صحيفة المثقف

المكان الروائي بين التاريخ والمتخيل

727 صباح مطرلا يمكننا بصورة أو بأخرى حصر دور المكان الروائي كإطار لامّ لأحداث الرواية فقط، وإنما يدخل مع الشخصيات وكل بنى النص الروائي الأخرى بعلاقات بنائية، تفرض هيمنتها الكاملة في بعض الاحيان، بغض النظر عن شكل هذا المكان، إن كان مكاناً فعلياً مباشراً، أو مجرد إحالة ما، وبصورة غير مباشرة، يقول ج. ب. كولدنستين ( يحرص (الكاتب) على اعطاء كل لحظة قوية وكل مشهد من مشاهد روايته أطاراً زمكانياً، ذلك أنَّ الروائي أكثر تنبهاً الى العلاقات التي توحد بين الشخوص التي يبدع، والعالم الروائي الذي يحيط بهم)، وهذا ربما ما نلاحظه في رواية (كوثاريا)  للروائي نعيم آل مسافر، إذ إنَّ حضورها كمدينة يبدو هامشياً في القراءة المباشرة، لكنه يأخذ مديات كبيرة في بناء الثيمة الروائية، ولكن بصورة غير مباشرة من خلال المكان الروائي/ التخيلي والاحالة الى المكان الواقعي، واعتقد أنَّ لعبة النص، هي استبدال المواقع بين المدينة المتخيلة وبين المدينة الواقعية، إذ يمارس المكان هنا -وهو المدينة- سطوة على دلالات النص بالتلاعب بها على هذين الوترين، اي يصبح احدهما وجهاً للآخر، دون التفريط بأي منهما، ويصبح التاريخ الاحالي والحاضر كلاهما حاضرين يمثلان نبض النص وتناميه، و بداية لخلق الارتباط بينهما وإن كان بصورة ضمنية، فمثلاً يتخذ العنوان (كوثاريا) ترجيعاً دلالياً سيميائياً داخل النص، حيث يمثل عتبة أولى ستفرض هيمنتها الدلالية والسيميائية على مجمل محاولاتنا في استنطاق المتن السردي والبناء الثيمي، فهل كوثاريا المدينة التاريخية كانت حاضرة بكل ثقلها الدلالي والمرجعي، ام هي محاولة بناء متن افتراضي موازٍ يجمع زمنين، ماضٍ وحاضر، يحاولان أن يعضدا رؤية ابتناها الروائي، من خلال تعدد ظهور هذا العنوان ليس بصورته دالاً مكانياً فقط، وإنما هو حضور لفضاء الدلالة المقترن بالمكان الذي بناه النص، والمكان الآخر الذي يحيل اليه العنوان، وعلاقته بالاستهلال الذي سنجترح له عدة علاقات تساهم في التأثير على بناء النص وبنيته الدلالية، وهذا الحضور لكوثاريا العلامة هو حضور افتراضي لكوثاريا المكان التاريخي في مستواه الاحالي.

يستفيد الروائي من المكان الحقيقي واحالاته ودلالاتها، وأيضاً من المكان الآخر (الروائي) المتخيل والذي يضلل القارئ من خلال البحث عن المشتركات بينهما، ولا يعني ذلك أنَّ تلك المشتركات بصورتها المباشرة شرط لازم بينهما، وإنما المكان الروائي التخيلي يحاول ان يفارق ذلك الاصل ويموه علاقته به، باشتراطات بنية النص وتمثلا لثيمته، إذ (ينبغي للمكان الروائي ان يكون "حقيقياً"، من دون أن يعني ذلك امكانية تحديد موقعه تحديداً تاماً. ولذلك يكون التأليف بين السمات المعرفة الحاملة لأسماء حقيقية وسمات أخرى غير معرفة نسبياً، تحمل أسماءً تخيلية، أو ليس في الامكان التعرف عليها. بما يجري معه، توجيه القارئ بموازاة لتضليله)، وان كانت التسمية تعمل على كشف وتركيز دور المكان في صنع الحدث السردي، اذ يقول شارك كريفل (ان تسمية المدينة أو الشارع، الخ، لا يكون لها مبرر مالم تكن هذه الامكنة مسرحاً لفعل (قد جرت ازاحته). فالنص الروائي يؤكد دائماً، على غيب تستمد منه عناصر الرواية معناها الحالي.) .

إنَّ الصورة الحقيقية للمكان ربما تنفذ بصورة أو بأخرى الى ممارسة نوع من التأثير على المكان الروائي، باعتباره صورة مفترضة عنه، محاولاً بها اعطاء نوع من الواقعية، لذلك فتلك العلاقة هي علاقة مواجهة و"ندية" كما يصفها (كريفل) (ان المكان يعطي الانطباع بان النص حقيقي. فهو يؤكد ان ما يحكى داخله انما هو محض تشخيص. وبفضل المكان يحيل النص ويتبدى كأن له علاقة بشيء خارجي، أو هو صوره عنه أو محاكاة له. مما يجعل النص في مواجهة مستمرة. فهو مشروط (افتراضاً) بحقيقة هو ندّ لها)، وبهذا يمكن ان يتحقق نوع من التوائم الضمني بين الطرفين من خلال التسليم بأنهما رغم تلك الندية إلا انهما يشتركان بنفس الارضية المكونة لهما كدلالتين مكانيتين تحيلان الى علاقة سيميائية ثابتة وقارة لهذا المكان، فإشارة الروائي للمدينة المدورة في رواية كوثاريا مثلاً، لكي يعزز مدى التقارب بين المدينتين السادرتين في تاريخ يتوالد من نفسه وبنفس الوتيرة، حيث إن كوثاريا مدينة اخرى غير المدينة الموصوفة بالمدورة وهي (بغداد) الا ان ما يجمع بينهما تلك الصلة الافتراضية التي اوجدها الروائي والتي خلقت تلك المقابلة بين المكان الواقعي والروائي/ التخيلي، ولكن ايهما الحقيقي وايهما المتخيل؟ هل هي المدينة المدورة/ بغداد ام كوثاريا المدينة التاريخية؟ الاجابة ممكن أن نفترضها إن نحن دققنا باستخدام الروائي لمدينة كوثاريا، والتي هي مجرد اسم لمدينة ولا يوجد اي اشارة الى كونها هي المدينة التاريخية القديمة، موطن صناعة الاصنام، وهنا كما اعتقد لعبة الروائي بإسقاط الحاضر في دائرة التاريخ، وجعل كل دلالات النص تدور حولها بصورة وبأخرى، اي جعل (كوثاريا) الحاضر هي امتداد لـ(كوثاريا) الامس، وليست استدراجاً للثانية الى حاضر الاولى، وذلك يظهر من خلال غياب كل ما يرتبط بها والاكتفاء بحضورها كإسم، مع اشارة الاستهلال الى ابراهيم وتحطيم الاصنام والتي كانت تسبتطن وجودها،  كما سنشير لاحقاً، فهذه المدينة ترتبط دائماً وفي اكثر من موضع من الرواية بكوثاريا مرة وبالمدينة المدورة مرة أخرى، مع ملاحظة ان كلتيهما مدينتان تاريخيتان، تعززان حاضر الرواية (كانت عيناي معصوبتين ولم يقم اعوان سمير بفتحهما إلا عند باب المزرعة، فلا اعرف بأي جهة من ضواحي كوثاريا تقع. هذه المدينة المدورة التي بناها ضرورة سابق وظل سكانها يدورون في حلقة مفرغة. وظلت تتنقل كغانية بين يدي دكتاتور وآخر منذ ذلك الحين.).

لاتخلو الرواية من اشارات واضحة الى ان كوثاريا هي كناية عن (بغداد) كما اسلفنا، وما العنوان الجديد الا محاولة من الروائي ليحقق موائمة افتراضية بين بغداد اليوم وكوثاريا المدينة التاريخية صانعة الاصنام، وهذا ما يظهر ربما من خلال الربط بين شخصيات الرواية وبين النظام الديكتاتوري، وكأنها اشارة الى هذا الوطن المتمثل بهذه المدينة، معمل صناعة الاصنام بكل اشكالها، متمثلة بالشخصيات التي تأخذها من قاع المجتمع حيث المعوقين نفسيا كـ(سمير) او المأبونين كـ(نبيل)، اذ ان (كل فعل للشخصية الروائية هو واجهة اشارية أو (موقف) اجتماعي يضمر مرجعيات ثقافية مهيمنة، تستبطن الفعل الثقافي المضمر، اي الفعل الثقافي الجمعي الذائب في ذلك الموقف.)، حيث إنَّ البحث في مواقف الشخصيات هو بحث في المواقف الاجتماعية المضمرة، او مبرراتها المستندة على اسس ثقافية مضمرة والتي اظهرت كوثاريا بهذه الصورة، اذ (يمكننا النظر الى المكان بوصفه شبكة من العلاقات والرؤيات التي تتضامن مع بعضها لتشييد مواقع الاحداث وتحديد مسار الحبكة ورسم المنحنى الذي يرتاده الشخوص.)، وهذا ربما يضعنا في لجة سؤال اعمق، هل ان التأثير هنا ينحصر بكون المكان ارضاً صلبة تقوم عليها هذه العلاقات، وتؤثر في بناء الاحداث وصياغة الاراء... الى اخره، ام ان هناك صفات اخرى، كما في اسم مدينة (كوثاريا)، فمدينة الامس/ التاريخ، ليست هي مدينة اليوم/ الحاضر، ولا يجمعهما على المستوى السطحي والمباشر سوى الاسم، الذي يضفي تلك الهالة الرمزية على مجمل احداث الرواية وشخوصها، لذلك فهذه التسمية ربما تبدو مجازاً، للموائمة بين مرجعيات كلا المدينتين ومحمولاتهما الرمزية، فلو لم تكن مدينة اليوم هي المدينة المدورة او هي كوثاريا، فهل ستبقى العلاقات الاحالية والرمزية لهذه الكيفية، ام انها ستأخذ مساراً اخر، اذ استخدم العنوان/ المكان بصورة واعية لتحقيق هذا الربط الذي ربما يختفي من سطح الرواية وعلاقاتها، ويضمر في العلاقات التي ينشأها هذا العنوان والاحالات المتكررة له من خلال الاشارة الى الاصنام في اكثر من موضع داخل الرواية، وتراوح ظهور المدينة بين المدينة المتخيلة والواقعية كما اسلفنا.

اعتقد ان (كوثاريا) خرجت عن توصيفها كمكان جغرافي، الى مكان يحمل محمولات رمزية، يمكن ان يكون اي مكان ما يتطابق مع تلك المرموزات والدلالات، خالقاً رابطاً بينها، فاتحاً فضاءات جديدة لاعادة قراءته من منظور هذه العلاقة، فلو بحثنا في مكان رواية كوثاريا؛ اي المزرعة او حتى السجن الاصلاحي، فلن نجد ذلك التطابق الصوري بينه وبين كوثاريا النبي ابرهيم التاريخية، الا في الاشارة الدائمة لمحور هذه العلاقة وهي صناعة الاصنام، (كما اتخذ القائد الضرورة من السجن الاصلاحي كوثاريا اخرى انتجت من الاصنام المتحكمة في اقدار الناس مافاق نتاج اصابع آزر، هاهو سمير اليوم يتخذ من هذه المزرعة مكانا اخر على شاكلتها)، رغم اننا نجد في ص11 من الرواية انها اخذت منحاً اخر في توصيف المكان عندما شبه بالبستان، الذي لا يقدم المكان الصريح مستفيداً؛ من مواصفات البستان التي يسقطها على المكان المفترض للرواية، المكان الواسع او فضاء الوطن الذي كان في كوثاريا مركزاً تتجمع حوله دلالاتها، رغم انه يختفي في اكثر الاحيان، الا انه موجود ومهيمن على الخط البنائي العام لثيمة الرواية.

يلعب المكان دوراً مهما في بناء الحدث السردي، ومشاركاً لكل عناصر العمل الروائي الاخرى في بناء النص، فـ (المكان هو الحاضن للحدث الروائي، وتفاعل الشخصية وردود افعالها تجاه المكان محكومة بنوعية الحدث ان كان ايجابيا او سلبيا اي ان يكون للمكان فعل اجتماعي، كاشفا نمط معيشة الشخصيات والمرجعيات الثقافية التي تصنع هويتها المكانية.)، ويعبر المكان ايضا او يعطي تصوراً على اقل تقدير عن الحدث السردي الذي سيضمه، وربما وفي بعض الاحيان يعطي اشارات ضمنية للقارئ عن طبيعة ذلك الحدث، الذي يكون ارضاً له ومتعالقاً معه، اذ لا يكون المكان هنا مجرد وجود او صورة سلبية حيادية، وانما يكون متوائما ان لم يكن محرضا ضمنيا على ذلك الحدث، فالمكان (في الرواية انما يكون بحسب ملائمته للحدث القابل (...) مكان "ناطق")، لذلك يكون للمكان هيمنة كبيرة على الشخصيات باعتبارها تمثلا ثقافيا واجتماعيا لتلك المجتمعات التي تشغله، لذلك تخضع في اكثر الاحيان لضغط ذلك المكان او الفضاء الثقافي والاجتماعي وتستجيب لقيمه، فـ( الحيز الذي تتفاعل فيه الشخصية يولد علاقات تبادلية بينهما – ان كان حيزا اجتماعيا او ثقافيا او حتى مكانيا- من خلال التأثير بتلك القيم، اي اسباغ هذه القيم عليه، من خلال ممارسة سلطة الوعي به او الانقياد الى القيم التي يفرضها، باعتباره ممثلا لسلطة اجتماعية وثقافية مهيمنة.) .

يبدو المكان في رواية (كوثاريا) مكانا قامعا ومصدرا للشر، لذلك يكون الهروب منه هروبا من ذلك الشر، ورغم ان مسببه هم البشر/ شخصيات الرواية سمير وغيره، الا ان هذا المكان (كوثاريا) هو المسبب الرئيسي، لانه معمل لصنع الاصنام، والخروج منه هو هروب من هذه الاصنام وظلالها، وطبعا هنا يجب الاشارة الى ان القصد من المكان ليس المكان الجغرافي، وانما هو الفضاء الثقافي والحضاري اي المظاهر السوسيوثقافية التي يبنيها هذا المكان والتي تلتحم بالاطر الحضارية والثقافية للمجتمعات التي تعيش فيه، (ليتني استعجلت بالسفر قليلا، لما استطاع اتباع سمير اختطافي واحضاري اليوم في مزرعته المقبرة هذه. لكنت الان في بلد آخر بعيدا عن كوثاريا. في بلد لا سطوة له فيه. ابدأ هناك حياة جديدة، حيث لا أحد يعرفني ولا ماض يلاحقني أعود حقيقيا كما كنت في السابق، قبل ان يفرض علي القدر مصاحبته في رحلة حياتي الماضية) .

لعب الاستهلال (مردوخ) دورا تحريضيا وموجها قرائيا، يحاول ان يبتني مجموعة من العلاقات، التي ستشكل لدى القارئ مجموعة من المفاتيح التي سيبحث عن ابوابها في النص، ربما لتفتح له مديات قرائية واسعة، يمكننا اجمالها بعلاقتين هما:

- سبب عدم تحطيم مردوخ وعلاقته بالسبب الذي اعطاه الراوي.

- السؤال، سؤال عدم التحطيم وسيرة حياة الراوي (كتبته على جدران السجون الرطبة بحروف باردة، خططته على اراضي المعارك الساخنة بحروف لزجة) .

هذه مجموعة من العلاقات التي ربما يمكن استخراجها من نص الاستهلال، وربما يمكننا صياغة مجموعة اخرى، ولكن المهم في ذلك هو تأثير هذه العلاقات على احداث الرواية وبنائها، اذ إنَّ تأثير الاستهلال على بنية النص، يظهر من خلال التعالق مابين العلاقات التي اشرنا لها سابقا وتكرار ظهور علاماتها المتمثلة بإبراهيم ومردوخ وكوثاريا المدينة التاريخية؛ التي كانت غائبة عن متن الاستهلال ولكنه ليس غيابا فعليا، وانما هو حضور ضمني من خلال الحديث عن قصة النبي ابراهيم، والذي يرتبط بالمدينة من خلال مقولة (ابن عباس) التي وضعها الروائي قبل الاستهلال وهي (نحن معاشر قريش من النبط، من اهل كوثاريا، قيل ان ابراهيم ولد بها، وكان النبط سكانها)، وايضا يمكننا ان نفترض اجابة عن هذه الاسئلة او العلاقات بعد ان نعقد صلة بين الفضاءات التي بني عليها المدخل الاستهلالي، اذ ان هناك ثلاثة فضاءات نصية ومرجعية تغذي النص، منها ماهو مباشر اشتبك بالبناء السردي، ومنها ماهو غير مباشر متن افتراضي ملحق ببعض الدلالات التي يغذيها داخل الرواية، وهذه الفضاءات هي اولاً قصة النبي ابراهيم وتحطيمه للاصنام (قرب الموقد كنت اطلب من ابي، ان يحدثني بقصة النبي ابراهيم، من بين كل قصص الانبياء التي يحفظها ويرويها لنا في الطفولة. كانت هذه القصة تأسرني...) ص5، اما الفضاء الثاني وهو المهم بتصوري وهو وسيط بين الفضائين الاخرين، هو السؤال الذي تحدثنا عنه قبل قليل، اما الفضاء الثالث فهو القصة الرئيسية التي كانت مفتتحاً لانطلاق احداث الرواية وهي مقتل والد الشخصية الرئيسية وسجنه.

احتفظ الفضاءان الاوليان في المدخل الاستهلالي وهما فضاء قصة ابراهيم وسؤال الفأس، بموقعهما خارج الحدث السردي المباشر، وإنْ مدت لهما خيوطا داخل مسارات الرواية بصورة غير مباشرة من الايحاء الذي يضفيانه على بعض الاحداث وخاصة من خلال الحديث عن الاصنام او (الضرورة)، حيث يتركاننا في حالة من الترقب لعقد صلات بين احداث الرواية وتشعباتها وبين هاتين المرجعيتين، من خلال البحث عن الاصنام ومردوخ، او محاولة تخمين الاجابة، وتتضح اهمية هذا المدخل الاستهلالي ومدى هيمنته على الرواية ان حاولنا رفعه، والذي ربما سيعطي لدلالات الرواية - بوجهة نظر اخرى- فسحة اكبر من الحرية، وربما تجنح بعيدا عن هذه الموجهات التي الزمنا بها الروائي، وهذا المدخل او العتبة طريقة ذكية – برأيي على اقل تقدير- وضعها الروائي للمحافظة على الثيمة الروائية التي يحاول رسمها بربطها بمرجعيات تغذيها بصورة غير مباشرة، لتعطيها صبغة اكثر درامية.

لو انطلقنا من المدخل الاستهلالي ( لعتبة النصية)، غاضين النظر عن العنوان والغلاف، وبحثنا عن اصنام كوثاريا داخل المتن، فهل سنجد تلك الاصنام؟ هل ان الرواية قدمت الضرورة او ظل الضرورة (سمير) كأصنام؟؟ هل ان الراوي يلعب في حاضر السرد دور (إبراهيم عليه السلام)؟؟؟ إن الرواية – بتصوري- لا تتكلم عن صناعة الاصنام او تدميرها، كما هو الايحاء الذي أوهمنا به الفضاء الاول للمدخل الاستهلالي، وانما تنطلق من الفضاء الثاني وهو السؤال ( السبب المعروف هو اتهامه بالتحطيم، حتى يُحرج الكهنة وتتضح الحقيقة للناس المخدوعين بعبادة الاصنام. ما كان هذا السبب المعلن يرضي فضولي، ولطالما تساءلت عن وجود سبب أخر جعله يترك هذا الصنم دون ان يحطمه)ص5، إن الاجابة عن هذا السؤال؛ هو الاجابة عن سؤال الرواية، وافتراض الاجابة تضعنا في خضم سؤال اهم وهو هل انه لم يحطمه حقاً؟؟ ان تحطيم الجسم المادي للصنم لا يقتله اذ من الممكن استبداله، ولكن وضع فأس السؤال في عنقه سيحطم جسمه اللامادي، فالرواية ربما هي فأس السؤال الذي وضع في رقبة مردوخ، ليعري القيم اللامادية التي تصنع اصنامنا (الذي دعا ابراهيم لعدم تحطيم مردوخ ووضع الفأس في عنقه، ربما كان يريد الايحاء لنا بإن مهمة تحطيم الاصنام ليست مهنته بل مهمة الجميع، لابد لكل منا تحطيم اصنامه الداخلية بنفسه حتى يحين الخلاص) .

ربما لم يأخذ مردوخ الصنم الكبير وآزر صانع الاصنام مساحة كبيرة في الرواية، الا انهما مارسا نوعاً من السيطرة على البناء الدلالي للنص من خلال العلاقات التي بنياها، وأيضاً في المرات التي ظهرا فيها في المتن والتي عززت دورهما في النص، لكي لاينفرط البناء الدلالي ويخرج عن السيطرة التي فرضاها منذ نص الاستهلال (مازال مردوخ يتناسل في نفوسنا ويلد الاصنام تلو الاصنام، فكل من تتوفر له فرصة التسلط يظهر الصنم القابع في داخله ويصير دكتاتورا يحاول ان يكون مردوخا اخر. كلنا آزر وهذه البلاد كلها كوثاريا وانى لنا بإبراهيم جديد؟)، وربما يكون هذا الاقتباس هو تساؤل الرواية أو الاطار الذي يحكم ثيمتها، اذ انه يكشف الصلة الافتراضية التي اوجدناها بين كوثاريا التاريخ، مدينة الاصنام بكل تشكلاتها والدلالات المرتبطة بها كـ(مردوخ، آزر، وإبراهيم) وكوثاريا الحاضر، المدينة المموهة بهذه المرجعية والاشارات التي تقود الى مدينة فعلية واقعية هي (بغداد)، ولكن بحضور افتراضي استشرافي لدلالات الاولى وهي صناعة الاصنام، الى اخره من دلالات، اذ يجر الراوي ثيمة النص لكشف الاساس الذي قامت عليه استعارته لكوثاريا وآزر ومردوخ وربطها بزمن الرواية، ويمكننا ان نلمح حسا ساخرا مبطنا في لغة النص وهو يتعامل مع كوثاريا كدلالة وهذا ربما يسعى به الراوي لتعميق صورة هذه المدينة بصورتها الحاضرة، اذ يقول (ان اراد المرؤ ان يظل على قيد الحياة في كوثاريا، فلا بد له ان يتقن فن انتحال شخص اخر على شاكلة عبدة مردوخ. فيفقد ذاته ويصير دمية مسلوبة الارادة يحركها اللاعبون الكبار، يكون صانعا للأصنام كأي آزر، بشكل وآخر. بغير هذا ليس امامه إلا ان يكون حطبا لمحرقة النمرود التي اشتعلت في اوصالنا منذ زمن بعيد بأسباب واسماء مختلفة)، وهذه اللغة الساخرة التي ربما نجدها بين تضاعيف الرواية تقترن بالمأل الذي آل اليه الوضع في كوثاريا، وهو ليس منقطعا عن ما قبلها، وانما السخرية تركزت على الحاضر بإعتباره صورة مضخمة ومشوهة عن الماضي، بالاضافة الى ذلك حتى لا يفقد النص الايقاع الذي يربط بين كوثاريا اليوم والامس، وايضا يمكننا ان نلمس مستوى اخر من تلك السخرية في كلام (سمير) والذي بدا وكأنه حوارا كاريكاتوريا في بعض الاحيان .

مثلت الاصنام داخل الرواية مصدرا للخوف ورمزا للغطرسة ولم تكن الهة للعبادة، وهذا ما لمحت له الرواية في استهلالها بصورة ضمنية، وعززته ربما العلاقات التي اشرنا لها سابقا، حتى اصبحت نوافذ نطل منها على النص، واقترنت بالكثير من الاسئلة التي تحتاج الى اجابات، واهم هذه الاسئلة بتصوري هو سؤال الفأس؛ والذي يدور بين عدة اجوبة منها ما قدمه الروائي نفسه في خطاب الرواية المباشر، ومنها ما يستشف من قراءتنا لدلالات النص واحداث الرواية والعلاقات بينها، ولذلك يبدو لي ان هذا التصور لهذه الاصنام أي ليس بصفتها آلهة؛ هي الاجابة المفترضة عن سؤال ابراهيم وسبب تعليقه للفأس في نص الاستهلال المأخوذ من القصة القرآنية المعروفة، أي انه اراد تحطيم هذا الجبروت والغطرسة لهذه الالهة، من خلال عدم تماهيه مع سدى الحكاية القرانية، التي انطلقت من زاوية تنظر لهذه الاصنام على انها اصنام تعبد كآلهة، اذ ان السبب المقترن بهذه الزاوية او وجهة النظر الدينية وتفسيرها لموقف ابراهيم لم تقنع الراوي – في نص الاستهلال-  لانه يريد تأسيس صورة اخرى لهذه الآلهة، ويخرجها عن التصور الديني لتصبح علامات لمفاهيم وتصورات، وليس تلك الصورة النمطية لهذا الصنم كوجود مادي يشير الى اله معبود،  وانما الموقع الاجتماعي والسياسي وربما الايدولوجي المنتج لمظاهر الغطرسة والشر، وهذا يظهر ربما سبب اختيار ابراهيم لكبير تلك الاصنام، والذي انتقل من موقعه الاجتماعي والديني السابق، الى موقع جديد هو الموقف الايدولوجي لشخصيات الرواية كسمير ونبيل وغيرهم، حيث ان تعزيز هذه الصنمية يتم من خلال الايغال بالشرور الذي يسوغه الموقع الذي تحتله تلك الشخصية، او الموقع الذي تحتله الافكار والمفاهيم التي اشرنا اليها سابقا، اي الموقع الذي يحتله مردوخ الذي يتبدى بعدة صور، كان احداها مردوخ الاعلام الغربي (حتى أمراء النفط الذين يرتبطون وامبراطور الاعلام الغربي روبرت مردوخ بعلاقات وثيقة ومصالح متبادلة، يساعدونني. ذاك الذي دعم بوش بماكنته الإعلامية العملاقة إبان احتلال العراق، هو ايضا يدعمني بصورة غير مباشرة)، حيث ان الاعلام الغربي اصبح صنما آخر، يمثل سندا وظهيرا لغطرسة امريكا وسياستها، اذ كلما تغير شكل هذا الصنم، يبقى على نفس مواصفاته وقيمته المعنوية، ان كان ماديا، او شخصا بعينه، او فكرة او مفهوما، او آلة جبارة كماكنة الاعلام الغربي.

هذه مجموعة من الوقفات التي اردت بها الاشارة الى علاقة المكان (كوثاريا) بالبناء الدلالي للنص الروائي وعلاقتها بعناصر الرواية الأخرى وان لم اشر الى جميع تلك العناصر.

 

أمجد نجم الزيدي

.......................

الاحالات

1- الفضاء الروائي – جنيت وكولدنستين واخرين، ترجمة عبد الرحيم حزل- افريقيا الشرق- المغرب 2002

2- كوثاريا (رواية) نعيم ال مسافر- دار ميزوبوتاميا- بغداد ط1 2014

3- الانساق الثقافية والتاريخية في الرواية العراقية المعاصرة- أمجد نجم الزيدي- بحوث ودراسات مهرجان الكميت الثقافي الرابع- ميسان 2014

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم