صحيفة المثقف

الهوية الثقافية بين المركز والأطراف

رائد عبيسيروي التاريخ قصصه وأحداثه بطريقة مضحكة تارة، ومحزنة تارة أخرى، إذ لا ينشطر التاريخ الى بعد ثالث وهو البعد العقلاني، المنصف لذاته وللآخرين. وبهذا يمثل الحكم التاريخي حكماً أنفعالياً إزاء الأحداث وقرأتها. فتاريخ العراق الاجتماعي والسياسي قريب من هذه الأنفعالية وبعيد عن العقلانية، لا سيما بهذين البعدين. التي تصبح تشكيلة الهوية الثقافية فيهما متجاذبة مع طبيعة النظام السياسي والاجتماعي المتفاعل مع النظام السياسي او العكس. وهذا التفاعل ينتج لنا هوية ثقافية عامة أو خاصة،ثابتة أو متغيرة، وفق طبيعة النظام المتجه بتحكم الهوية وقصديات الأدلجة من ذلك . فبين المركز والأطراف علاقة تاريخية  تعكس التجاذب، والتقليد، والتبعية، والاستعارة،والتقمص، والمحاكاة، إذا لم يكن هناك تداخل كبير، ينتج عنه أدور ثقافية تمثلها المجموعة مرة، والأفراد مرة أخرى، حتى تصبح جزء من الهوية العامة لمدينة ما، سواء كانت هذه المدينة تعد طرف لمركز او مركز، المهم هو أن يكون هناك طابعاً ثقافياً سائداً مقبولاً، يمثل ثقافة المجتمع بشكل عام دون الشعور بالدونية . فما المقصود بالأطراف؟ وما المقصود بالمركز؟ وأي علاقة بينهما ممكن أن تحد الأطراف كأطراف والمركز كمركز؟ ومن الذي يمنح هذا التوصيف؟ وهل هناك توصيف ثالث بينهما؟  الأطراف، هي كل مجموعة بشرية تعيش في قرى، أو قصبات أو بشكل عشوائي في مناطق نائية عن أقرب مركز مدني وحضري يحيط بها . أما المركز، فهو أي موقع سكاني متحضر، عمرانياً، وخدماتياً، وتجارياً، تكون الحياة فيه أقرب إلى التنظيم منه إلى العشوائية كالتي تحدث في الأطراف. هناك توصيف ثالث نستطيع تسميته بالمناطق المتداخلة، وهي المناطق التي تتداخل فيها المساكن الريفية مع المساكن الحضرية، وتشاركها في الخدمات عمرانياً وحضارياً. اذاً ما أثر التساؤلات المتقدمة حول موضوع الهوية الثقافية ؟ هناك معايير ممكن أن تحد من توصيف الهوية الثقافية لأي مجتمع، ونحن كما ذكرنا نعيش أمزجة سياسية مختلفة،  ومتنوعة، ومتقلبة انعكست سلباً على بلورة نمط ثقافي موحد وسائد في البلد بدون التأثير السياسي عليه.

فقد كان العراقيون يتقمصون أدورا ثقافية تحاكي المنظومة الحاكمة،  مثل استعمال أهل الجنوب لعبارة (عجل يابه) التي كانت كثيرا ما يستخدمها الحاكم وغيرها من العبارات التي تفسر تفسيرا سايكولوجياً بمحاكة ما هو أدنى لما هو اعلى وهذا موجود حتى في تلقائية الطفل عندما يقلد الكبار. ولكن هناك تقليد يأخذ منحى آخر، ينبع من الشعور بالدونية في العادة، وهذا ما يجعل الفرد كثير التقليد والجري وراء تقمص دور ثقافي معين،  كأن يتعلق بالملبس، أو المأكل، أو التقليد السلوكي وغيرها. وبهذا فأن النمط الثقافي الذي يمثله المقلد،  نجده نمط متقلب،  متلون،  متبدل،  تبعاً للثقافة الأكثر تأثيراً فيه،  وهي ثقافة المركز بالنسبة إليه ؛ لأن كل ما يدعوه للتغير يعد مرتكز بالنسبة إليه، وهذا يعني أن المركز عادة ما يأخذ صفة وتعريف معنوي معياري غير التعريف الجغرافي الذي ذكرناه فيما سبق .

أما مركز المركز، فهو المركز الجامع للجميع، بمركزية جغرافية،  وثقافة أي بالبعد المادي، والمعياري الرمزي مثل : العاصمة بالنسبة للجميع، هي تمثل المركز الأوسع بالنسبة للمحافظات، والمركز الأقرب بالنسبة إلى ضواحيها،  فهي مركز المركز، أما المحافظات، فهي أيضا تعد المركز قياساً مع الضواحي المرتبطة بها إدارياً، ومراكز هذه الضواحي تعد مراكزاً لأطرافهاً أيضا ً، فبين الأطراف ومركزها،والضواحي ومركزها،  والعاصمة ومركزها،  ومركز المركز بالنسبة إلى الكل،  نجد تحول ثقافي، وتكون بها الهوية الثقافية تأخذ تعريفاً مختلفاً، لا سيما أن كان يرافق هذه العلاقة توترات سياسية، وعسكرية و اجتماعية وطائفية . مثلما حدث في كل العقود الأخيرة في العراق، التي كان فيها العراقيين الجنوبيين مثلا ً يناغمون ثقافة المنطقة الغربية لأنها تمثل لهم ثقافة السلطة،أو محاولة الكرد مثلا التفاعل مع ثقافة الجنوب لخلق اندماج اجتماعي، عندما كانوا الكرد يُهجرون الى المناطق الجنوبية أو الفرات الأوسط. أو العكس عندما يرحل العربي إلى المناطق الكردية، والتي كان فيها أهل الجنوب وفي المنطقة الغربية، يعرفونهم "بالشروكة" وهو توصيف للدونية الطبقية التي كانت تمارس بحق طبقات المجتمع الجنوبي، مع محاول هذا المجتمع تقليد نمط ثقافي مناطقي، من أجل إيجاد حالة من الإندماج الاجتماعي المصطنع. وهذا ما مر على جميع العراقيين تقريبا تبعا للتحولات السياسية ونتاجاتها من حروب،  وحصار،وتهجير وغيرها، وحتى بعد التغيير، بدا أهل المنطقة الغربية تصنع مشتركات مع أبناء الجنوب، على مستوى اللهجة والثقافة،  لإيجاد مشترك هوياتي، يقلل من الفارق بينهم، ويمنع التمييز المناطقي، والطائفي وحتى العشائري .وهذا أيضا ما شاهدناه بوضوح في تجربة النازحين، والمهجرين الذين أرغمتهم الظروف السياسية والاجتماعية، من الخروج عن مجتمعاتهم الأصلية نتيجة ولادة حساسية هوياتية جديدة بين المكونات المتعايشة، أو مناطق التنوع الثقافي أو الطائفي الواحد، والتي كانت متعايشة تحت ضابطة القانون .فكثير من المهجرين كانوا يتصنعون معرفتهم بالأنماط الثقافية السائدة، في هذه المناطق كالأكل،والشرب، ونمط العيش والحياة، مع محاولاتهم المحرجة في تغيير حتى لكنتهم، ولهجتهم، ليوفروا على أنفسهم فرصة الإندماج الثقافي، حتى يساعدهم في إيجاد فرص العمل أو التعايش المنفتح .

فالمركز الذي يمثل رمزية هوياتية ثقافية معينة، أصبح نمط يقلد عند أبناء الأطراف، فكل طرف مع مركزه، وصولاً إلى مركز المركز، وهذه الأنماط عادة ما تنقل بطرق تقليدية، مثل التلفاز،  أو الراديو، أو المصاهرة،  أو المناقلة،  أو التجارة، أو الجامعات، أو غيرها من الوسائل التي تعد وسائل غير مباشرة، في نقل العامل الثقافي بين شرائح المجتمع. أما اليوم فقد أصبحت هناك عوامل مباشرة، ومبرمجة في تفعيل الجوانب والمشتركات الثقافية، التي تعبر عن الهوية الثقافة العامة مع الاحتفاظ بالخصوصية،كالفضائيات،  وبرامجها،  أو وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك الانفتاح السياسي والاقتصادي، الهادف إلى إشاعة نمط مشارك في صناعة الهوية العامة، أو تعزيزا للهوية الخاصة، فضلا عن عوامل الانفتاح على السياحة الداخلية والخارجية. وتجربة الهجرة و النزوح التي بلغ عددها بالملايين والتي ساعدت إلى حد كبير في ابراز أثر الهوايات الفرعية الثقافية، في عامل التعايش،بواسطة اللغة، أو اللهجة،  أو المشترك العقائدي،  أو الديني، وعبر اذابة العقد السايكولوجية، والحواجز الاجتماعية بين الطراف والمركز، بعيدا عن أساليب التعالي، والسخرية، وأشعار المقابل بالدونية،  والتمييز العنصري،  والمناطقي وغيرها، والتي مازال كثير من افراد المجتمع يتفاعل مع الآخرين على أساس هذه المعايير،فضلا عن عدها شروطاً في المناصب، والمواقع السياسية، والاقتصادية والاجتماعية، والثقافية وحتى العلمية . وهذا ما يُعمق من نظرية المركز والاطراف على الرغم من كل عناصر الانفتاح التي توفرت وازالت جزء منها، فالفكر المدني الحر، هو الذي يتجاوز كل هذه الأبعاد، ويعدها من صفات المجتمعات المغلقة المناوئة للانفتاح والتحضر والتمدن .

 

دكتور رائد عبيس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم