صحيفة المثقف

التنظير للخط المغربي وسؤال الممكن..

محمد البندوريتنظير أفكار: التأمل فيها مليا لوضعها نظرية، وتعرف النظرية لغة: بأنها مصطلح مشتق من الكلمة الثلاثية نظر، ومعناها التأمل أثناء التفكير بشيء ما، أما اصطلاحا: فتُعرف بقواعد ومبادئ تستخدم لوصف شيء ما، سواء أكان علميا، أم فلسفيا، أم معرفيا، أم أدبيا، أو في أي مجال آخر. وقد تثبت هذه النظرية حقيقة معينة، أو تسهم في بناء فكر جديد. ومن التعريفات الاصطلاحية الأخرى للنظرية: هي دراسة لموضوع معين دراسة عقلانية ومنطقية، من أجل استنتاجِ مجموعة من الخلاصات والنتائج التي تساهم في تعزيز الفكرة الرئيسية التي تبنى عليها النظرية. وهي تكون قابلة للصواب وقابلة للخطأ وتنطلق من مسلمات أو مبادئ متفق عليها وتكون أساسا لبناء تلك النظرية وما يترتب عليها من نتائج. فالنتائج هي التي تحكم.

وإذا ربطنا هذا المعنى بالخط المغربي فهل خضع الخط المغربي لعمليات التنظير عبر تاريخه العريق أم ظلت الممارسة في حدود الاشتغال الذوقي ولم يحكمها الوعي؟؟؟

أسئلة عديدة تطرح في هذا الصدد، هل كان الخطاط المغربي مثقفا أو مجرد خطاط عادي أم نساخ فقط وذلك ما قادته إليه تجربته؟؟ لماذا تنوعت الجماليات في الخط المغربي الى حد الانبهار؟؟؟ أكان ذلك عفويا أم كانت وراءه تنظيرات ونقد صريح؟؟ إن كان هناك تنظير أين هو في التراث المغربي؟؟ لماذا لم يستجليه النقاد؟ هل كان هناك نقاد ومتتبعين لشأن الخط المغربي عبر التاريخ؟ إن كان أين هو؟؟

الحديث عن التنظير في الخط المغربي يجر إلى طرح مئات الأسئلة، إذن في ظل هذا الوضع كيف تشكل الخط المغربي في التراث المغربي؟؟ وما هي الأسس التي انبنى عليها الخط المغربي وما هي الأركان التي تأسست عليها جمالياته؟؟

نعترف جميعا من خلال احتكاكنا بالتراث المغربي ومن خلال تفاعلنا المطلق مع المخطوط المغربي أن هذا الخط يتوفر على جماليات مطلقة، ويتوفر على تنوع الجماليات في مختلف الأشكال الخطية ويحتوي على مفردات فنية، منها ما يقوم على الرمز ذي الدلالة التعبيرية، ومنها ما يقوم على الإيقاعات الخطية المتحولة إلى بلاغة بصرية، ومنها ما يقوم على الرؤية التمثيلية ذات الإيحاءات الرمزية، ومنها ما هو قائم على التجريد ذي الدلالة التعبيرية، ومنها ما هو قائم على تحولات في الحرف الواحد إلى دلالات كثيرة تنتج عن علاقات جمالية. وغالبا ما تتسم الإيقاعات الخطية المغربية بالتنامي والاسترسال والانتشار ثم التحول إلى مناحي جمالية متعددة. إذا كنا نعترف بكل هذا وغيره كثير لا يتسع المجال لذكره كله، فإنه لا بد أن يكون من وراء ذلك فعل فاعل رسم الطريق للخط المغربي.

قد نذكر عامل التطور التلقائي التابع للتطور الحضاري لأن الخط ملتصق بالحضارة والعمران، وكلما تطور هذا المجال تطور معه الخط، وكلما ضعف انهار مجال الخط وتقلصت جمالياته، وذلك كله تبعا للتطور الاقتصادي. لكن هل من الممكن في ظل هذا التطور كان هناك تنظير؟؟

إذا عدنا إلى الفترة الإدريسية ثم العصر المرابطي نجد اختلافا في المقومات ونجد تطورا من العهد الادريسي إلى المرابطي رغم محدودية الجمال. لكننا أصبحنا نتحدث عن الخط المغربي المرابطي أو بعبارة أدق وأصح الخط الكوفي المرابطي. وهو خط هندسي لا يمكن أن يتأسس بجمالياته وأشكاله الهندسية إلا وفق تصور ورؤية تنظيرية. وهي وإن كانت محدودة لكنها بالنسبة لما سبقها فإنها تعد إنجازا مهما في تاريخ الخط المغربي، فضلا عن التطور الذي أدى إلى وجود الخط المغربي المبسوط والخط المغربي المسند في أواخر الدولة المرابطية. وإن لدينا أسماء خطاطين كانوا يجودون الخط المغربي في هذه الفترة ولا يستبعد أن يكونوا هم المنظرين لهذا التطور.

ومن مميزات الحروف العربية أنها تكتب متصلة ومفردة، وهذا يعطي للحروف إمكانات فنية هائلة، ولذلك كانت عملية الوصل بين الحروف المتجاورة ذات قيمة فنية مهمة في تشكيل الكتابة المغربية بجماليات متعددة قوامها الاستقامات والزوايا والاسترسالات والمدود الانسيابية والميلان والتدويرات والأقواس والبسط والتراكيب المغربية الصرفة.. فانتقل الخطاط أو المنظر بذلك من دائرة الاستخدام العادي الوظيفي إلى فن جمالي يؤسس علما بلاغيا جديدا. وكل ذلك ممكن في الثقافة المغربية يزكيه وجود مثقفين وعلماء وخطاطين أسسوا لطبيعة العلاقة بين الأشكال الخطية والجماليات الفائقة التي تحدد وجودها الموضوعي المتميز انطلاقا من فكر المبدع والمنظر والمثقف ليبلغوا الدلالات التي يتوخونها وإنتاج بلاغة جديدة بدءا من تأثير الخط في أفكارهم، في نطاق نظرية البلاغة الحروفية التي يمكن أن تكون فنا مكتملا.

إن مكانة الأشكال الجمالية اللائقة للخط تتحدد في استخداماته بالأشكال التجريدية، كعناصر تصويرية مرئية لها خصائص وأبعاد رمزية قوامها التجريد. فالمراحل التطورية والصيغ الجمالية للحروف المفردة المجردة التي رافقت الخط العربي طيلة مسيرته، لم تكن في منأى عن الأشكال الخطية الجمالية المتعددة، إذ ظلت هناك علاقة وطيدة وتوليف، ووصل دائم كما بالتجريد، يكون بشتى مظاهر الجمال يعكس مجموعة من الخصائص الفنية والتعابير المختلفة، لما له من الخصائص الجمالية التي تفسح له المجال واسعا للتعبير عن القيم الجمالية التي ترتبط في جوهرها بعدة قيم أخرى، وتعتبر قدرة فائقة من التعبيرات الجمالية التي تفصح عن العالم الداخلي للمبدع، وبهذه الإثارة تفتح إمكانيات أوسع لمشروع جمالي يساهم فيه القارئ في نطــاق تفسير الأشكــال الخطية الجمالية، وفــي نطــاق فلسفــة التفاعل الإبداعي بين الأشكال الخطية وآفاق القارئ لإثراء معنى الأشكال الخطية الجمالية.

فالأشكال الخطية المبتدعة في تاريخ الخط المغربي هي فن جمالي بني على ثقافة حروفية تنظيرية بمناهج تطرح طرائق متنوعة في التعامل مع هذه الأشكال بصريا.‏ باستحضار الحس الجمالي والثقافة الحروفية والذوق الفني المغربي على مر التاريخ، تنبجس في الخطاب البصري بانعكاسه المطلق على الثقافة الحروفية البصرية. فالناظر إلى الأشكال الخطية الجمالية يجد فيها انطباعا وإحساسا يقارب به الوعي المعرفي والجمالي الذي احتضن الممارسة الخطية وأبدع أشكالها الفنية، بمقاربة جمالية لأهم الظواهر الجمالية التي تحرك في خضمها الفضاء الحروفي المغربي، وهي تشكل صورة حروفية تتحقق لغويا ودلاليا. واستطاعت أن تصنع سلطة دلالية عمقت البعد الإبداعي لثقافة القيم الخطية المغربية الملتصقة بالمنحى البصري والتي أغنت الصورة الخطية وغذت التشكيلات المتنوعة التي يعد الحرف أحد مفرداتها التجديدية. وبذلك يمكن القول بأن كل الإسهامات التي طالت جودة الخط المغربي كان من ورائها تنظير وتأطير حسب الإمكانات المتاحة في كل عصر من العصور المغربية. لذلك اختلفت عمليات وضع الحروف ورسمها من فترة زمنية إلى أخرى، ومن خطاط إلى آخر.

لكن نجد مجموعة من العوامل الأخرى قد أسهمت في تشكيل هذا الاختلاف وتثبيته في المخطوط المغربي عبر الأزمنة الفائتة.

 

د. محمد البندوري - الدار البيضاء

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم