صحيفة المثقف

ماذا ننتظر من سياسات "دونالد ترامب"؟!

محمد العباسييقول "جاد الحق آغا" على موقع (أورينت نت): "كل ما زاد منصب الإنسان طُلِبَ منه أن يزيد انضباطه أكثر، فما يصدر من موظف عادي بدائرة ما، لا يُقبَل من رئيس دولة، فما بالك إن كان رئيس الدولة أشدهم رعونة وجنونا؟ وماذا تقول إن كانت هذه الدولة هي الولايات المتحدة الأمريكية!؟".

دعوني أعرج قليلاً قبل الحديث عن "دونالد ترامب" في دروب الذكريات لأذكر لكم لمحات عن "زعيم" عربي اشتهر في حياته الممتدة كرئيس لدولة عربية لم تزل تعاني حتى اليوم من تبعات سياساته وتراكمات شطحاته.. والذي في بعض "رعونة" أقواله وأفعاله الغريبة يبدو أنه كان يشترك في شخصيته النرجسية مع نرجسية الرئيس الأمريكي الحالي.. وربما يشتركان بشكل هزلي في صراحتهما المبطنة ووضوح سياستهما التي جعلتهما مثار سخرية وانتقادات لأنهما لم يلعبا لعبة السياسة كما يتقنها عتاة السياسيين المنافقين في إطار سياسة التلاعب بالكلام وإرضاء الخصوم.

فكما في السابق كنا ننتظر اجتماعات القمم العربية بفارغ الصبر فقط لنسمع ونرى آخر التصرفات الغريبة للعقيد الليبي "معمر القذافي" قائد "الجماهيرية الليبية الاشتراكية الديمقراطية العظمى"، ولم يخذلنا قط بتصرفاته "الشاذة"، أو ملابسه الأكثر غرابة، وجملة من اقتراحاته اللامنطقية، وإن كان في بعض منها نجد أنها لا تعدو كونها انتقادات مبطنة لأوضعنا وأحوالنا.. وكانت طلته جاذبة رغم أفعاله الجنونية وأقواله التي تنافي كل الاتفاقات والهموم العربية.. لكن تصرفاته كانت دائما مثار سخرية، وكانت سخريته من نفسه ومن الوضع العربي كثيراً ما كانت تلمس الجراح العربية.. و"القذافي" بأقواله وتصريحاته كان كمن يدعك الملح الصخري في شقوق جراحنا! فاليوم ننتظر بذات الشغف شطحات الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" لنضحك على بعض أقواله أو لتبث الرعب فينا أحياناً.

فـ"العقيد" كان تارة يخرج علينا بمقترح دولة مشتركة تجمع الفلسطينيين والإسرائيليين تحت اسم "إسراطين"، وتارة يبشر الزعماء العرب بنهاية تشبه نهاية الزعيم العربي "صدام حسين"، وتارة كان يصف السفاح الإسرائيلي "إرييل شارون" بأنه عميل للعرب.. إضافة لذوقه المتميز باختيار الأزياء الغريبة ومن خلفه سرية الحارسات الحسناوات.. لكن هذا الجنون لم يكن أبداً من النوع السلمي المحبب المسلي، بل هو جنون عظمة ديكتاتوري يخفي خلفه وجه إجرامي قمعي تشهد له مجازر "مصراتة" وعذابات ضحاياه في سجن "بو سليم".. واليوم نرى شخصية جديدة في عالم السياسة شبيه للـ"القذافي"، وقد استبدل تسريحة شعره المنكوش بشعر أصفر غريب، واستبدل لون بشرته ونمط أزيائه ليحكم "أمريكا" ويهز العالم من شرقه حتى غربه.. بوجه جديد ولغة جديدة، لكن من ذات نوع الصراخ والعويل والتهديد والتصريحات الرعناء!!

أنا شخصياً لست من محبي "دونالد ترامب" المراهق العجوز، لكنني تمنيت له الفوز ضد سيدة النفاق "هيلاري كلينتون".. فعلى الأقل، يتصف "ترامب" بصراحة تميّزه عن كافة الساسة الأمريكيين الموغلين باللعب "على الحبلين"، بالذات فيما يتعلق بالسياسات الخارجية.. "ترامب" يقول ما يشاء، لذا يطلعنا على نواياه وأفكاره وخططه وأحلامه دون مواربة.. والمفروض أننا كعرب أن ننتبه لفترة حكمه ونواكبه ونعد العدة مسبقاً لمواجهة كل التبعات المتوقعة من لذاعة أقواله ورعونة أفعاله قبل أن تقع الفأس في الرأس! فوز "ترامب" بالانتخابات الأمريكية كانت له دلالة واحدة فقط، أن العداوة والمحاربة للإسلام والمسلمين ستكون "جهاراً نهاراً" بشكل صريح دون المواربة خلف تصريحات ديبلوماسية، أو ابتسامات "هوليوودية" خبيثة.. فالرجل يمثل صوت اليمين المسيحي البروتستانتي المتطرف والسائد بين المجتمع الأمريكي، والذي يعبّر عن نفسه اليوم بكل وضوح ودون حرج.. وحتى أنني لم أستغرب من تصريحاته ضد دخول المسلمين إلى "أمريكا" واعتبرتها ردة فعل متوقعة بعد عدة هجمات قام بها بعض ممن ينتمون للمسلمين سواء كانت ضربات في قواعد عسكرية أو مجرد أفعال إرهابية وقعت في "لوس أنجيلوس" أو "فلوريدا".. فمن الطبيعي لرجل في صراحة "ترامب" أن يفصح عن مكنوناته وعن تخوفه من هؤلاء الأفراد المنتسبين للإسلام "إسماً" أن يخشاهم.. فمن منا اليوم لا يخشى "الدواعش" وأفعالهم الهمجية في العراق وسوريا وليبيا.. وهل سنسمح لهم أو لكل من يجاريهم في الفكر والفعل بدخول بلداننا طوعاً ونحن نشهد أفعالهم ونعلم بنواياهم وأفكارهم المارقة؟

و العجيب في تاريخ الزعامات الأمريكية أنها تبدو وكأنها مرتبة مسبقاً.. فوصول "باراك أوباما" مثلاً للبيت الأبيض قبل "ترامب" كان مخطط له أيضا، فهناك فيلم أمريكي بعنوان "Head of the State" من إنتاج سنة 2004 يحكي قصة وصول مواطن أمريكي أسود البشرة لمنصب رئيس الجمهورية، بما يعتبر تمهيد نفسي للمجتمع الأمريكي لتقبل الفكرة، تماما كمسلسل "ذا سيمبسونز" حين عرض في إحدى حلقاته عام 2000 وصول "ترامب" شخصياً وبالإسم والصورة لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. لكن علينا أن نتذكر أن تشبيه "ترامب" في جنون أقواله مع العقيد "القذافي" لا يعني أن كافة التصريحات للمرشحين للرئاسة أيام الانتخابات سترى النور بالضرورة بعد الوصول لسدة الحكم.. فالأمر ليس بيد الرئيس الواحد الأوحد كما هو الحال في أغلب دول العالم الثالث.. فالرئيس في دولة عظمى مثل "أمريكا" مقيد ومسيّر.. لا يتركون سيد البيت الأبيض يتصرف خارج الأعراف وكل سياساته محكومة بخطط عامة وعبر مستشارين وقرارات حزبية ومن خلال الوسائل المتفق عليها لتحقيق السياسة التي تخطها مراكز الدراسات والشركات العملاقة واللوبيات المؤثرة.. هذه السياسة غاية في الانضباط وقمة في التخطيط، وتستطيع وضع مخططات لسنوات وتقوم بتنفيذها بدقة. فـ "أوباما" مثلاً وعد كثيراً وألقى خطباً عصماء نال بعدها جائزة "نوبل للسلام"، لكنه لم يفي ولو بجزء يسير مما وعد!

نعم وبالفعل، يذكرنا "ترامب" في غوغائيته أحياناً بشخصية صدامية مثل "القذافي"، غير أنه لا يتصرف مثله لأنه يتحدث من مركز قوة، أو كما نتوقع، بعد استلامه مقاليد الحكم في أقوى دولة على وجه الأرض.. فالمؤسسات المتحكمة بالحكم في "أمريكا" لها مصالح وخطط خمسينية، إن لم تكن ألفية، ولن تسمح لا لـ "ترامب" ولا لغيره بالتصرف بديكتاتورية الزعيم المتسلط الأوحد.. ولن تدعم أية خطط قد تدمر عهود من المخططات والدراسات المخابراتية والماسونية والصهيونية المتوغلة والمتغولة في السياسات العامة للولايات المتحدة في "أمريكا" وفي العالم أجمع! وقد شهدنا في مواقف عدة كيف يترنح "ترامب" بين أقواله المتضاربة.. ففي كل محفل يقول ما يناسب الجمهور أمامه.. ففي خطبته أمام مجموعة اللوبي اليهودي "آيباك" يبدى تأييداً تاماً لإسرائيل والمستوطنات ويتعهد بالدعم والسند لهذا الكيان الغاصب، ولا يتطرق كمن سبقه من الرؤساء بشأن موضوع السلام العادل في الشرق الأوسط.. وكانت هذه صراحة متوقعة من رجل أعمال يعلم كيف تحتل الجماعات اليهودية الأمريكية قمة الهرم الاجتماعي والمالي الأمريكي، حيث يشكلون 34% من بين أغنى 475 عائلة أمريكية، يسيطرون على كبريات الشركات الصناعية والتجارية والمالية، التي تجد طريقها إلى مراكز صنع القرار السياسي.. وربما هنا بالذات يظهر وجه "ترامب" السياسي البحت.. ولو كان في "أمريكا" أي كيان أو وزن للوبي عربي مؤثر لسمعناه يتودد لنا بشكل أو بآخر.. غير أنه ولضعف المجموعات العربية والإسلامية، لا يضطر لذلك ولا يتودد لنا إلا في شئون تدر على الولايات المتحدة المليارات في صفقات تجارية بحتة.

وهكذا نجد "ترامب" يتقلب فيما يتعلق بالعراق مثلاً، فليس له مواقف واضحة رغم أنه سبق له أن انتقد الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 معتبراً أنه ساهم في حالة عدم الاستقرار والفوضى في الشرق الأوسط. لكن في مقابلة سابقة تعود لسنة 2002 كان يؤيد الحرب في العراق. وفي نفس الوقت عبر مرات عدة عن حسرته لرحيل "صدام حسين" عن السلطة مشيراً إلى وجود رابط بين سقوطه ونشوب الأعمال الإرهابية في العراق. أما حالياً فإنه ينتقد السياسة الخارجية في "العراق" ويؤكد أنه سيتعاون بشكل أكبر مع الأكراد، كما صرح بأنه لن يكون هناك أحد أشد بطشاً بـ "داعش" مثله.. ونكاد نشهد نهاية الدواعش في فترته الرئاسية الأولى.

وكما كانت فكرة "القذافي" بشأن "النهر الصناعي العظيم" في "ليبيا" في 1983، فـ"ترامب" لا يزال يتوعد ببناء جدار فاصل على الحدود الأمريكية-المكسيكية يبلغ طول كل لوح خرساني منه حوالي 20 قدماً وما بين 5 و10 أقدام تحت الأرض، على أن يتم ربطه بالحديد. وقدّر المهندسون المدنيون أن بناء الجدار عبر الألواح الخرسانية سيكلف حوالى 39 مليون قدم مكعبة من الخرسانة، وحوالى مليونين و267 ألف طن من الحديد المسلح. وقد قال "ترامب": "عندما ترسل إلينا المكسيك أبناءها لا ترسل أفضل الناس. أنهم يرسلون الذين يطرحون المشكلات وينقلون معهم المخدرات والجريمة. انهم مغتصبون". وأضاف: "سأبني جداراً عالياً على حدودنا الجنوبية وستدفع "المكسيك" كلفة بنائه. اذكروا ذلك جيداً".. ثم في موقف لاحق وصف المكسيكيين بأنهم شعب رائع في محاولة لاستدراك تعليقاته السابقة المثيرة للجدل، حيث وصفهم فيها بأنهم "مغتصبون وقتلة". (مجلة "الحياة" الإلكترونية 2016)

و الغريب بشأن "ترامب" أنه حظى بأصوات الكثيرين من الجاليات المكسيكية والأمريكيين من أصول أفريقية وحتى من الجاليات العربية والمسلمة، رغم أنه كثيراً ما نعتهم بأوصاف مشينة قاسية.. بل وحظي حتى بأصوات النساء رغم بعض ألفاظه المهينة تجاههن في أكثر من موقف! وبالنسبة للنساء، فقد اشتهر "ترامب" برعايته لمسابقات ملكات الجمال، بل تزوج منهن ثلاث مرات، آخرهن زوجته الحالية وهي مهاجرة أوكرانية وقد أصبحت هذه المهاجرة السيدة الأولى للولايات المتحدة، رغم انتقاداته اللاذعة للمهاجرين بشكل عام. وربما يلتقي هنا مع "القذافي" حيث كان العقيد يحيط نفسه بمجموعة من النساء الجميلات كحارسات لشخصه من أي سوء!!

"ترامب" بحق يمثل جملة من المتناقضات والأفعال والأقوال الغريبة، بل ويبدي إعجابه بالقيصر الروسي الجديد "بوتين"، ولا ينكر أنه تعامل مع "القذافي" فيما سبق وكيف أنه جنى أموالاً كثيرة عبر تعاملاته التجارية مع "القذافي".. بل وقال أيضاً أنه لو بقي نظاما "صدام حسين" في العراق و"معمر القذافي" في ليبيا، لكان العالم اليوم أقل تفتتاً وأكثر استقراراً. أما في سوريا، فـ "ترامب" يؤمن بأن نظام "بشار الأسد" يحارب الإرهابيين ولا يبدو أنه يعي ماذا يجري حقاً في "سوريا" ومن هم الضحايا الفعليين للبراميل والصواريخ والمجازر.. ويجهل بشكل مخيف تداعيات التدخل الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وفي أكثر من موقع، منذ زمن تحت شعار تصدير الثورة وهكذا شعارات .

لقد أصبح "ترامب" واقعاً ولكل أفعاله وسياساته الخارجية تداعيات تلمسنا نحن العرب وتفتك بآملنا التاريخية في إحلال سلام عادل في الشرق الأوسط.. وقد نجح بعقليته التجارية كما وعد بجني المليارات من خزائننا العربية ولم يزل يطمع في المزيد دون أن يمنحنا في مقابل كل ذلك شيئاً كثيراً.. ونقل سفارته إلى القدس كما وعد، رغم أن ذلك الوعد لم يكن جديداً من كافة الزعماء السابقين، لكنه نفذ الوعد رغم أنف العرب.. ويكاد يكرر مقولة القذافي في خلق دولة "إسراطين" وأن يسمح لهذه الدولة الهجينة بالتوسع والتوغل في الشرق الأوسط دون رادع بعذر أنها الدولة الديمقراطية الوحيد في المنطقة.. ويكاد يكون محقاً في ذلك ونحن لم نزل نعاني من التشتت والحروب والنزاعات التي تفتت كياناتنا، وتستمر في بعض دولنا التي تتسمى بالجمهوريات وتدعّي حرية الانتخابات اعتصامات واحتجاجات ضد زعماء طالت زعاماتهم، كما الحال حتى اليوم في الجزائر والسودان وسوريا.

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم