صحيفة المثقف

الرومي نبي العاشقين

احمد الكنانيعادة ما يصدَر المؤلفون كتبهم بمقدمات ممهدة لمحتويات المؤلَف تكون بمثابة البوابة والمفتاح لموضوعات الكتاب بالإضافة الى العنوان الدَال على المعنون، و كذلك فهرست المحتويات الموصل الى المعلومة بطريقة اسرع، إضافة الى أمور أخرى تكفلت بها مناهج البحث والتحقيق الحديثة .

لكن وانت امام ديوان شعر على درجة كبيرة من الأهمية كمثنوي جلال الدين الرومي تستوقفك المقدمة قبل ذي المقدمة، لأنها كتبت لذاتها لا لبيان محتويات الديوان، كتبت للاٍشادة بالكتاب والهدف من وراءه، فالمقدمات ذاك الزمان تكتب قبل إتمام الكتاب وليس بعده كما هو الحال في المقدمات الحديثة؛ ليكون المؤلِف على احاطة بما ورد في الكتاب ليمهد له بمقدمة، وانما تكتب المقدمة بمعزل عن الكتاب نفسه، وربما تحتوي المقدمة على اسرار ونفائس لا تجدها في الكتاب نفسه، وخير مثال يصح الاستشهاد به هو مقدمة ابن خلدون التي كتبها مؤلفها للتمهيد لكتابه "العِبر في أيام العرب والعجم والبربر" المعروف ب "تاريخ ابن خلدون" اذ أصبحت المقدمة اشهر من الكتاب نفسه، حيث أورد فيها من الكنوز ما لم يرد في التاريخ نفسه، حتى انها اعتمدت من قبل الباحثين كمؤلف منفصل ذي طابع موسوعي، فكانت مشتملة على ميادين معرفية جمة من تاريخ وشريعة واقتصاد وجغرافيا وعمران وسياسة ...

والاهم من كل ذلك تحدثت مقدمة ابن خلدون عن أحوال الناس، واختلافات البيئة، وأثرها في الإنسان، وتناولت نشوء الدولة، وتطوّر الشعوب والأمم، وأسباب انهيارها، وهي موضوعات لم يسبق لاحد الحديث عنها من قبل، وتوصل ابن خلدون الى نتائج مبهرة تتلخص في ان المجتمعات البشرية تمضي وفق قوانين محددة يمكن تطبيقها على المجتمعات التي تعيش في مختلف الأزمنة، وأشار إلى أنّ علم العمران لا يتأثر بالحوادث الفردية، بل بالمجتمعات ككلّ، وكذلك نظرية العصبيّة وقوانين العمران، ومراحل تطور الدولة وأسباب انهيارها، الامر الذي جعل ابن خلدون ومن خلال مقدمته المؤسس لعلم الاجتماع .

و على هذا الأساس يستحسن دراسة مقدمة المثنوي بمعزل عن المثنوي نفسه، نعم هي ليست بأهم منه؛ لكنها تحتوي على نقاط بالغة الأهمية مرَت الإشارة الى بعض منها والبعض الآخر آت ...

في السطر الأول من المقدمة يقول الرومي: "هذا كتاب المثنوي وهو أصول أصول أصول الدين في كشف اسرار الوصول واليقين ..."

تكرار الأصول ثلاث مرات من شاعر هو الأعظم في التاريخ ليس للمبالغة في المعنى ولا هو توكيد لفظي للأصول، ولا حتى تفننا في العبارة فيكرر اللفظة لكن بمعان مختلفة، وانما هي إشارة الى الاصلين اللذين يبتنى عليهما الدين وهما أصول الدين واصول الفقه .

الأولى هي ركائز العقيدة الدينية

والثانية قواعد استنباط الشريعة .

والمولوي قد خبر الاصلين كليهما بعد ان كان متكلما اصوليا فقيها ثم لم يعد يتذوقهما ولم يعد يذعن انهما أصول ذاك الدين الذي سكنت اليه نفسه وسمت روحه، فصار المثنوي هو قمة ما يمكن الوصول اليه، وبقية الأصول التي قيل انها موصلة هي ليست كذلك .

المولوي الخطيب المتفوه والمتكلم المعلَم لأصول الدين من توحيد ونبوة ومعاد، صار يرى الوجود لله وحده ولا شيء سواه، ويخاطب من يبحث ويناقش في وجود الله ان مسيرك مرجعه ومآله اليك :

آنان که طلبکارِ خدایید! خدایید

حاجت به طلب نیست،شمایید،شمایید

چیزی که نکردید گم، از بهر چه جوئید؟

کس غیر شما نیست، کجائید، کجائید؟

در خانه نشینید و مگردید به هر در

زیرا که شما خانه وهم خانه خدایید

ذاتید وصفایید گهی عرش و گهی فرش

در عین بقایید ومبرا زفنایید

 

يخاطب مولانا المتكلمين واهل العقائد والطالبين معرفة الله : الحاجة لهذا الطلب لا داعي لها هي عبثية محضة، فالله الذي تطلب معرفته هو انت انت، ولا يوجد غيرك فعن ماذا تبحث؟ كن جليس البيت فهو بيت الله .

تلك هي نقطة التحول التي حدثت لمولانا جلال الدين بعد ان كان فقيها واعظا عالما بأصول الدين والفقه وبعد لقاءه بشمس وتعرَضه لهزة عنيفة في الأعماق جعلته يسدل الستار على خزينه من العلوم الدينية التي لم ترثه سوى الشك والظنون، ويفتح قلبه لنوع اخر من العلوم اعتبرها هي أصول الدين الحقيقية وهي الموصلة الى اليقين .

اصبح مولانا نبي العاشقين إيجابيا في عشقه، ولو أجاب الطرف الآخر بالنفي لن ينال منه اليأس شيئا ولم يأخذ منه مأخذا، ولم يدع للغفران وانهم لا يعلمون، بل يخرج الاثبات من ذاك النفي، ويجعل من علقم النفي مذاق العسل .

ان قلتي ني ... سأكسر الناي واستخرج منه السكر :

آمده‌ام که سر نهم

عشق تو را به سر برم

ور تو بگوییم که

نی نی شکنم شکر برم

لا ابالغ في الدعوى ان قلت ان الصورة البلاغية التي رسمها مولانا في هذين البيتين لم اجد مثيلا لها من بين الصور الشعرية المتكثرة في سماء البلاغة، التلاعب اللفظي واستخراج صورة بلاغية يتيمة في دنيا الادب هو مافعله الرومي في هذين البيتين، صورة هي قمة بلاغية سامقة في استخراج الاثبات من النفي، التلاعب هنا يأتي من التقارب اللفظي بين ني النافية التي تعني لا بالعربية، وبين ناي الالة الموسيقية المصنوعة من قصب السكر ...

يقول الرومي لمعشوقته :

جئت لاًبدي واظهر عشقي فأن اجبتي : ب ني

سأكسر هذه الناي واستخرج منها السكر

بگوییم که نی نی شکنم شکر برم

الني الأولى هي لا النافية

والني الثانية هي الناي

المولوي لم يتوقف عن التذكير بمرحلة كونه عالما دينيا وان تلك العلوم لا تقدم ولا تؤخر في سمو الانسان بل على العكس توهم متلقيه وتجعله اكثر جدلا وتحصننا من الرضوخ الى المنطق والدليل، طرق المحاجة الارسطية توصل طالبها الى اثبات الباطل و أستيقانه، الاحكام تابعة لموضوعاتها تحقق أرباحا للفقيه بتحويلها لموضوع الرشوة والفساد المالي الى هدايا وعطايا يحكم باستحبابها اتَباعا للسنة، التورية تصيَر الفقيه كاذبا اشرا، الحيَل الشرعية تخلق رجال دجل لا رجال دين ...

وفي المثنوي تجده هنا وهناك دائم التعريض بالفقهاء وعلومهم وكان يسميه بفقه الاستنجاء، الاستنجاء طريقة التنظيف في بيت الخلاء، ويتمسخر بالاحكام المذكورة في باب النجاسات والطهارات ...، ستاتي إشارات لبعض ابياته في هذا الاطار كقصة الاعرابي وحمله الثقيل، وذاك الصياد الذي يرمي سهمه بعيدا عن الهدف ...

 

احمد الكناني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم