صحيفة المثقف

استعارة البداية كمشاركة النهاية.. الحداثة التي لم تجد طريقاً لنفسها بعد

رائد عبيسثمة تشابه كبير بين البشر، منه ما يتعلق بالفعل ومنه ما يتعلق بالقول ومنه ما يتعلق بالتجربة، والتجارب البشرية كثيرة وكبيرة في مجالات الحياة المختلفة، منه ما هو قريب منا ومنه ما هو بعيد عنا، ومنه ما يستعار بتجارب المناقلة المباشرة وغير المباشرة، وأساليب كتابة أو فعل أو سياسة المهم هناك وسائل تمكننا من تحقيق الاستعارة المقصودة لأي تجربة بشرية .

هناك مقاربة بين تجربة الشعوب الأوربية، وهو الشعب الذي نقرأ تاريخه أكثير ما نقرأ غيره فكرياً وتاريخياً وسياسياً، وهذا مكننا من امتلاك وعي تجاه هذه الشعوب وتجاربها في مجلات مختلفة، ومنها تجربة البداية التي بدأت تظهر عندهم بالتنوير، والحداثة الفكرية، وأساليب العيش، ومغادرة المألوف القروسطي ووجود بدايات الانفتاح الاجتماعي، والتجارب السياسية والديمقراطية، والليبرالية، والاشتراكية، والقومية وغيرها.

 فكرة استعادة مثل هذه التجارب جعلت من مجتمعاتنا مجتمعات مُستغفلة؛ لان هناك سرعة في نقل كثير من أنماطها، بطريقة المباغتة، والمداهمة، والمفاجئة التي صدمت شعوبنا العربية والإسلامية الى حد الذهول، و مازلنا نعيش حقيقة هذه الصدمة التي ابهرت حتى الشعوب المعار منها، ولكن يا ترى هل اعارتنا كل ما هو إيجابي؟ وما معيار الإيجابية عندي وعندك؟ وما الذي يستحق الإعارة فعلا؟ وما هو المعيار في المفاضلة بين الأشياء التي نفكر بإعارتها؟ هذه المعايير يحددها البعد السياسي من سياسة الإعارة، بين سياسة البلدان المـُعيرة، وبين سياسة البلدان المستعيرة، هناك بلدان تحدد معايير عناصر الحداثة، تبعا لما يحمي سياستها من مجتمعها، وهناك من يحدد معايير الإعارة تبعا لمقومات دينية، وهناك من يحددها تبعا لمقومات أخلاقية، وهناك من يحددها تبعا لمعايير اجتماعية، وهناك من يحددها تبعا لعوامل ثقافية، أو علمية، وهناك من يحددها تبعا لعوامل اقتصادية، وهناك من يحددها تبعا لعوامل فكرية، وهناك من يحددها تبعا لعوامل بيئية ومناخية وطبيعة وغيرها.

بمعنى هناك سياسة خلف كل شيء، ولكن ماذا عن ما يتسرب من السياسة وتخترقه التكنولوجيا؟! ولاسيما بعد الثورة المعلوماتية والانترنت و التواصليات . هل بقي بعد هذه الثورة الرقمية شيء لا يمكن مناقلته أو جعله نمط آخر للاستعارة؟ نعم، هناك أشياء كثيرة، ولكن ما تناقلته بسهولة، هو أنماط العيش، وسلوكياته، من ملبس، ومشرب، وكماليات حياتية كثيرة، فكل هذه الأنماط بدأت تنتقل عبر التوصيل المجاني أو التوصيل الكوني عبر الأثير، أو عبر البر، أو عبر البحار، أو عبر البريد الالكتروني، المهم هناك من يساعد على تحقيق ذلك. والأهم هو خلق جيل جديد من الموضة الحداثية في مجتمعات مغفلة، وخاملة، ونائمة، ايقظها صياح الغرباء في بيئة الأهل والاقرباء.

هذا ما حدث، صيحة الحداثة التي أيقظت أجيال كانت في سبات وجودي، ونوم كئيب وصمت جهل مطبق.

هل تكفي هذه الصيحة لفهم اخر لحياة المستقبل، هل استشعرنا بداية الآخرين حتى ندرك نهايتهم التي نشاركهم بها؟ وهي نهاية بدأ الحديث عنها فلسفيا، في فلسفات مختلفة، مثل الحديث عن نهاية التاريخ، أو الحديث عن نهاية الدولة، أو الحديث عن نهاية الفلسفة، أو نهاية عصر الأيديولوجية، أو نهاية المجتمع، أو نهاية الكون، أو غيرها من النهايات المحتملة، مع هذا الحديث المتشائم بدأ حديث آخر يتحدث عن التجاوزات، أو الما بعديات، أو الماورائيات الواقعية، وليس الميتافيزيقية، هل علينا بعد هذا الحديث أن نتحدث عن نهايات لنا جديدة أو تجاوزات لواقعنا مثلما تجاوزا ذلك؟ هل علينا أن نفعل مثل ما فعلوا حتى نؤكد حقيقة الإستعارة ؟ هل نعلم اننا كلما نستعير منهم شيء يعني أننا سوف نشاركهم نهايته؟! لان الشعوب تتجه نحو انفتاح مخيف، انفتاح صوب عوالم مجهولة من العلاقات الاجتماعية التي دعت فلاسفة مثل هابرماس يتحدث عن مفهوم المواطنة الكونية، أو حتى فكرة العولمة التي هي تجسيد واقعي لحجم الاستعارة بين الشعوب، والحضارات، والمدنيات من تكنولوجيا و اخلاقها . هل نعلم حجم الخطورة من كثرة الاستعارة الباهتة لكل شيء، هل نعلم بأن استعارة الأخلاق يعني هناك تبدل هوياتي سوف يطرأ اذا لم يكن واقع فعلاً .

متى ندرك بأن كل استعارة بقابلها مرارة، في توظيف الفكر واستعداد الواقع، هل معرفتنا بقيم الاستعارة كفيل بتحصين أنفسنا من الضياع مع المستعار، ما يمكن أن يلحق الضرر بالمجتمع بشكل كبير هو أن نعير هويتنا بدل المعار أو ثروتنا أو ارضنا ووطننا أو غيرها من الثوابت، فكرة إقناع المــُعير بطلب الاستعارة باتت ثقافة في البلدان النامية، ومخاطبتها للدول المتطورة، واستجداءها عبر نظرية تبادل المصالح، فهل الاستعارة كفيلة بالاستغناء التام؟ هل استعارة لمرة واحدة كفيلة بقدرتنا بإيجاد البديل؟ المشكلة الكبيرة في مجتمعاتنا العربية لم تكتفي بالاستعارة بل بات الرهان هو أكبر القضايا خطورة على مجتمعاتنا، رهن الثروات، ورهن الطاقات البشرية ورهن السياسات، والقرارات ولكل شيء من أجل الحفاظ على السلطة!

وهذا الحفاظ المبدد لكل ثروات وخيرات وطاقات بلداننا جعل فكرة وهواجس المشاركة بالكارثة وشيكة واكيدة، لأننا فقدنا قدرتنا على الصمود وتابعنا سياسة الاستعارات والمواكبة التي لا تحسن استثمار طاقات شعوبنا العربية، في تقديم تجربة جديدة للبناء، واحداث الحداثة الذاتية بدل الاستعارة وبدايتها التي تنتهي إلى نهاية متشاركة مع المعار منه، وبهذا اصبحت مخاطر المشاركة في النهاية كمخاطر الاستعارة في البداية.

 

دكتور رائد عبيس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم