صحيفة المثقف

المجتمع نَاظُراً نفسه.. المرآة التي تظهر الجميع كواحد

رائد عبيسلا يختلف اثنان حول قيمة النقد الاجتماعي، في تحريك عجلة الحياة بعيدا عن السكونية المطبقة، التي عادة ما تتسبب في انغلاق اجتماعي، يؤدي بالنتيجة الى انفجار المجتمع، المتطلع إلى الانفتاح، والتجديد، والرغبة في التحديث، ولكن كثيرا ما يترك خلفه حسابات، ومخلفات هذا الانفتاح الذي قد لا يتوافق مع روح المجتمع، الذي يعاني من براثن التخلف، والجمود، والسكونية، والرؤى التقليدية الجامدة، اتجاه كثير من قضايا المجتمع، كالتعليم، والاختلاط، والعلاج، والسفر، وحريته وتغيير نمط العيش، وأساليب الحياة، مثل هذا الطموح يحتاج إلى جرأة كبيرة، في تحدي الموروث الاجتماعي القائم، وربما الدائم، اذا غاب النقد التقويمي، لان في كل مجتمع رواسب تعارض اي نمط جديد. وعلينا في الوقت نفسه أن نجاري الواقع بهدوء، حتى لا نحول الصراع إلى نفاق، وعندها نبرر مسوغات النقد الهدام على طبيعة الطروحات الحداثية في المجتمع . فصراع الأجيال موجود في كل المجتمعات، ولكن هناك موجة من الحداثة، تجتاح هذه الشرائح المتراجعة في تفكيرها الرافضة للمواكبة. بحجة الإبقاء على موروث الأهل،  والتاريخ،  والحفاظ على بقاياه؛ لأنها تعبر عن الاصالة، فالأصالة التي فهمت غلط تسببت بأحداث ذلك الشرخ في بنية المجتمع الصاعدة،  نحو أنماط جديدة، قد يكون ما يزال يحلم بها. فالمجتمعات المقسمة إلى مجتمعات شابه، أو مجتمعات هرمة،  أو مجتمعات متوسطة الاعمار، اذ لا نجد مجتمع موحد في فئاته الاجتماعية،  ومن ثم لا نجد مجتمع ناظر لنفسه على أنه هو، فالكل يرى نفسه، لا روية موحدة في مرآة المجتمع الموحدة، فالمجتمع التي توحدت رؤاه، ومرآته،  وأفكاره نحو طموح واحد، هو مجتمع منتفض على أنقاض ماضيه، مجدد لروحه الهرمة التي تشيخ بتقليدية شيوخها، ونمطية رواه الضيقة التي لا تسمح بتمرير دماء جديدة في عروق هذا المجتمع.

فالمجتمع الياباني ممكن أن يكون اعظم مثال لهذا المقال، مجتمع كسر مرآته الصدءة، صنع مرآة جديدة بحجم وطنه، اصبحت مرآة لكل أفراده،  أصبحت مرآة للجميع الذين يرون فيه "الكل واحد" منظر موحد من الهمم، منظر موحد من الأشكال، منظر موحد من التطابق الذاتي، وهذا هو معنى التذاوت ومرآته التي يُرى من خلاله الجميع . كل منجزات الشعب الياباني يدل على هذه الرؤية، يدل على أنهم ينظرون بمرآة واحد، لا يرون بها أشكالهم، بل يرون به شكل واحد، وهو الإنسان الياباني، الانسان الذي يريد أن يرى نفسه في الجميع، هذا هو معنى الانتفاضة الحقيقية التي ننتظرها لمجتمعنا العراقي بعيدا عن الاصطفافات، والتكتلات، والتحزبات، التي رسخت الانانيات،  وعمقت من المختلف، وبنت فوق خرابه صروح استثمارها للبلد وأهله. لا روية صافية في مرآة شعبنا الصدءة، بسبب عوامل المناخ السياسي، والطقس الحزبي،  والتذبذب الاقتصادي، والضباب الدائم المتسبب في تشويش الروية والرؤى،  لدى المواطن العراقي، فالمرآة التي قال بها علي بن ابي طالب "أما اخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق " ويهمنا في هذه المقولة الرائعة الشطر الثاني منها  " أو نظير لك في الخلق" التي تؤكد الرؤية المرآوية في مقالنا هذا، والتي نؤكد عليها من أجل توحيد الأبعاد الميدانية للرؤية المجتمعية ومساحتها، حتى يظلل المجتمع لكل أفراده، محتضن لهم، حامي لهم، موحد لنهجهم في البناء الآني والرؤى المستقبلية،  في اي قضية يراها تنهض في بلده نحو الاعمار والتطور.

الصورة القاصرة في مرآة مجتمعنا العراقي، هي أنها لا تكسر الصورة الوطنية بل تمتصها، ولا تعكسه كما هو بل تشوهه، ولا تظهر حقيقته بل تزيفه، ولا تظهره سويا بل تضخمه، أنها مرآة تصدءا بسرعة، وغير مقامة للكسر بل هي هشه الى حد عندما يظهر بها أكثر من شخص تتكسر!

أنها صنعت لتكون كذلك ولأجل هذه المهمة، فالمجتمع العراقي بها لا يمكن أن ينَاظُر نفسه، ولا يمكن لمرآته الوطنية أن تكون موحدة للجميع، أو تظهر الجميع كواحد!

بل بات الأمر اسوء بكثير،  فهي غير قادرة، ونحن غير قادرين بها أن ننقل صورتنا الى الآخرين ليرونها بها، فعادة ما نستعير مرايا غيرنا لنظهر بها كما نحن و نبدوا!!

سياسة التشويش والتشويه قائمة، والمجتمع بات مغلقاً بانفتاحه، وهذه هي المفارقة، فتوصيفنا الاجتماعي، لمجتمعنا العراقي لا ينفعنا به استعمال المرآة، ولا إمعان النظر بقوة، فضعف بصيرتنا تفقدنا كل حواس القوة التي نتحسس بها صورتنا الحقيقية بدون مرآة أو بها، ولكن نحن بحاجة إلى مرآة ثابتة،  لا مرآة متجولة تقنع الجميع للنظر بها، وكأنها صورة دعاية تجارية، هكذا بدت صورتنا حتى في الإعلام الذي يحاول أن يصور ما لم يراه منها، ويخفي ما يراه منها عندما يسوءه ذلك، فالتشويه بات متعمد،  واتفق الجميع على كسر المرآة قبل المبيت ؛ لأن النظر في المرآة ليلا منهي عنه ! هكذا بدأ البعض يفسر حقيقة وجودنا المرآوي على أنه جزء من السراب، وصورة تعكس الخراب، لذلك علينا أن نستعين بها بصورة رجل واحد نمنحه حق الوقوف بوجه المرآة، ليرى الجميع بها نيابة عنا! وهذا معناه اننا أرجعنا عصر الديكتاتورية بدون أن نعلم، بل ونعلم لان مرآتنا لا تناسب الجميع ولا يمكن أن تكون مرآة للكل؛ لأن المجتمع لم ينَاظُر نفسه بعد!!

 

دكتور رائد عبيس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم