صحيفة المثقف

المجتمع يُعَنّف نفسه.. جدلية التحول القيمي بين الضعف والقوة

رائد عبيسعم المجتمع قحط قيمي منتظم، فتساقط الناس عطشى وصرعى، وهم يطالبون بالرغيف أيضا ويتساقطون موتى من الجوع، فبدأ نصف ميتهم يأكل نصف حيهم،بلا عتاب أو عقاب أو كتاب، وبلا تقديم معذرة أو إلتماس عند مقدرة أو وعد عند مقبرة أو لقاء في آخرة ! كل هذا ولا رجاء من رخاء أو أخاء أو براء. لم يعد للبراء وجود في عالم بدأ يلوث نفسه،بدأ ينزل إلى وحل الخرف والتلف المنظم للمنظومة القيمية التي الفنا انهيارها، ونحن نكتفي بالشهادة على ذلك!!

هناك ثلاثة مجالات يتحقق بها عنف المجتمع المنظم لنفسه، ولعل من أبرز هذه المجالات هي الأسرة والسياسة والدين، مع كثرة وسائل التعنيف القاتلة والمخيفة والخطيرة بل والمؤسفة جدا.

أول هذه الثلاثة،هي العنف الأسري الذي بدأ يتفاقم في مجتمعنا الى حد كبير، نتيجة انعدام قيم المعاشرة بين الازواج، أو بين الآباء والابناء، ولعل مرجع ذلك إلى عوامل عدة أبرزها اقتصادية،اذا بدأ يضيق كل منهم بالآخر نتيجة متطلبات الحياة،لا سيما مع النساء والبنات في العوائل، أو حتى مع الابناء العاطلين عن العمل، فالأحداث الملة التي مرت على العراقيين من ظروف حرب وصراعات سياسية او اجتماعية وبطالة، فضلاً عن عناصر الانفتاح التي تجعل من كل فرد بالعائلة يطمح بعيدا عن حاجيات الأسرة ومستوى دخلها، بل وحتى تقاليدها إزاء هذه المسائل التي نقلتها الحداثة والعولمة، وكذلك تنامي الوعي السلبي بقيم الانفتاح الذي فهم بشكل خاطئ، زادت من كاهل الأسر ومشاكلهم، فنرى في العوائل حدوث مشاكل كبيرة من قبيل تقبل تعاطي المخدرات بأنواعها، أو الرغبة بإعلان الشذوذ، أو الانحراف واعتياده، بل وامتهانه عند كثيرين من أفراد المجتمع،فالأرقام المتصاعدة بهذه المشاكل مخيفة و مزلزلة فعلاً، اذ ترتب على إشاعة مثل هذه المشاكل بين العوائل، حدوث جرائم الزنى بالمحارم، والافعال الأسرية الشاذة من قبل العقوق أو غيرها، فوسائل التعنيف باتت متنوعة ومختلفة ومتشكلة بحسب بيئة العوائل ومحيطها، ومدى انفتاحها وحدود نشاطها، وقدرتها في معالجتها، قبل أن تصبح ظاهرة في المجتمع،فالحادثة الواحدة في العائلة أو الأسرة الواحدة ممكن أن تُقلد أو تنتقل عدواها بين أفراد المجتمع حتى تصبح ظاهرة، كظاهرة تعنيف النساء للرجال وتحول ضعفهن إلى قوة بسبب قسوة المجتمع،بل وتسخير قوة الغضب النفسي والعنف إلى قوة بدنية يترتب عليها فعل وسلوك عدائي عضلي اتجاه الرجل الزوج أو الابناء. وكذلك الرجل أتجاه المرأة أو الابناء بحق بعضهم بعض، والحالات مثل هذه بدأت تتزايد بشكل لافت حتى أن الدولة انشأت ما يعرف بمراكز العنف الأسري، او محاولة تشريع قانون من قبل البرلمان بذلك، وهذا كله يعد اعترافاً واضحاً بحجم الظاهرة وتجذرها في المجتمع.

ثانيها العنف السياسي،الأمراض الاجتماعية المختلفة سرعان ما تتحول وتنتقل إلى الفعل السياسي الذي يعد أهم نتاج المجتمع، فالعنف الأسري ينتقل كفعل ممارسة الى المجتمع، ومن ثم إلى إنتاج سياسة، تحمل اسقاطات الطفولة وقسوة المجتمع، والاحتقان الذي يُنفس به بشذوذ الممارسة السياسية، وما يترتب عليها من اخطاء ونتائج تأتي كفعل تأسيس الى أخلاقيات سياسية شاذة في المجتمع، تحمل معها ابتعاد عن قيم الدين، والمجتمع، والإنسانية،مثل ظاهرة الاصطفافات السياسية على حساب الحق العام والعدالة المجتمعية، من محسوبية و منسوبية وتغالب سياسي بين أطراف الصراع السياسي الحزبي الذي هو الآخر غير بريء من تلك الأمراض وجذورها، فالعنف السياسي يتبلور من تلك الأسس المجتمعية فضلا عن برامج العنف السياسي المبرمج من قبل الأحزاب وسياستها اتجاه المجتمع، بأفعال التصفية، أو الاعتقال، أو التضييق، أو المنافسة غيرة العادلة، في كل مجالات الحياة بما فيها ارزاق الناس وما يتعلق بمعايشهم.

ثالثها العنف الديني، وهو يمثل كل ما تقدم من عنف أسري وعنف سياسي فيما لو فُعل مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو فُعل أمر الحاكمية الدينية،او فُعل أمر المحاكم الشرعية أو إظهار وإشاعة أمر التنابذ، والتقاذف، أو الشتم، أو الاتهام، أو التضييق، أو المحاربة، أو المنافسة، أو المزاحمة، أو التسقيط، أو التشكيك، أو التكفير، أو التفسيق، أو التنكيل، أو الحرمان، أو التخوين، وإلى آخره من أفعال العنف الذي ممكن أن يمارس بحق الخصم أو العدو. كل أشكال العنف ممكن أن تظهر في افعال النفس البشرية المتبنية لها وفي أي قضية كانت ممكن أن تراها جوهرية في فحواها ومدلولها. فالوهم العنفي المتخيل من جراء تلك التصورات سواء كان منها ما يتعلق بعنف الطفولة، أو عقدة أوديب، أو القمع السياسي، أو التعنيف الديني - المبني على أساس اللوم، أو التهديد بالعذاب، أو العقاب، أو ترسيخ فكرة الانتقام، والقصاص أو فرض العقيدة وتطبيق ما فهم من أحكامها بعنف وشدة يحدث ردت فعل تجاه قبول النصحية، أو الاستماع لها، أو الانصات الى الموعظة، أو تقبل الحقيقة بدون عناد أو تعنت أو رفض غير موضوعي لها -

ينتج عنف اجتماعي متوارث ومستحدث ومتجدد، تبعا لعوامل واسباب ظهوره وتناميه في المجتمع، الذي يرتد بها الى ذاته ليعنفها حزناً وكآبة ويأس وضجر من الواقع الذي يعيشه، فيميل الى تعنيف ذاته انتقاماً من نفسه التي هي في الواقع مشتركة بينه وبين الآخرين، وهذا ما ذكر في الآية القرآنية (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) مريم 21.فاصل العنف الاجتماعي أو اصل عقوبة المجتمع لنفسه، متأتي من عقوبة الفرد لنفسه الذي يتحول الى عقوبة جماعية، ومن ثم يتحول إلى ظاهرة مجتمعية، فنجد عندها بأن المجتمع يعاقب نفسه بنفسه، أو يهمل نفسه بنفسه، لسوء إدارته لنفسه، وسوء إدارته لإرادته التي عادة ما تنتج له ما يترشح من نفسه، سواء كان بأسرة مفككة أو معنفة، أو نظام سياسي أو طبقة سياسية بائسة وفاشلة، أو يرتد الى تزمت ديني، و تمسك بمسائل دينية أكثر تشددا.

 وهذا ما يحول الضعف إلى قوة، عند من يكون بهم الضعف والاستسلام جزء من كمالهم وامتثال طاعتهم، كطاعة الزوجة لزوجها، أو الابناء الى الآباء، وهذا ينتهي إلى علاقة سوية وقوية، يكن بها المجتمع متصالح مع نفسه، ميال الى السلم والمدنية، بعيدا عن لغة السلاح والتهديد الذي يمثل قمة العنف والشروع به بين أفراد المجتمع كافة.

فتحول الضعف الى قوة شاذة،قد شهدناه في عنف المرأة تجاه زوجها أو أتجاه المجتمع،وذلك بمشاركتها بجرائم مثل القتل او الخطف او الاتجار بالبشر او التجارة بالممنوعات وغيرها، وكذلك شهدناه بممارسة الأطفال لأعمال العنف مثل حمل السلاح أو التهديد أو المشاركة بالجرائم وغيرها،وهذا يعني أن المجتمع الذي يحول عناصره وشرائحه الضعيفة بمكانتها لا ضعيفة بعضلاتها او ضعف شخصيتها - ليس بهذا المعنى ولكن نقصد بالضعف المقترن بالمكانة قياساً مع مكانة الرجل وقوته بمواجهة المجتمع والمصاعب الحياتية- إلى مصدر قوة عنفية فهو مجتمع يفتقر إلى كل تأثير لمنظوماته العقائدية والأخلاقية والقيمية والأعراف الاجتماعية العربية التي لها الشأن في تحقيق توازن قيمي يتحرر به من عنفه لنفسه.

 

الدكتور رائد عبيس

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم