صحيفة المثقف

سياسات ترسيخ الهوية

رائد عبيسالجذور القلقة في التربة الخصبة، مفارقة الهواجس!!

تشكل هواجس الحفاظ على الهوية، الشغل الشاغل لكل من يستشعر مخاطر إزاحته من الوجود، وإبادته، وتهديده بالزوال، سواء بالطرق الناعمة او بالطرق الناقمة، كلاهما يمثلان خوف مستبطن على واقع لا يمكن حمايته أو التفكير بالسيطرة عليه، نتيجة ملمات الدهر التي تطرأ على أصحاب الهويات الفرعية أو حتى الهويات الرئيسية _ وان كنا نتحفظ على هذه التسميات التي تمثل تمحور فئوي واعتراف ضمني بمنطق قوة الأغلبية على حساب الأقليات والمكونات الأخرى _ فالقلق بات سمة جميع الهويات، لذلك نجد الأمم المتحدة تهتم بهذا الأمر، وتسعى للحفاظ على التراث غير المادي للشعوب، واعده مصدر مهم من مصادر التعرف على الهويات، قبل ابادتها أو الحفاظ عليها قبل الإبادة، فهذا السعي يمثل حالة تداركية بعد زوال ثقافات امم بأكملها ولم يتبقى منها إلا رمزيتها. وامثلتها في العالم كثيرة . أما في العراق فقد طرأت على المكونات العراقية أنماط من الشموليات الأيديولوجية والسياسية أشاعت ثقافة معينة بمنهج كلياني تحاول من خلاله مسخ الهويات الأخرى بكل مدلولاتها بنموذج متفرد من النمط الثقافي، فالسياسات التي تمارسها الأنظمة أو تمارسها المكونات هي سياسات ترسيخ ولكنها متضادات متصارعة، تحاول المكونات الاندماج دون إحداث إفراط في صبغتها الثقافية لصالح نمط ثقافي معين. فالهويات الفرعية هي هويات قلقة الجذور في بيئة صلبة وخيبة لاحتضان المكونات منذ أمد طويل في بلد مثل العراق، فالارضية التعايشية وتجربتها خصبة جداً . ما يقلقها هي السياسة وبرامج الهيمنة حتى على الألوان والنسوان والاوطان. فالاكراد مثلا كانوا ومازالوا قلقون على طبيعة عيشهم كمكون في هذا البلد، وهذا القلق يدفعهم إلى التعصب والتعنصر للغتهم الام وثقافتهم واتباع سياسة مقاومة التعريب التي تمارس بطريقة مباشرة وغير مباشرة حتى في برامج التعليم والسياحة والتجارة، اذا لم يهتموا كثيرا بتعلم اللغة العربية حتى في مدارسهم وجامعاتهم ونشاطاتهم الثقافية الأخرى، بمعنى العيش بعالم كردي مستقل يمثله له اطمئنان ذاتي على هويته وعدم اختراقها، ومثلهم في ذلك الشركس ايضا لديهم نفس الحرص بل أكثر على ثقافاتهم الذاتية الخاصة بهم .أما المسيح فقد كان هجرة بعضهم دليل آخر على. فقدان الهوية وصعوبة الحفاظ عليها في ظل الظروف التي تواجههم، حتى باتوا يخافون يفصحون عن هويتهم الحقيقية ويعلنون عن هوية بديلة سائدة، كتظاهره على أنه مسلم أو أنه داعشي بعد تجربة داعش أو تظاهره بهوية بديلة أخرى. كذلك الصابئة لهم تجربة اندماج ثقافي كبيرة ومع ذلك إلا أنهم يشعرون بحساسية طبيعة تعامل باقي المكونات مهم، وكذلك النازحين الذين أتوا إلى مناطق التهجير والملاذ في جنوب العراق أو وسطه، رغم اندماج كثير منهم في مكان الحياة الجنوبية والوسطى إلا أن كثير منهم بات قلقاً على ثقافته وعقيدته وطباعه بكونها تمثل نمطه الثقافي كالخوف من التجنيد للمعارك باقناعهم بالقتال العقائدي أو بالجهاد الديني. أو خوف بعضهم على تقاليدهم التي تتعارض مع ثوابتهم العشائرية أو العوائلية أو المناطقية. مثل ما تناقلته بعض وسائل الإعلام قبل أيام عن قيام الحشد الشعبي بالتثقيف للمذهب الشيعي بالمناطق السنية التي يسيطر عليها، عبر وسائل مختلفة بعضها المصاهرة أو ضم شباب السني للحشد الشعبي أو توفير دعم أو شراكة أو غيرها.

مثل هذه المسائل اقلقت كثير من الذين لديهم هواجس سياسات تبديل الهوية وترسيخ أخرى محلها. وهذا في الصراع الوجودي بين المكونات الثقافية العراقية التي تحاول الظهور والبروز والتعريف سواسية وبشكل متوازية بدون إغفال أحدهما وإظهار الأخرى، وهذا وجد له مصداقية من خلال بث شبكة الاعلام العراقي برامجها بل واستحداث قنوات جديدة بلغات المكونات الأخرى كالكردية أو التركمانية أو السريانية. وهذا الكلام لا يشمل اللغة فحسب، بل يشمل كل أنماط الثقافات الأخرى صغيرها وكبيرها، فمخاوفة العولمة على الهويات الكبرى ايضا يمثل هاجس بالنسبة للعرب وخوفهم على تدهورها بكونها تعبر عن هويتهم بشكل واضح من اللغات الدخيلة ومزاوجة الناس لأكثر من لغة أثناء الحديث، فضلا عن الهوية الدينية أو العشائرية وغيرها والتي تأثرت بالانفتاح والتواصليات المعاصرة، كذلك السياحة والتعلم والتجارة وغيرها.

ما يجب أن يفهم هو أن الهويات الفرعية ليست هويات بدون جذور، ووجود مثل هذه الهويات في بيئة عامة لا تمثل لها قلق يجب أن تظهر انفعالياته في علاقتك بالآخرين والتفكير بالانفصال أو الانشقاق أو التفكير بالنعزالية أو الانسلاخ عن الوطن، فمثل هذه الإجراءات تمثل قلق وجودي حقيقي ومحاولة تعليل كل سلوك على أنه سياسة متبعة للإبادة والاقصاء من الفضاء الوطني، وما يترتب على هذا القلق هو المطالبة بمناصب او مواقع تشعرهم بوجودهم، فالثقافة مع هذه الهواجس لم تعد ذو أهمية، مع أن أهمية هذه المواقع متأتيه منها ! وهذه هي المفارقة في مطالبات بعض أفراد هذه الهويات من الحكومة، فحتى الديمقراطية لم يعد النظام المناسب لأثبات الذات والتعبير عن الوجود بثقة عالية تتكلم عن الهوية بكونها هوية راسخة في وعي الأمة والبلد والتاريخ والأجيال.

ومع هذا القلق لم يرَ التربية التي عاشوا بها على أنها تلك التربة الخصبة التي انبتتهم وانشاتهم وعززت وجودهم، لا بل باتت وحل عليهم يركسون فيه كلما وجدوا أنفسهم غير قادرين على مشاركة الآخرين هموم الوطن أو المصالح أو المكاسب الناجزة كحق مكوناتي لهم، مثل حقهم في المناصب النيابية مثلا او كحق النساء في الكوته، فالقلق بجذوره الهوياتية يبقى يبحث عن كوته مكوناتية، لقول وفعل المشاركة.بهذا القول نجد أن فكرة الإبادة الثقافية حاضرة في ذهنية القلق على طبيعة وجودة وطريقة التعريف بنفسه وسط هذا التزاحم على الساحة الاعلامية والثقافية، وصراع اثبات الذات على حساب الآخرين.

فالأحرى بنا أن نعمل على تعزيز إيماننا بتجربتنا التاريخية بالتعايش وترسيخ الهوية في وعي الأمة ومبدا المواطنة الذي يُتيح فرصة الاطمئنان على واقعنا ومستقبل أجيالنا ووعيهم بحدود المواطنة_ التي تحدد خارطة العراق_ عبر التواصل والتفاعل والاندماج الثقافي، الذي يزيل فكرة الاستبدال الثقافي بين المكونات أحدهما على الأخرى باستغلال ظروفهم في التهجير والنزوح وظروف العمل وغيرها، وان كان هذا يحدث فهو لا يعبر عن رغبة مجتمع بل يعبر عن نزعات ايديولوجية أو سياسية أو إجتماعية أو ثقافية بين الأوساط المتصارعة والمتنازعة سلطوياً لأجل اختزال الجميع بنمط واحد، فالقلق عادة ما يترتب عليه تصورات غير واقعية، تفقدنا مقومات وجودنا وتربتنا الخصبة التي نشأت عليها والتي تحتضن جذورنا بقوة، وترتفع بها كل هواجس الخوف من الأصل.

 

دكتور / رائد عبيس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم