون بلون تعاليمه، لا بلون الدماء.

فكل السياسات التي توالت بحكم الدين، وباسمه في الجزيرة العربية، وكل البلدان التي كانت تحت ولاية حكمه، كانت جلها مرغمة على الإيمان بالدين ومسخرة له، ومستثمرة لقيمه، ووجوده في نفوس الناس وقناعتهم، بكونه وفر لهم أرضية سهلة لتوطيد الحكم، وتواليه بالوراثة بذريعة الخلافة والولاية والوصايا، وهذا ترك اثر عميق في ذهنية المسلم، وعن نمط الحكم في بلدانهم، بل فهمت الخلافة على أنها نمط سياسي، لا نمط تولي مسؤولية باسم الدين، ليس منصبا دينيا بل منصبا سياسيا، واذا سأل أحدهم وهل الدين لا يتضمن السياسة؟ أو يعترض قائلا بقوله الدين هو من يمثل السياسة والحكم في الأرض، بكونه ارتبط بالمعنى القرآني لمعنى الخلافة التي ارد بها الله حكم الارض.

فبقيت هذه الفكرة تمثل التفويض الألهي المجاني الذي يمنحه البعض لأنفسهم، من أجل التسلط على الناس، وحتى مقولة هارون الرشيد لأبنه، عندما سأله أبنه وقال له، هل نحن من أحق بالخلافة؟ أجابه قائلاً له لا، آل محمد أحق بها منا ولكنه الملك .

نعم، انه الملك الذي ترسخ في عمق الوعي البشري، والتكوين النفسي للفرد الذي يبحث عن التسلط، تحت أي غطاء كان، فالتسلط وتطبيقات الملك أصبحت في زمننا الحالي أكثر تعقيداً وتوظيفاً لأذلال البشر، وتعميق السلطة في رؤوسهم، حتى أصبحت جزء من تكوين طموحهم، وهمهم وتوجهاتهم التي باتت تختزل بالملك، فالملك لم يعد تلك السلطة التي تختزل بالتاج، بل تعد مصادر امتلاك الملكية، والأحقية المدعاة في الاستحواذ على ما يمكن امتلاكه، وتوطينه لصالح الطامح بتكوين الملك.

فعبارة أنه الملك هي عبارة ترادف الأنانية، والاستحواذية، والأحتوائية، والاستعلائية، بل وتجسدها، وما موقف كل الرؤساء العرب الذي تشبثون بالحكم بدوافع جمة، ومنها التكليف الأهلي بهذا المنصب، ما هو الا نموذج واقعي عن تأثير هذه العبارة على التكوين العقلي، والنفسي، والجسدي عليهم، بحيث منهم من أعدم، أو قتل، أو مُثل به، سحلاً، وقتلاً، وتقطيعاً، لكن جوارحه تنادي انه الملك، لتسمع كل مواليه ليقدسوه وهو ميت، بكونه زعيمهم وحاكمهم وملكهم حتى في رفاته، وما موقف بوتفليقة الرجل الحاكم المقعد المشلول، الا ترسيخ آخر لعبارة انه الملك في الوعي الباطني الذي ينادي عليه، بعبارة " لا تتنازل فانت مشلول ولكن سلطتك لا تُشل"، فالأرواح وحتى الأرواح تحكم؛ لأنه الملك وإن كان بلا مملكة !!

 

الدكتور رائد عبيس

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم