صحيفة المثقف

تاريخ التحالف مع التخلف

رائد عبيسوالحداثة التي لم تجد طريقا لنفسها بعد

ثمة علاقة بين التاريخ والتخلف لا احد يعرفها ويعرفه، الا من كان سبباً في وجود تحالف بينهما، اكتشافنا لهذه العلاقة يترك اثر سيء في علاقة المجتمع مع بعضه، لان المجتمع عادة ما يحمل الاثنين معا، يحمل تاريخ هو جزء منه،ويحمل تخلف لا يرضى بفك علاقته منه، هذه في نظر الناقد مفارقة ولكنها في الحقيقة متلازمة، يعني اننا بحاجة إلى مُعالج حتى يلغي هذه العلاقة التي أصبحت مقدسة عند من قدسها، هذه الرابطة بين التاريخ وتخلفه والمتحالفين معه، ليس بجديدة بل هي قديمة وعتيدة، صَبرنا على هذه العلاقة سيفقدنا الطاقة عاجلا ام آجلا، بطريقة الثورة أو بسياسة الانحدار المنتظر عند بعض حلفاء الأقدار، الذين كثيرا ما يفسروا تحالفهم التاريخي مع التخلف على أنه قدر محتوم،وكتاب مختوم، وأمر معلوم، ربما قرأتهم للتاريخ بطريقة متخلفة هي التي جعلتهم يشعرون أن بينهم وبين التخلف قرابة، سواء كانت بالمصاهرة أو بالمصادرة، فمصادرة التاريخ لوعي الأمة تحت عنوان صلة الرحم باتت سنة تاريخية عند اقرباءه وحلفاء، فهم يؤسسون لتلك الرابطة بطريقة التقديس التاريخي لها، بل ألبست ثوب القداسة الدينية عند بعضهم، فاصبح الحكم مرهون بالتجربة الأولى السيد يبقى سيد والعبد يبقى عبد، هذه السنة التاريخية جعلت من الارتهان لأحداثه أمر معتاد ومقبول بالفعل والقول، فتحالف سيدنا مع تاريخه يحتم علينا أن لا نقرأه لأنه اختراق للسيادة ونظام الطاعة، فالتاريخ لا يُقرأ ما دام عقيدة، يجب ان يُصدق وَيُصادق بل ويصبح حليف ! هذه التجربة جعلت من تاريخنا المسموع لا المقروء، هو من يفرض رهاناته على مجتمع صامت يستمع بحكمهِ وأقواله دون جدال أو تغير حال، فحالنا هو ما أعتدنا عليه لا أن يعتاد علينا، وبهذا نعطيه فرصة نكون قد أكرمناه بها ليتولى أمرانا قرون جديدة أخرى.

 هكذا توصي الأجيال أبناءها، الزموا الصمت و استمعوا، فإن نطق الحاكم نطق التاريخ، وله أن يتحالف مع ما شاء، فله أن يختار حتى الغباء، غير مهم ايها الابناء بل علينا الشكر والثناء لصاحب الجلالة الذي يحكمنا بدون كلالة! اكثروا من الصمت، اسمعوا للتاريخ، فإن حكمه لا تزيدكم حكمة ولا تطلعكم على شيء !! التزموا الصمت وأكثروا من الأطراق في الارض فإن التاريخ سينبت لكم بها ما تشبعون به بطونكم ودعوا عقولكم و أنصتوا جيدا.

هذه اخر حكمة سمعتها بوعي من آخر جاهل تحالف مع التاريخ وأخذ منه تخلفه! فالمجتمع هنا يسمع بآذان واحدة، ويرى بعيون مليئة بالدموع وكأنه معشي بالنهار، أما الأفواه فلا تنادي الا بالخبر.

اذاً هناك قوة تاريخية تحكم مجتمعنا و ليس القوى الاجتماعية هي من تَحكمه، فقوى مجتمعاتنا معطلة بفعل التأثير الروحي للتأريخ . والذي يقع على المثقف مهمة نقد هذه القوة ان كانت سلبية، وهي بالتأكيد تمتلك ذلك الأثر المدمر على حياة المجتمع، أما فكرة توظيف الطاقة الايجابية فيه، فهي تبقى رهينة الرغبة اللا ارادية المجتمع في تحقيق ذلك .

والتي يجب ان تكتشف على عيد النخب المثقفة، وتخطط على أساسها للمستقبل، فمستقبل المجتمع أكبر من مستقبل الفرد وهو متضمن فيه،اذ لا تخطيط فردي لمستقبل ناجح اذا كان المجتمع جارف، فالمجتمع الجارف لأحلام ابناءه هو مجتمع منحل قيمياً ولأنه لم يجد من يقف ويسبح أمام تيار ذلك الانجراف والانحراف ومكوناتهما السلبية على واقع الحياة الاجتماعية.

فالتماهي مع التاريخ هو صفة المجتمع المنغلق على أفكار الذاكرة السلبية لهذا التاريخ، والتقوقع على أفكاره المتمحورة حول قضية الحدث و حدث القضية التي أرادت أن تحوله على سبيل هذا الارتهان الى عقيدة ومعرفة وتاريخ وهوية، وعندما تنجمع كل هذه المفاهيم متحالفة مع تاريخ يتصف في فحواه بالتخلف، عندها ندرك ان هذا المجتمع بحاجة إلى صدمة قاسية لإخراجه من تاريخه الغير واعي . وهذا اللاوعي يتناقل عبر ذاكرة الأجيال ويتمثل حتى في سلوك العادي للفرد في المجاملات والعلاقات الاجتماعية والملبس والتحرك لأرضا المجتمع والمواكبة لحركته التقليدية البائسة التي تتمثل حتى بمواعيد النوم، والخروج من البيت، والسفر، والتفاعل مع المجتمع، على أساس هذه الاعتياد بما اعتاد عليه، الذي يمثل حالة استسلام واضحة لما يصنعه التاريخ بالمجتمع .

واذا كان الفرد لا هم له الا بإرضاء من اضطر على تقلديهم، والرجوع معهم صوب الذاكرة الجمعية، لأعراف العائلة، او العشيرة، او المنطقة السكنية، او الاجتماعية، فعندها يفقد قدرته على تحريك أي ساكن، وهذا هو الاختزال المميت،الذي يختزل الفرد به ذاته ليكون كما يريد المجتمع، لا كما يريد أن يكون حالة فردية، بل حالة تشاركية مقيتة.

أي دور للمجتمع في صناعة التاريخ ؟ وأي تاريخ يتحكم في المجتمع ؟ واي أرادة ممكن لها أن تتحكم بالتاريخ والمجتمع معا ؟

نعتقد أنها إرادة المثقف الواعي الناقد، العارف بمكامن القوة والضعف في هذا المجتمع، المتطلع الى تطويره لا الى تسخيره، الراغب بتكوينه لا تلوينه، هذه هي الارادة الوطنية في فعل التغيير المستبطن في وعي الناقد .لا سيما بعد أن يدرك أن مجتمعه يقف حجر عثرة بوجه التنوير، وان ارتهانه للتاريخ مثل وحل ركست به كل طموحات التغيير وتحقيق المصير، وإن الحداثة التي يتتوق إليها لمواكبتها مثلت له مفاتيح جديدة لتكوين تجاوزات محددة عن راهنية التاريخ السالبة لأرادته، فالفرد بمثل هذا المجتمع الذي منح إرادته للتاريخ من قبل، منحها باللاشعور مجددا ً الى مجريات الحداثة التي كانت له بديل جديد عن تلك الراهنية ؛ لأنه تقمص الأثنين معا. بدون وعي ورغبة.

فالتحالف مع تاريخ اللاوعي أستثمر سياسياً من واقع الأمة، وكذلك استثمر اقتصاديا،واجتماعيا، وتربويا، وعسكرياً، عندما كانت الشعوب ومازالت تساق للحروب لإرضاء طموح الحاكم بالنصر، فبدل الرجوع بندب من خلفتهم الحرب، يرجعون بأهازيج النصر التي تزف للحاكم،وهذا مثال ليكون مصداق لكل مجالات هيمنة الحاكم وطاعة المحكوم.

فنحن نرى أن هذه عثرات أمام خطوة تملك أي وعي حداثوي مازال يبحث له عن طريق في وعي المواطن العربي والمسلم والذي تسرب من أفكار مثقفيه و ناقديه، ومن يملك الوعي بتجاوز كل هذه الآفات التي ساعدت على التحالف مع التخلف تاريخياً.

 

دكتور رائد عبيس

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم