صحيفة المثقف

مطعم علاء الدين

قصي الشيخ عسكرفي مطعم "علاء الدين" بدأت حياة جديدة  إذ بعد يومين من لقائنا زارني السيد وضاح الى البانسيون،ورتب لي وضعي الجديد.. الإقامة.. الشغل، واقترح علي أن أسجل في مركز قريب للغة باشرت الدوام فيه من الثامنة حتى الثانية عشرة...

وأكثر ما ارتحت إليه أنه تعامل معي بطيبة وعفوية..كان يتكلم بصراحة عن نفسه  وفترة شبابه.الطيش الذي عاشه اكتشف زيفه بعد هربه إلى موسكو..وعلى الرغم من أن غيري قد يجد مبالغة فيما يقوله إلا أني صدقت أقواله إذ لم أجد  أي مسوّغ  لأن يكذب حتى أني من كثرة ماحدثني عن مشاداته في العراق ظننت الجرح الغائر على أرنبة أنفه نتيجة لعراك ما لولا أنه ذكر لي أن ما أراه في وجهه هو نقرة من ديك اندفع ليلتقط رطوبة المخاط من على أنفه عندما كان في سنته الثالثة. غير أن أكثر المشاهد التي يفخر بها والتي أعادها على مسامعي أكثر من مرة وربما ذكرها لغيري ذلك الحادث الذي أوسع به وزير الخارجية الحالي لكما في المدرسة المركزية وازداد اندفاعه حين وجد المدير يحاسبه على فعله فرفع رحلة الجلوس ليضربه بهاوكاد يفصل لولا الواسطة التي أنقذته فتم نقله من المركزية إلى المدرسة الجعفرية حيث أكمل البكالوريا..كان هذا أول شجار له مع البعث.. وآخر مرة استخدم عضلاته هنا في كوبنهاغن يوم حاول أحد المهاجرين وآخر دنماركي أن يساوموه على رشوة .. ضريبة .. راقبا المطعم وطلبا مبلغا كل شهر فلقيا منه تأديبا لم يجرؤا بعده على المرور من الشارع..

كان جسمه وطوله يؤكد عنفه..

لكنه لم يعد بحاجة إلى العنف، وقبضة اليد، والعراك بعد أن مرت عليه أشهر هنا..السلام نعمة نفقدها في بلداننا. نكون ،ونحن غاضبون، أشبه بالحيوان الهائج.. ولعلني أتكيف لهذه الحالة الناعمة بمرور الوقت إذ أن رحلتي تشبه رحلته تماما لكن بصيغة أخرى ... أما أنا فعلي أن أحمد أولئك الذين رموني خارج الحدود..في وضح النهار..بدلا من أن أهرب إلى موسكو ثم بولندا فكوبنهاغن..بل  قال لي المفوض مع عدد من الناس هذه الشلامجة .. تلك هي إيران.. إذهبوا.. ذاك بلدكم.. سنين تأكلون من خيرات العراق  وتنكرون الجميل.. أيها الجاحدون..حسنا فعل ..وإلا لكنت الآن أمارس عنفا من نوع آخر..

أعيش جحيما ثانيا لا أعرف منى ينتهي وقد أحترق قبل أن يتوقف!

كوبنهاغن هي التي جمعت الهارب والمطرود، ومما جعله يهتم بي أني فكرت بالعمل أكثر من أي شيء، وضاح قدم عام 1965 من بولندا مع بضعة عراقيين رافقتهم عقدة الدراسة..هناك من أصبح طبيبا، ومن صار مهندسا،وأحدهم عمل في سكة الحديد، وآخر مترجما .. لم نزد عن سبعة أنا الوحيد من بينهم أصبحت مليونيرا.. من يصدق أن أستاذا جامعيا وطبيبا يمكن أن يستلف مني!أنا أيضا أحمد بلوط يمكن أن أتعلم اللغة مدة سنة، وأصادق فتاة.. الصداقة تعلم.. مازلت شابا والطريق أمامي.. في المستقبل أستطيع بعد الخبرة والمال أن أفتح مطعما خاصا بي.. الشغل المناسب لنا نحن الأجانب،وفق رأي وضاح، المطاعم ومحلات الخضرة، نقود كثيرة ومكاسب..المهم أن لا نترك الضرائب تأكلنا وبعد عقد من الآن تزداد خبرتي فأصبح صاحب محل..

هذا في الظاهر ، فكيف أدرك مما في الخفاء.

رجل بدا ألوفا ودودا صريحا.. رسم لي مستقبلا هائلا..تحولت معه من عامل إلى مالك.. صاحب محل.. ولم أكن وقتها أفكر بالزواج لا من دانة أو أية فتاة أخرى..

صحيح أني أشعر معها براحة تامة، وأرى فيها عفوية وبراءة.. خلال الساعات التي نقضيها معا أني لا أحسّ بالتعب... تغمرني راحة لوجودها من الساعة الواحدة وقت مغادرة السيدة شارلوتة إلى السادسة حيث تتركني دانة مع وضاح.. كانت لفحة الحرارة خلف السيخ تكاد تلسع وجهي، فأطل نحوها أو أنسى لهب النار متشاغلا بضجة تأتي إلي من مدينة الألعاب ، ولعل صوت قطار يئز من محطة الأستر بورت.. حرارة نار أتجاهلها بصوت ألعاب وحشرجة قطار قريب أو بلفتة إلى " دانا".. هذا كل ما في الأمر كأن العالم كله لايعنيني إذ ذاك فكرت أن أصرف النظر عنها. مازلت جديدا في شغلي، والسيد وضاح وضع ثقته فيّ.. أحتاج إلى فتاة .. حرية.. جنس.. قبلات في الشارع ، شقراوات يتأبطن سودا.. عشيق يلعب بردفي صديقته..أنا يمكن أن أحصل على شيء لكني لا أرغب في أن أتجاوز على عاملة في المطعم.. فقد تتزعزع ثقة وضاح بي وبذلك يتزعزع مستقبلي كلهّ!

حتى جاءت تلك الليلة فنطقت عما يجول بخاطر السيدوضاح...

مقدمة لمعنى آخر غامض فاتني أن ألتقطه في حينه..

كنت أنهيت ترتيب الكراسي والطاولات، وفرغت من تنظيف الأرضية ثم بدأت أغلق الباب إلى المنتصف، وكان من عادة وضاح أنه بعد أن أجعل الباب المطل على مدينة الألعاب يهبط إلى النصف،وأطفيء معظم الأضواء، ء يبدأ يراجع الحسابات، ويتلاعب بالماكنة، وغالبا ماكان يدندن بأغنية قديمة،أغنية وحيدة  سمعتها أول يوم نزلت فيه القبو وأكاد اسمعها منه كل ليلة لكنه هذه المرة بدأ يغنيها بصوته:

داده جميل اشبدلك

يفتر عكس شغل الفلك

داده جميل شبدلك

الله صوتك جميل ...

تلك الليلة حين انتهى من المقطع،التفت إليّ قائلا:

هذا الشيء الوحيد الذي بقي عالقا في ذاكرتي من العراق!

صوتك جميل

مجاملة ..

أبدا ياسيدي جميل والله جميل.. كان بإمكانك أن تسأل غيري !

كنت أعشق المقام العراقي وأتفنن فيه .. القبانجي ، حسن خيوكه.. الغزالي..

كان بإمكانك أن تصبح مطربا أليس كذلك؟

فاتسعت دهشته عن ابتسامة:

الرفاق أنفسهم  توقعوا أن أكون مطربا فيما لو سارت الأمور على خير مايرام لكن تعرف السياسة وانشغالي بهتافات أيام زمان!

وعاد إلى الغناء ثانية ،ثم توقف فجأة وسألني:

هل أنت مرتاح مع دانا؟

فتاة رائعة تعلمت منها بعض الطبخات الغربية." وزادني سؤاله فضولا، فقلت ": اسمها لطيف يشبه الأسماء العربية.

هذه الفتاة أبوها أصله من تونس قدم إلى بولندا يدرس ، كان شريكي في مطعم أسسته في بولندا

هل هو متوفى؟

لا نذل .. رجع إلى تونس حالما انتهت مدة إيفاده وكانت أمها حاملا بها!

مع من تسكن!

أمها ماتت بسرطان الثدي قبل عامين وهي تسكن وحدها في الشقة نفسها!

وسكت فتطلع إليّ ، ونظر بابتسامة ماكرة، فقلت :

هل نذهب الآن!

لاتكن أبله ، سنذهب ، أحدثك عن فتاة عمرها 18 عاما ليس عندها صديق، وتحدثني عن الذهاب، طول فترة العصر وحدكما ولا تعرف كيف تحصل منها على موعد!

كنت اظن لها صديقا!

لا أبدا . قد تكون صادقت شابا ما شأنها شأن المراهقات قبل بلوغ السن القانونيّ. أسبوع.. فترة ثم انفصلا ليس ببعيد لكن الآن لا..

الحقيقة فكرت في الأمر لكني حسبت حسابك. قلت يمكن تعدني ..

وقبل أن أكمل عض على أسنانه وقال مقاطعا:

لا تكن أبله..  ماعلاقتي أنا..كن شاطرا قبل أن يأتي أشطر منك ويأخذ اللقمة من فمك!

حسنا مادام هذا رأيك سأحاول معها غدا

فهز رأسه، وقال باهتمام بالغ:

إسمع لاتندفع أكثر، أنا لو استشرتني لاقترحت عليك أن تدعوها في يوم عطلتك إلى القبة السماوية،عالم بهر حقا!

حسنا ليكن مثلما تقول!

4

هي كوبنهاغن التي كانت في البدء قبل كل المدن الأخرى كفاتنة تفتح ذراعيها لعاشق ظمآن..كانت نكهة القبة السماوية مازالت تداعب عيني...رأيتها عن بعد وقرب وفكرت أن أدخلها أحد الأيام..طعم آخر من الألوان والصور أبصرته للمرة الأولى في حياتي.. جاءني من خلال فرقعة  أقراص الفلافل في الزيت الحار :

مارأيك أن نذهب في يوم الاستراحة إلى مكان ما؟

ابتسمت، وهي تلوك أحد الأقراص، وانصرفت تحضر قطع الكوتوليت:

هل زرت القبة السماوية من قبل؟

سمعت بها للمرة الأولى في البصرة قيل إن في الجامعة قبة يمكن أن أرى من خلالها النجوم،ولا أظن أن السيد وضاح أقترح أن تكون أول مكان للقائنا مصادفة:

لا سمعت عنها فقط وعن النجوم.

هناك فلم روسي عن الفضاء، وهبوط الإنسان على سطح القمر.

المركبة الروسية نقلتني إلى الفضاء كنت على الأرض دقائق معدودة.. قابلت في الغابة نمورا وفيلا وبعض أفاع عملاقة تلتهم غزلان بريئة ثم سرعان ما انقلبت إلى الفضاء.. وبقي علي أن أنسى الشرق، الفلافل، الشاورما، الكباب.. الدنماركيون أنفسهم يعجبهم المطعم الشرقي.. رائحة الفلافل تحيطني،هربت حقا ولم أنس..هي ذا آسيا .. حرب بين العراق وإيران... سريلانكا.. التاميل.. فلسطين... لبنان.. وجوه شرقية جديدة منها وجهي يظهر في شوارع كوبنهاغن، ووجبات من إيران وتركيا ولبنان تعرّف نفسها، رائحتها أخذت تفوح  في كوبنهاغن..اجتزت أمس شارع النورو برو فرأيت قشعريرة تعتري أرصفته.. ها نحن في عام 1981 ولم يكن من محل شرقي فيه سوى مجزرة الحاج شعيبي.. الدنماركيون يحاولون أن يذكروا الشرق، وأنا أتجاهل.. إذ لم أعد ذلك المطرود من بلد ظنه بلده إلى وطن آخر أنكره..لكن هناك من أفنى عمره  أدى الخدمة العسكرية وغنى بحماس: موطني .. الجمال والجلال ..في رباك.. والحياة والنجاة..أنا نفسي لا أصدق.. كانت هناك مدرسة تعلمت فيها.. أطللت منها على الدنيا.. مدرسة الجمهورية الإبتدائية..معلمون طافوا بذهني مازالت أسماؤهم عالقة في خيالي:أستاذ حميد معلم اللغة الإنكليزية،أستاذ عواد أبو العلوم،علي معلم التاريخ، أغاني الصباح: بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان ..لغتنا لغة القرآن لغة الضاد هذا الحرف لا يسكن إلا بلادنا وألسنتنا.. النبي يا أولاد يقول أنا عربي والقرآن ولغة أهل الجنة.. هناك في الجنة نحن الأولاد لانتعلم أية لغة أخرى.. الإنكليزية صعبة..لغة واحدة..أصدقاء طفولة مازلت أذكر اسماء عدد منهم..ومن بعد الإعدادية المركزية..والمقهى الشعبي في محلتنا..مباريات كرة القدم التي نذوب في حماستها.. دائما نشجع الفريق العراقي..نتحمس ليفوز على الكويت..المعلق الكويتي وعقدة الكرة التي تابى أن تهزّ الشباك..أرغب أن يحقق الفريق نصرا على الفريق الإيراني والسوري وفريق كوريا كي يترشح لكأس العالم..كل تلك المشاعر والصور الأحاسيس تلاشت. أخيرا قيل له أنت غير عراقي ..لا علاقة لي بالعراق..  البلد المجاور هو بلدك . عائلتنا توزعت كما يوزع القصاب جثة خروف..أما أنا فلا ضير علي ّسوف أصبح بعد أعوام قليلة مواطنا.. أنتمي لبلد .. آخر مكالمة لي مع أخي في الكويت علمت منه أنّه بدأ يصفي تجارته في الكويت .. اشترى للعجوزين بيتا في كوجة مروي.. قلت له لماذا لاتفعل مثلما فعلت أنا  أو " آمال" فتجاهل سؤالي وطلب مني أن أبعث له رسالة فيها عنوان ثابت حتى يراسلني إذا ما استقر في إيران.. فذهبت إلى البريد اليوم بعد أن انتهيت من ساعات اللغة وكتبت له رسالة دونت فيها عنوان المطعم.. لكن يبدو أن ذلك الجواب الذي أنتظره من أهلي لن يصل إلي قط

"دانا " اليوم بعثت رسالة لعلني أعرف عنوان أهلي في إيران

ففالتفتت إليّ وقالت بأسف:

آمل أن تجدهم في يوم ما !

أتظنين ذلك؟

إنس كل شيء الآن اترك التفكير وهواجسك، نحن في عالم يريح الأعصاب !

ليس ببعيد أن أذهب إلى الشرق بصحبة "دانا" مجرد زيارة..من يدري هل كنت توقع في يوم من الأيام أن أهبط في كوبنهاغن مثل آدم الذي فوجيء بطرده من الجنة ليتعلم لغة أخرى قبل أن يعود مرة أخرى فيجد لغته الأولى بانتظاره وكل ما درسه لم يعد يغنيه ،إذاً عليّ أن أفعل مثل وضاح الذي لخص البلد والوطن بمقطع من أغنية كلاسيكية قديمة راح يدندن به كل ليلة، فماذا أفعل الآن سوى أن أحدق بعتمة النجوم والأفلاك فوق رأسي :

ألبس النظارة أفضل

أرتديتها وكنت أرى كاكارين، والمركبة الفضائية، وعالمة الفضاء تستقر في المركبة وحدها في الفضاء أ ياما وشهورا، اختلست نظرة من دون نظارة إلى الشاشة  والتفت إلى "دانا" وعدت أغطي عيني من جديد،في تلك الليلة لم أتجاوز حدودي إذ لم يفتني أن اللقاء تم بترتيب من قبل السيد وضاح.. كان يريد للموضوع أن يسير بهذا الشكل وعندما انتهى عرض الفلم سرنا باتجاه شقتها .. اجتزنا طرف البحيرة  متجهين نحو شارع المشي حين سألتها:

كم مر عليك من الوقت في المحل؟

عامين!

مرتاحة مع السيد وضاح؟

رجل نبيل أعده مثل أبي فقد ساعدنا كثيرا أنا وأمي!

وزوجته أيضا طيبة!

أنها تعدني مثل ابنتها

كشف خواطر.. جس نبض لأسمه ماشئت.. المهم أن أتحدث معها وإن كنت لم أتمكن بعد من الحوار غير أني سأحاول أن أجمع ما تعلمته في المدرسة.. أخلط الدنماكية بالإنكليزية:

ولدت هنا؟

في وارشو ابي من تونس كان شريك السيد وضاح في مطعم بوارشو ترك أمي وأنا في بطنها حالما أتم دراسته، وبعد عامين من ولادتي صفت أمي المطعم هناك وقدمت إلى كوبنهاغن!

بعد بضعة أيام على اللقاء،وبعد الدندنة المعتادة آخر الليل،وخلال تسوية الكهرباء،بدأت الحديث هذه المرة. قلت كأني أستطلع رأيه في لقائنا:

كان الشريط عن الفضاء رائعا!

أووه رأيت مثله في سينمات موسكو حتى مللت!" غير موضوع الحديث فجأة كأنه كان ينتظر كلامي فهو إلى هذه الحظة لم يسألني عن موعد ثان مع دانه مع أني رأيت انطباعا ما على وجه زوجته حتى بدت " شارلوته" أكثر حنانا في اليوم التالي لذلك اللقاء:

المهم ليس الشريط..الشريط وسيلة ..المهم أنت كيف تفرض شخصيتك عليها كيف تتعامل عليك أن تفكر في الخطوة القادمة!

كانت مرتاحة جدا،وسعيدة..

طيب مادام الأمر كذلك لدي اقتراح أظنها توافق عليه يبقى الأمر لك!

خيرا؟

هل أنت مرتاح بالبانسيون.

ليست هناك من راحة تامة فأنا،على الرغم من الهدوء أشعر أن هناك شخصا أو أشخاصا يعرفون متى أخرج ومتى أعود...

لدي حل إذا كنت جادا في البحث عن سكن صديقتك.. زميلتك في العمل أي صفة يحلو لك أن تطلقها عليها لديها غرفة زائدة عن الحاجة مارأيك أن تسكن معها .. تدفع لها إيجارا.. سألتني منذ مدة عن أنها تفكر بإيجار الغرفة لفتاة..

وهل توافق؟

لا أظنها ترد طلبي." وضحك ضحكة ساخرة" حجر  تحرك.. أنت في النعيم..

توكل على الله لا تكن أثول كلمها أو أكلمها أنا؟

5

لم تكن لي علاقة مع أية فتاة قبل انتقالي للعيش مع " دانا" في شقتها. هكذا وجدتني في كوبنهاغن، وما كنت أراه بعيدا أصبح قريبا..هناك انتماء جديد .. عائلة .. أسرة عوضتني عن أسرة منعتني منها ظروف أقوى من إرادتي..أقول هذا الكلام في هذه اللحظة يوم كنت مثل ماكنة الكهرباء .. أو حاسبة المبيعات .. الدم الآن يغلي في عروقي .. الغضب وحده يتحكّم بي..كانت الأيام تبدو مشرقة ذهبية في يوم يعفره القتام والضباب، وإن طال نهاره في الصيف بالشمس فطوله البارد الضعيف البطيء يشعرك بالكآبة..

إني لست وحدي..

معي شابة لم تصل العقد العشرين من عمرها..فاتنة رائعة أحاسيسها كلها معي ..لم أعد أحترق حين أرى الظهور العارية في الصيف، والصدور،والسيقان وأفكر بالمراقص والملاهي . كل ما أراه في الشارع أو أسمع به أجده عندي في الشقة..فقد منحتني "دانا "الحب والحنان.. عوضتني عن عائلة انتزعت منها حتى لم أعد أفكر بعنوان أهلي الحالي..قلت في نفسي لعل الأمور تهدأ .. بعد سنتين أحصل على المواطنة ، فأذهب في زيارة إلى الشرق أبحث عن أهلي..ولعل " دانا" ترافقني.. إنها فتاة طيبة أشعر أنها تتألم لي.. تخاف عليّ.. كنا نستغل يوم عطلتنا- يوم الأحد- في قضاء الوقت بخاصة فترتي الصباح والعصر قبل الغروب في المشي على ساحل البحيرات، والتجول في المنتزهات،بعض الأحيان نقصد السينما أو نقضي غالب النهار في مدينة الألعاب..

مقابل ذلك كان السيد وضاح يعدني – فيما إذا جرت الأمور على هذا المنوال- بحياة مرفهة.. ماذا غير أن أصبح صاحب محل مثله..أنتمي لبلد مثل الدنمارك.. ضرب مثلا لي بنفسه.. وقد أحسن يوم هجر الشرق والسياسة من دون رجعة ولم يبق في ذاكرته سوى بعض الحنين يجسده مواله المختصر ..كان يقول لي إننا لم نولد على هذه الأرض مهما تعلمنا هنا وعملنا فسيبقى فراغ بييننا والإسكندنافيين لكن أبناءنا الذين يولدون على هذه الأرض سيكونون من أهلها.حسن ويوهان اسكندنافيان..

وأنا سينتسب أبنائي لهذا البلد...

ومع كل رقته تلك فقد شعرت أنه يحاول أن يقرب بيني ودانا...

أو يبدو أنه في غاية السعادة لعلاقتي الخاصة بها..

بعد سنة أنهيت دورة اللغة.. وكان عملنا أنا و"دانا" في المطعم لايوفر لنا الراتب فقط ، وبعض وجبات الطعام، فغالبا ماكنت أتناول وجبيتي الغداء والعشاء أثناء العمل بل إن السيدة " شارلوته" التي أظهرت مودة كبيرة لي ولدانا بخاصة بعد أن اشتركنا في السكن.. راحت تلح علينا أن نأخذ مايكفينا من مما يفيض من طعام معنا إلى المنزل.

حتى جاء يوم ذكرني فيه السيد وضاح ببعض ملامح الشرق.. قلت: سوف أزور الشرق بعد أن أستقر وأصبح مواطنا.. أسأل عن أهلي كي يرتاح ضميري..وقد نسيت أن أذكر أني رأيت بعض الشرق يكتسح كوبنهاغن.. بمرور الوقت وطول الحرب.. وغليان الجبهة بين العراق وإيران ولبنان وإسرائيل بدأت تبرز كل يوم ملامح في كوبنهاغن تثير تساؤل الدنماركيين، شعيبي لم يعد وحده صاحب محل في شارع " نرو برو" فقد برزت هناك واجهة لمحل خضروات، وأخرى للصرافة، وثالثة لمحل صياغة.. صور تعددت لمستقبلي الجديد الذي ذكرني به السيد وضاح. ربما لا نستطيع أن ننسى لكننا نكابر فنتجاهل..هناك شيء ما يريد أن يقوله السيد وضاح.. أصبحت أعرف طريقته من خلال عشرتي له. زوجته كانت لطيفة معي ، وأصبحت أكثر لطفا حين سكنت مع " دانا"، أما هو فإني أستشف من غنائه الموجز المقتضب شيئا خفيا فأدرك أني مهما تجاهلت فلا بد أن تكون هناك حقيقة  تذكرني بالماضي سواء الناس الجدد الذين أراهم في الشارع أو وضاح نفسه.

هذه المرة ، من دونما دندنة، يكفي أنه جاء مبكرا قبل ساعة وطلب من " دانا" أن ترتاح ،ثم حمل معي كتلة الشاورما من القبو إلى الطابق العلوي.قال إنه جاء مبكرا  ليجهز طلبا للنادي الثقافي البولندي الذي يحتفل بذكراه السنوية..وحين فرغنا من رفع السيخ إلى قاعدته في الأعلى جنب النار، ووقفت ألتقط أنفاسي، حدج عن بعد " دانا" التي كانت مشغولة مع زبون بنظرة، وقال:

بان عليك التعب من عمل الليل.

فهززت كتفي كأني لم أكترث لقوله:

البارحة لم نعمل شيئا مما تفكر به.

سواء فعلت أم لم تفعل أظنك شعرت بالفرق بين حياتك السابقة وعيشتك الآن أليس كذلك؟

وقتها غاب عني أن السيد وضاح لابد أن يجد مدخلا مناسبا لأي موضوع جديد قلَّبه على عدة وجوه فضمن نتائجه سلفا:

بلا شك ذلك صحيح!

لكن إحذر ، مسألة الحمل..

دانا ليست قاصرا

لكن يا أخي يا أحمد يا ابني..ياصديقي العزيز  نحن شرقيون.. وإن عشنا هنا ربما من الناحية النفسية يصعب على أحدنا أن يكون له ولد يدعى ابن زنا حتى وإن كان المجتمع يقبل ذلك هو الشخص المعني حين يخلو إلى نفسه يجدها..

نحن نأكل اللحم غير المذبوح ،ونشرب الخمر،للمرة الأولى أكلت طعاما لم أسأل عنه، تجاهلت..وقبل أسبوع ترآى لي أن أجرب الخمر، أردت أن أعرف سره، رأيت الدنماركيين يتناولونها مع الوجبات، وعلى واجهات المحلات إعلانات وصور .. توبورغ.. كارلس بيرغ.. البيرة هنا ثقافة فلم أبتعد عنها.. في بلادنا يطلقون عليها كلها عرقا..لايدخلون في التفصيلات..سكران يتأرجح في الشارع.احتسى عرقا، البيرة عرق والويسكي عرق.النبيذ.. لافرق.. سألت وضاح قال: أنصحك أول مرة لاتشرب كثيرا قنينة بيرة تكفي…كأس نبيذ .. إذا شربت كثيرا تتقيأ.. جرب.. جرب كل شيء لكن لاتدمن.. دخلت يوم عطلةٍ فوتكس. تلفت كأني لص.. ثم ضحكت من نفسي.. لست من عائلة متدينة وأخي " صابر "الذي في الكويت يأتي دائما للبصرة.. ثم يعود ومعه قنينة ويسكي يخفيها في مكان ما بالسيارة.. إشرب قليلا على مهلك.. ولم يؤنبني ضميري للحرام.. مارست الحرام..أكلت لحما. شربت خمرا.. عشت مع صديقة.. ولم أفهم السر بعد:

هناك مسألة نفسية تخص الإنسان نفسه وإن كان لايعتقد بالله .. قضية أن يكون له ابن حرام..تلك مسألة متأصلة فينا وأظنك تتفق معي..

نعم " هززت رأسي وواصلت" أتفق معك لكن أنا متأكد أن " دانا" تتناول حبوب منع الحمل.

إفرض حدث خطأ ما..وهذا محتمل..

انصرفت أعدل مقياس اللهب ، وأمرر السكين على شرائح اللحم التي تساقطت في قعر الوعاء المعدني أسفل السيخ،وخطوت إلى كدس الفلافل..فعلت تلك الحركات كأني أمنح نفسي بعض الوقت للتفكير….أتأمل .. أرفض كلامه أو أقتنع:

كلامك صحيح مائة بالمائة.. العلاقة الرسمية أفضل غير أن معظم الدنماركيين إما  يعيشون علاقات صداقة أو حالات طلاق..

لعلمك المرأة الاسكندنافية لاتخون الرجل ولا تمله إذا لم يخنها أو يفكر بالانفصال، معظم الخيانات تأتي من الرجل،وأمامك مثل حي أنا وشارلوته.. تزوجنا منذ عام 1965

أول سنة وصلت إلى كوبنهاغن؟

قال متحمسا بالضبط بعد أربعة أشهر.

إذاً تقترح علي أن أتزوج " دانا" .

الأولى والأفضل لك لأنك معها تستطيع أن تبني مستقبلك.. إجمعا بعضا من راتبكما كل شهر بعد عقد ستصبحان صاحبي مشروع.. كشك.. محل بيع خضرة..مؤسسة صغيرة.. أو قد يتقدم بي العمر فأترك لكما المطعم وأتقاعد…

ثم سكت كأنه لم يكن بحاجة إلى رد مني..نزل إلى القبو..وتشاغلت عن العارضة الزجاجية بالنظر إلى باب مدينة الألعاب ثم سرعان مارحت ألف كتلة الشاورما على النار ، كانت الشمس تميل إلى الغروب، ومصابيح الشارع بدأت تلقى بلونها الشاحب الخفيف على الشارع، ومع حلول الظلام راح الزبائن يتقاطرون على المحل وقتها كنت أتلهى بالمشاهد المحيطة : باب مدينة الألعاب.. وهج النار والشاورما.. قطع البفتيك في العارضة..كعك الصباح.. قناني البيرة.. والعصير.. أخيرا.. قلت مع نفسي لم لا أجرب .أنتمي لعائلة..ذلك يقربني من أن أصبح مواطنا.. لي مثل بقية خلق الله أسرة..ترددت كلماته في ذهني طول اليوم، حلمت بصداقة فجاءني عرض زواج.. .. بيت..نعم...الزواج .. ليكن ذلك وقبل أن أغلق المحل وأنزل الباب الخارجي إلى المنتصف لأراجع الحسابات معه قلت له مذكرا ...

لقد فكرت بقولك الزواج أفضل!

لا تتعجل.. المهم عرفت أنك لا تمانع.دع الأمر لي..

قال ذلك،ولم أدرك وقتها أنه ينصب نفسه وصيا عليّ ليحدد مستقبلي وفق الصورة التي تدور في ذهنه.

 

د. قصي الشيخ عسكر

..................

حلقة من رواية: علاء الدين

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم